2025.09.30
عاجل :



من الخطاب إلى الفعل.. الجزائر تترجم توجهها الإفريقي بصفقات استراتيجية متنوّعة تقارير

من الخطاب إلى الفعل.. الجزائر تترجم توجهها الإفريقي بصفقات استراتيجية متنوّعة


محمد بوسلامة
16 سبتمبر 2025

تحول معرض التجارة البينية الإفريقية في طبعته الرابعة إلى منصة غير مسبوقة لنسج شبكة واسعة من العقود الاقتصادية بين الجزائر وعدد معتبر من الدول الإفريقية.

فقد استطاعت عشرات المؤسسات الوطنية، من القطاعين العمومي والخاص، أن تترجم مشاركتها إلى صفقات واتفاقيات تصدير غطت قطاعات متعددة، بدءًا من الصناعات الإلكترونية، مرورا بالميكانيكية والغذائية والدوائية، وصولا إلى السياحة والخدمات اللوجستية.

صفقات ضخمة تعكس تنوع القطاعات المشاركة

هذه العقود، التي بلغت قيمتها مئات ملايين الدولارات، اعتبرها مراقبون دليل على انتقال الجزائر من مجرد خطاب حول التوجه نحو القارة إلى محاولة حقيقية لتجسيد هذا التوجه على أرض الواقع.

غير أن هذه الخطوة، على أهميتها، تبقى مجرد بداية تحتاج إلى متابعة دقيقة حتى لا تنتهي في خانة المشاريع غير المنجزة.

وقد تميزت هذه الدورة من المعرض بتنوع في نوعية الاتفاقيات وقيمتها المالية، ففي قطاع الإلكترونيات، تمكن مجمع "جيون إلكترونيكس" من توقيع عقود تصدير مع مؤسسات من النيجر وتنزانيا وزيمبابوي بلغت قيمتها 11 مليون دولار.

بينما أبرمت شركة "أريس" اتفاقيات لتسويق منتجاتها من الأحذية إلى السوقين التنزاني والزيمبابوي بقيمة 10 ملايين دولار.

أما في مجال النقل البحري، فقد دخلت مؤسسة "غاتما" العمومية في شراكة مع شركة "تيري" الموريتانية بقيمة 6 ملايين دولار لتسويق 50 ألف طن من الإسمنت الجزائري.

الصناعات الميكانيكية والقطاعات الناشئة في الواجهة

ولم تكن الصناعات الميكانيكية أقل حضورا، حيث تمكن مجمع AGM من توقيع خمسة عقود لتصدير العتاد الفلاحي تجاوزت قيمتها 40 مليون دولار، واستهدفت أسواقا متنوعة من بينها تونس وموريتانيا ونيجيريا وتنزانيا والسنغال وإثيوبيا.

وحتى القطاعات الناشئة وجدت لنفسها مكانا في هذا الحراك، إذ وقعت المؤسسة الناشئة "فنك بوكينغ" اتفاقيتين مع شركتين من جنوب إفريقيا ونيجيريا بقيمة 1.5 مليون دولار.

التكامل الصناعي بدل التبادل التقليدي

كما شهد المعرض عقودا أخرى في مجالات الأسمدة والصناعات الصيدلانية والنسيج والمناولة الصناعية، لاسيما في قطاع السيارات عبر تعاون "شيري الجزائر" مع شركتي "أنابيب" و"سيرتا أوتوموتيف".

 وكان من أبرز ما أفرزه الحدث توقيع مجمع "أغرولوغ" الجزائري اتفاقية كبرى مع "أبارسي" الأوغندي بقيمة 200 مليون دولار، تستهدف تحويل الكاكاو والقهوة إلى منتجات نصف مصنعة وكبسولات، في خطوة تعكس توجها جديدا نحو التكامل الصناعي بدل الاكتفاء بالتبادل التجاري التقليدي.

وفي قراءة لهذه التطورات، يرى الخبير الاقتصادي فارس مسدور، في تصريح لموقع الأيام نيوز، أن هذه النتائج قادرة على إحداث ديناميكية غير عادية للاقتصاد الجزائري، خاصة وأن البلاد مقبلة على فتح مناطق حرة موجهة أساسا للقارة الإفريقية.

 لكنه في المقابل دعا إلى الحذر من الإفراط في التفاؤل، مؤكدا أن الاتفاقيات تظل مجرد وثائق ما لم تُترجم إلى مشاريع واقعية ذات أثر ملموس.

زليكاف… سياق إقليمي يفرض تحديات إضافية

لفهم أهمية ما جرى خلال المعرض، لا بد من وضعه في إطار أوسع يتعلق بمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (زليكاف)، التي دخلت حيز التنفيذ في جانفي 2021.

هذا التكتل يوصف بالأكبر عالميا من حيث عدد الدول الأعضاء (54 دولة) وحجم السكان الذي يتجاوز 1.3 مليار نسمة، وناتج إجمالي يفوق 3.4 تريليون دولار. ورغم هذا الزخم، فإن المبادلات التجارية البينية في إفريقيا لا تتجاوز 15% من إجمالي التجارة القارية، وهو رقم ضئيل مقارنة مع حجم المبادلات القارية في قارات العالم المختلفة.

أما الجزائر، فلا تزال حصتها محدودة، إذ بلغت 2.2% فقط سنة 2024، أي نحو 4.6 مليار دولار، بعدما ارتفعت قليلا من 1.9% في 2022. والأهم من ذلك أن هذه الصادرات تعتمد في غالبيتها الساحقة على المحروقات، بنسبة تفوق 90%، فيما يظل حضور المنتجات الصناعية والغذائية والدوائية محدودا للغاية.

واقعية الأهداف وحجم المخاطر

في هذا السياق، يعتبر مسدور أن الأرقام المعلنة من قبل السلطات الرسمية حول إمكانية رفع المبادلات إلى 44 مليار دولار تبقى صعبة التحقيق في الأمد القريب، وربما تحتاج إلى عقد كامل من الزمن.

 ويضيف أن سقف المبادلات في المرحلة الحالية لن يتجاوز خمسة أو 6 مليارات دولار، مشيرا إلى أن الأسواق الإفريقية محفوفة بالمخاطر، سواء من حيث صعوبات الدفع أو ضعف الالتزامات المالية أو حتى احتمالات الاحتيال.

البنية التحتية شرط لنجاح الطموح

ويربط مسدور نجاح هذا التوجه بمدى قدرة الجزائر على توفير بنية تحتية متكاملة، معتبرا أن الحديث عن مناطق حرة لا يعني إلغاء الرسوم الجمركية فحسب، بل يستدعي إقامة فضاءات اقتصادية حقيقية بإعفاءات ضريبية مدروسة وبيئة شفافة لإدارة الاستثمارات.

وهو ما يجعل مشاريع الطريق العابر للصحراء نحو نيجيريا، وخطوط السكك الحديدية المتجهة إلى مالي والنيجر، إضافة إلى تطوير النقل البحري والجوي، عناصر أساسية لضمان نجاعة هذه الاتفاقيات.

بين الطموح والاختبار: فرصة تاريخية للجزائر

ويذهب مسدور إلى أبعد من ذلك عندما يشدد على أن الجزائر بحاجة إلى رؤية واقعية في تعاملها مع القارة، تقوم على التركيز في البداية على تلبية الاحتياجات البسيطة للدول الإفريقية من غذاء ودواء، بدل الانخراط في مشاريع عملاقة قد لا تتلاءم مع المرحلة الراهنة.

كما يشدد على أن الشفافية ومكافحة الفساد داخل الجزائر وفي التعاملات مع بعض الشركاء الأفارقة تبقى شرطا جوهريا لتجسيد هذا الطموح.

إن ما تحقق في معرض التجارة البينية الإفريقية يشكل بلا شك بداية واعدة، لكنه ليس نهاية الطريق. فالجزائر تقف اليوم أمام اختبار حقيقي، إما أن تستثمر هذه الاتفاقيات لتتحول إلى لاعب محوري في الاقتصاد الإفريقي، وإما أن تتركها تنزلق إلى خانة الشعارات.

وختم مسدور بقوله: لا بأس أن نحلم، لكن الحلم يحتاج إلى إمكانات حقيقية حتى يُجسّد على أرض الواقع". وبين الطموح والاختبار، تمتلك الجزائر فرصة تاريخية لإعادة التموضع داخل قارتها، شرط أن ترافق الأقوال أفعال مدروسة وخطط تنفيذية قابلة للتطبيق.