في الملتقى الرابع للتعرّف على الفكر الإسلامي، الذي احتضنته مدينة قسنطينة في شهر أوت 1970، ألقى الدكتور "أحمد طالب الإبراهيمي" محاضرة حول دور الشباب في حياة الأمة، وتعيد جريدة "الأيام نيوز" نشرها لقيمتها الفكرية وارتباطها بفصلٍ من نضال "أحمد طالب" في استنهاض الشباب من خلال جريدة "الشاب المسلم" التي كان له فضل إصدارها في باريس عام 1952 وتوقفت بعد عامين، وجمعت نخبة من المفكرين الجزائريين: مالك بن نبي، عبد العزيز خالدي، محمد الشريف السّاحلي، محمد أعراب..
الشباب مقياس تقدّم الأمم أو انحطاطها
إن الشباب في كل أمّة من الأمم، عنوانٌ صادق على ما تبلغه تلك الأمّة من تقدّم أو انحطاط، وإذا أردنا أن نصدِر حكمًا على أمّة مهما كان ماضيها وحاضرها، هل هي جديرة بالرقى والصعود، والبقاء والخلود، أم هي جديرة بالخمود والجمود، والاضمحلال، والزوال؟ فإنما ننظر إلى ما فيها من شباب، وما يقومون به من أعمال، فإذا كان شبابها من الطامحين العاملين على ما يرسي بنيانها، ويرفع شأنها، فإنها باقية ما اتّسمت بتلك السّمات، وهبّت عليها تلك النّفحات، وإذا كان شبابها من المتواكلين القانعين فهي أمّة تنتظر الساعة وما أدراك ما الساعة، وهي ساعة تودّع فيها الحياة إلى حيث لا رجعة.

أمة لا شباب لها.. أمة لا مستقبل لها
فالأمة التي لا شباب لها، لا مستقبل لها، وقد أشاد القرآن الكريم بذكر الشباب وثباتهم على عقائدهم، فقال الله تعالى: "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" (الكهف، الآية: 10)، وقال جلّ شأنه: "قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ" (الأنبياء، الآية: 60)، فإبراهيم عليه السلام، بعد تأمّله في ملكوت الله وآياته في الكون، اهتدى إلى وحدانية الله، فقلب الأوضاع بما له من قوة، وفُتوّة، وحرّر العقول، وكسر الأصنام، التي كانت تُعبد من دون الله، وقد اقتضت حكمة الله أن تكون غالب الرسالات بين الثلاثين والأربعين، وقد عهد رسول (الله صلى الله عليه وسلم) بقيادة جيش فيه كبار الصحابة، إلى "أسامة بن زيد" وهو دون سن العشرين".
من هم الشباب؟
وقد نجد في تاريخ الأمم كثيرًا من العظماء، وصلوا إلى قمّة العظمة والبطولة والعبقرية، في سن الشباب، فما هو السر في هذه الظاهرة يا تُرى؟ إن الشباب قلب الأمة النابض، وأمل الوطن الباسم، ولست أعني بالشباب، ذلك الفتى سنًّا فحسب، وإنما أعني بالشباب ذلك الكائن الحي القوي السّاعد، المفتول الذراع، الفتى عزمًا وحزمًا، الفتى جدًّا ونشاطًا، الفتى روحًا وعقلا، الفتى علمًا وعملا، والذين يَزِنون الأمور بالقسطاس المستقيم، وينهجون المنهج القويم، لا يستغنون بطموح الشباب وحماسهم طبعًا عن تجربة الشيوخ وحكمتهم.
الشباب كالغصن ميّال مع الريح
إن الشباب كالعود الطري، ميّال مع الريح، فإن لم يُسق بماء الحياة ذبُل، وإذا كانت الريح عاصفة هائجة قصفته فانكسر، ماء الحياة لهذا العود، مصدره الأهل الذين أنبتوه والمجتمع الذي يتلقّفه، والمدرسة التي تربّيه وتثقّفه، والدولة التي تركّز حاضره وتخطط لمستقبله.
أولا: على الأسرة أن تحبّه حبًّا، لا تنتظر من ورائه جزاء ولا شكورًا، وأن تراقب حركاته وسكناته، فإنها مسؤولة بالدرجة الأولى عن تهذيبه وتأديبه، وتوجيهه الوجهة الصالحة التي ينفع بها أمّته ووطنه، وينتفع بها هو وأسرته في مستقبل الأيام، أمّا إذا أهملت تربيته وبخلت عنه في صغره، فإنه ينشأ نشأة سيئة تتجرّع الأسرة مرارتها، وتتحمّل عارها وأوزارها، ويؤاخذها المجتمع بهذه الجريمة، وأيّ جريمة أعظم من عدم القيام بالواجب، وعدم الشعور بالمسؤولية؟ فهي عوض أن تهيّء للأمّة وتقدّم لها مَن يزيد في الفضائل، قدّمت إليها من يقترف الآثام والرذائل.
ثانيًّا: على المجتمع ألّا يسيء إليه بالمنظر والمسمع، وأن يجعل له مُثلًا عُليا، تسمو عن الكسب المادي والتّرف، لأن الكسب المادي قدرٌ مشترك بين الإنسان والحيوان، والمولى تبارك وتعالى كرّم الإنسان بالعقل، وقد جاء في القرآن الكريم: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء، الآية: 70)، فإذا كان الإنسان يعيش في مجتمع، لا يرى فيه من المناظر، إلا ما يحرك الغرائز، ويوقظ نار الشهوات، ولا يسمع من الكلام إلا الباطل والزور من القول، أو ما يبعث الاحقاد والخصومات، فإنه بحكم الجوار يصبح فردا من ذلك المجتمع الفاسد، وإن كان قبل ذلك صالحا في نفسه، وإذا كان المجتمع يتكوّن منّا جميعا لا فرق بين عالم وجاهل، وغني وفقير، بل وحاكم ومحكوم، فإن المسؤولية على ما يقع فيه من فقر، وجهل ومرض، وجور وفسوق و شرور، تقع على كاهلنا جميعا، إذ كل واحد منا مسؤول أمام الله وأمام الوطن عن نفسه، وعن زوجه، وعن ولده، وعن ابنته، وقد جاء في الحديث: "كلّكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيّته"، فليقم كل منا بواجبه ولا يُلقي التّبِعة على غيره .
ثالثا: على المدرسة ألّا تعتني بحشو ذاكرته دون تحريك الذهن، وبتحصيل الشهادة دون إعداده للحياة العامة، فنحن نريد من شبابنا أن يكونوا ممّن يتعلّم العلم للعلم لا للشهادة، وأن يشتغلوا بالبحوث الهامة والابتكارات التي لها قيمتها في هذا العصر، حتى يرفعوا رأس أمّتهم عاليًّا، في المجامع العلمية، فتسترد الجزائر مجدها العلمي..
رابعا: على الدولة أن توجّه هذه الطاقات الهائلة إلى الخير والبناء وترعاها، وتحميها، وتيسّر لها أسباب العيش والرّخاء، والراحة والهناء، لأن الدولة تستمد قوتها من قوة شعبها، ولا غرابة إذا رأيناها تسعى جاهدة بكل إمكانياتها إلى تحقيق هذه الأسباب والوصول إلى هذه الأمنية الغالية.

ما الذي نرجوه من الشباب الجزائري؟
بعد أن استعرضتُ ما يرتجي شبابُنا، أتوجّه إلى شباب الجزائر لأعبّر لهم عن بعض ما نرجو منهم:
أولًا: أن يدركوا أن الجزائر، جزائر الاستقلال، هي في طور الشباب مثلهم.. وفي الواقع أنه منذ ان أصبح الوطن سيّد مصيره قد خطا خطوات واسعة نحو الاستقرار والتنظيم، فالرجاء من شبابنا ألّا يتسّرعوا وألا يقنطوا أو يیأسوا، فنحن على الطريق سائرون، والنجاح آتٍ لا محالة، ولعل من باب فخرهم أن يعيشوا في العهد ويراقبوه، ويسهموا فيه، ليستعيد وطنهم صفحات مشرقة من مجده التليد، وتاريخه الخالد.
ورجاؤنا الثاني: على شبابنا أن يدركوا أيضا، أن العالم قد اجتاز في السنوات الأخيرة وسيجتاز في السنوات القليلة المقبلة مراحل ومسافات لم يقطعها طوال قرون عديدة مضت، فهذا الغليان وهذه القفزات الجبّارة: علمًا، وتقنية، وفلسفة، تولّد هزات عنيفة في النفوس، قد تؤثر في المقوّمات والمعتقدات والمعطيات، وهنا يجب، مع مواكبة السير، الحفاظ على القيم الأساسية، ولا سيما القيم الخلقية والروحية منها.
نريد من الشباب الجزائري أن يحبّ الحياة، الحياة الصاعدة التي توجّهه إلى إدراك كل ما يستلزمه ووجود أمّته من دواعي البقاء، ودعاوى الخلود، وفهم كل ما يجمع كيانه من أجل التعبير عن الإرادة القوية المنبثقة من أبعد مطاوي نفسه وخبايا ضميره.
نريد من الشباب الجزائري أن يجدد في نفسه تَعشُّق القوة، القوة التي تجعله يحقق في لحظة واحدة ملايين الأحلام والآمال. نريد له بكلمة مختصرة الفُتوّة، فُتوّة الروح والجسم، فتوّة المشاعر والخواطر. نريد أن تكون الفتوة شارته في العصر الحاضر، ولا يلعب دوره كاملا إلا إذا كانت النزاهة غايته، والإخلاص رائده، لأن كل عملٍ في الحياة لا يقوم على الإخلاص، فهو فاشل، ولا بد أن ينهار.
إن الشباب الذي نريده، ونتمنّاه لهذا الوطن العزيز، شباب يقضي أوقاته، بين المسجد والمَخبر، والبحث والتنقيب في الأرض، والتنظيم والتدريب في الثكنة، فهذه الدعائم الأربع، لا يقوم بناء أمّة إلّا عليها، وليس لها بدونها في الحياة نصيب.