فرنسا اليوم تواجه لحظة غير مسبوقة منذ سبعين عاما. استقالة رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو بعد أقل من 24 ساعة من الإعلان عن حكومته ليست مجرد أزمة وزارية، بل صدمة سياسية تكشف هشاشة الجمهورية الخامسة أمام التشظي البرلماني والانقسامات الحزبية العميقة. النظام الذي صممه ديغول لتحقيق توافق بين الرئاسة والبرلمان أصبح عاجزا عن الصمود، فما يحدث ليس فشلا لشخص أو حكومة، بل هو اهتزاز جوهري في عمود النظام الفرنسي: هل دخلت الجمهورية الخامسة مرحلة الانهيار الحقيقي؟..
منذ تأسيس الجمهورية الخامسة على يد الجنرال شارل ديغول سنة 1958، لم تعرف فرنسا حالة استقالة لرئيس وزراء قبل أن يباشر مهامه الفعلية بسبب غياب الظروف السياسية المناسبة. فكل رؤساء الحكومات، من ميشال دوبريه إلى إليزابيت بورن، تسلموا مسؤولياتهم رسميا، حتى وإن اضطروا لاحقا للاستقالة بفعل الانتخابات أو إعادة تشكيل الحكومة.
واليوم، وبعد أكثر من سبعين عاما على آخر استقالة مماثلة في زمن الجمهورية الرابعة، تعود فرنسا إلى مشهد مألوف من تاريخها المنسي: رئيس وزراء يغادر المنصب قبل أن يبدأ، وأزمة سياسية تكشف عجز النظام عن إنتاج توازن حقيقي بين الرئاسة والبرلمان.
هذه هي الصورة التي تلخص حالة سيباستيان لوكورنو، الذي قدّم صباح أمس الاثنين استقالته الرسمية إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، وفق ما أعلنه قصر الإليزيه في بيان مقتضب، ليضع حدا لأقصر تجربة حكومية في تاريخ الجمهورية الخامسة — حكومة لم تعش أكثر من اثنتي عشرة ساعة بعد إعلانها رسميا.
الاستقالة، التي وصفتها صحيفة لوموند بأنها "قياسية" من حيث السرعة، جاءت بعد 27 يوما فقط من تكليف لوكورنو بتشكيل الحكومة الجديدة، في خطوة كان يُفترض أن تعيد الحيوية إلى المشهد السياسي الفرنسي المنقسم. غير أن النتيجة كانت العكس تماما: فبدل أن تنقذ الحكومة البلاد من الشلل السياسي، عمّقت الأزمة وأعادت إلى الواجهة سؤالا ظلّ مؤجلا منذ عقود: هل ما تزال الجمهورية الخامسة قادرة على الصمود أمام التشظي الحزبي الذي يبتلعها؟
حكومة الـ12 ساعة
كان لوكورنو، البالغ من العمر 39 عاما، أحد الوجوه الشابة المقربة من الرئيس إيمانويل ماكرون، وأحد الذين راهن عليهم الإليزيه لإعادة بثّ الحياة في المشهد السياسي المأزوم. وقد عُيّن رسميا في التاسع من سبتمبر الماضي، بعد ساعات قليلة من إسقاط البرلمان لحكومة فرانسوا بايرو في تصويت بحجب الثقة، وهي الحكومة التي سبقتها حكومة ميشال بارنييه التي لاقت المصير نفسه بسبب الرفض الواسع لمشروع الميزانية التقشفية.
جاء تعيين لوكورنو، بعد استقالة بايرو مباشرة، ليصبح سابع رئيس وزراء في عهد ماكرون، والخامس منذ بداية ولايته الثانية في عام 2022، والثالث الذي يتولى المنصب خلال عام واحد فقط. وكان وصوله إلى قصر ماتينيون محاولة يائسة لإعادة ترتيب الأوراق وإنقاذ ما تبقّى من تماسك التحالف الحاكم بعد سلسلة من الانتكاسات السياسية والبرلمانية التي هزّت شرعية الرئيس وحزبه. لكن ما إن كشف مساء أمس الأحد عن تشكيلته الحكومية حتى انفجرت العاصفة.
تشكيلة لوكورنو، التي ضمّت 11 وزيرا احتفظوا بحقائبهم السابقة تقريبا، بدت بالنسبة إلى المعارضة "نسخة مكررة" من حكومة بايرو، ما اعتُبر فشلا في تحقيق القطيعة الموعودة مع السياسات السابقة. صحيفة ليبراسيون وصفتها بأنها “تغيير بلا مضمون”، بينما رأت لوموند أن "الجرح السياسي في فرنسا أعمق من مجرد تعديل حكومي".
حتى داخل معسكر الرئيس نفسه، تصاعدت الانتقادات. فقد عبّر وزير الداخلية برونو ريتايو، زعيم حزب الجمهوريين الحليف لماكرون، عن رفضه للتشكيلة بعد ساعتين فقط من إعلانها، وكتب على منصة “إكس” أنها “لا تعكس القطيعة المطلوبة”، ثم دعا إلى اجتماع أزمة طارئ للحزب صباح أمس الاثنين. وفي موقف أكثر حدّة، قال كزافييه برتران، رئيس منطقة أوت دو فرانس، إنّ “ما حدث مهزلة سياسية”، داعيا وزراء حزبه إلى الانسحاب من الحكومة فورا.
على الضفة الأخرى، كان اليسار أكثر عنفا في ردّه. فقد صرّح أوليفييه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، لإذاعة “فرانس إنتر” بأنه “مصدوم” من التشكيلة الحكومية، مؤكّدا أنه لا يرى ما يمنعه من التصويت على حجب الثقة قريبا. وذهب جان فيليب تانغوي، نائب رئيس حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، إلى اعتبار حجب الثقة “أمرا بديهيا”، بينما دعا رئيس الحزب جوردان بارديلا إلى حلّ الجمعية الوطنية فورا لاستعادة الاستقرار السياسي.
وفي خضمّ هذه الموجة المتصاعدة من السخط، جاءت تصريحات زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان لتزيد المشهد اشتعالا. إذ دعت أمس الاثنين إلى حلّ الجمعية الوطنية، معتبرة أن ذلك "أمر لا مفرّ منه تماما"، كما رأت أن استقالة الرئيس إيمانويل ماكرون ستكون قرارا "حكيما" في هذه المرحلة الحرجة. ومن جهته، ندد رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو في أول تصريح له عقب استقالته بـ"المصالح الحزبية" التي، على حدّ تعبيره، "أحبطت كل محاولة لتجاوز الانقسامات وإنقاذ البلاد من الشلل السياسي".
وسط هذا الرفض الواسع من اليمين واليسار والحلفاء معا، لم يكن أمام لوكورنو سوى خطوة واحدة. ففي اجتماع صباحي قصير استمر ساعة واحدة داخل قصر الإليزيه، قدّم استقالته إلى الرئيس ماكرون، الذي قَبِلها فورا وأصدر بيانا مقتضبا أشار فيه إلى "ضرورة مواصلة الجهود لتشكيل حكومة قادرة على العمل في ظل الظروف الحالية".
وقال لوكورنو في مؤتمر صحفي لاحق: "لا يمكن أن أكون رئيس وزراء عندما لا تُستوفى الشروط.. حاولت أن أبني طريقا مع الشركاء والنقابات للخروج من الانسداد الحاصل، لكن الأحزاب السياسية لم تقدّم أي تنازلات، وكانت تريد فرض شروطها بالكامل". كلماته هذه اختصرت الأزمة بكاملها. فقد حاول بناء توافق مستحيل في برلمان مشرذم بين ثلاث كتل متناحرة: تحالف الوسط الموالي لماكرون، واليسار بقيادة الجبهة الشعبية الجديدة، واليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان. وفي النهاية، اصطدم رئيس الوزراء الشاب بجدار الصراعات ذاتها التي أطاحت بأسلافه في أقل من عام واحد.
لا تتعلق استقالة لوكورنو بشخصه بقدر ما تكشف خللا عميقا في بنية النظام السياسي الفرنسي. فقرار الرئيس ماكرون في الصيف الماضي بحلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة كان رهانا عالي المخاطر أراد من خلاله استعادة الأغلبية، لكنه أنتج العكس تماما: برلمان بلا أغلبية، وحكومة بلا قاعدة. ومنذ ذلك الحين، دخلت فرنسا في دوامة حكومات قصيرة العمر: بارنييه، بايرو، والآن لوكورنو.
المشكلة اليوم ليست في الأسماء ولا في المناصب، بل في بنية الحكم ذاتها. فقد صُممت الجمهورية الخامسة عام 1958 لتمنح الرئيس سلطة كافية لتجاوز الانقسامات الحزبية، لكنها باتت اليوم عاجزة أمام واقع سياسي لم يعد يعترف بالأغلبية المستقرة ولا بالولاءات التقليدية. ومع أن الرئيس ماكرون كلف لوكورنو بإجراء محادثات أخيرة مع الأحزاب لتدارك الموقف، فإن الأمور، مهما كانت نتائج هذه المحادثات، تكشف سقوط فرنسا في فخ الفوضى.
عودة إلى شبح الجمهورية الرابعة
تُعيد هذه الأزمة إلى الأذهان مشاهد من حقبة الجمهورية الرابعة (1946–1958)، حين كانت الحكومات تنهار قبل أن تُولد بسبب التشرذم البرلماني المزمن. ففي تلك السنوات، فشل أكثر من عشرة مكلفين في تشكيل حكومة، واضطر بعضهم إلى الاستقالة قبل مباشرة مهامهم، مثل جورج بيدو ورينيه ماير وبيار منديس فرانس. وجاء ديغول عام 1958 لينهي تلك الفوضى الدستورية، فأنشأ نظاما رئاسيا قويا يمنح الرئيس الكلمة الأخيرة في تعيين رئيس الوزراء، واعتُبرت تلك ولادة "الاستقرار الفرنسي الحديث"، لكن بعد أكثر من ستة عقود، يبدو أن هذا "الاستقرار" بدأ يتآكل أمام أعين الفرنسيين.
اليوم، يتساءل المراقبون إن كانت استقالة لوكورنو مجرّد حادثة عابرة، أم بداية تفكك بطيء للنظام الذي صمد لسبعين عاما رغم عجزه البنوي. فالمؤشرات الاقتصادية والسياسية لا تبعث على الطمأنينة: دين عام قياسي يتجاوز ضعف الحد الأقصى الأوروبي، عجز مالي متفاقم، وانقسام مجتمعي يتعمق بين المدن الكبرى والأقاليم. وفي ظل هذا المشهد، تبدو باريس أمام معضلة مزدوجة: كيف تنقذ مؤسساتها السياسية من الشلل، وكيف تقنع مواطنيها بأن الجمهورية الخامسة ما زالت قادرة على العمل؟
استقالة لوكورنو ليست مجرد فشل حكومي جديد، بل علامة على اهتزاز العمود الفقري للنظام الفرنسي، إنها تذكير بأنّ قوة الجمهورية الخامسة لم تكن فقط في دستورها، بل في روح التوافق التي رافقت نشأتها وهي الروح التي تبدو اليوم مفقودة. وبينما يحاول ماكرون إيجاد مخرج عبر طلبه من لوكورنو إجراء مشاورات الفرصة، يعيش الفرنسيون إحساسا متزايدا بأنهم يشهدون نهاية مرحلة وبداية أخرى، حيث تعود أشباح الجمهورية الرابعة لتطلّ من جديد على قصر الإليزيه، مذكّرة الجميع بأنّ التاريخ، حين لا يُستوعب، يعيد نفسه.