لم يعد في القواميس ما يغطي الفضيحة، ولم تعد اللغة قادرة على التلاعب بالحقائق. فقد أعلنت الأمم المتحدة ومعها كبريات المنظمات الدولية الحقيقة بصراحة: غزة تدخل رسميا عصر المجاعة. إنها ليست أزمة إنسانية عابرة، ولا تحذيرا من مستقبل محتمل، بل واقع دامغ يفتك بأكثر من نصف مليون إنسان، ويدفع بمئات الآلاف نحو موت بطيء تحت الحصار. إنها أول مجاعة تضرب الشرق الأوسط في التاريخ الحديث، وواحدة من أفظع لحظات الانهيار الأخلاقي للنظام الدولي، حيث يستخدم الجوع كسلاح إبادة، بينما يواصل العالم ترك شعب أعزل يموت ببطء على مرأى ومسمع منه، مكتفيا بالصمت أو بالمساومة.
أعلنت الأمم المتحدة ومعها منظمات كبرى في مجالات الصحة والطفولة والغذاء أن المجاعة في قطاع غزة لم تعد تهديدا افتراضيا أو تحذيرا مسبقا، بل تحوّلت إلى واقع دامغ يفتك بالمدنيين ويهدد بفناء جماعي. وأكدت هذه المؤسسات أن أكثر من نصف مليون إنسان يعيشون بالفعل في ظروف جوع حاد وموت بطيء، بينما يواجه مئات الآلاف خطر الانضمام إلى هذا الرقم خلال أسابيع قليلة. ويُعد هذا الإعلان الأول من نوعه في الشرق الأوسط، والخامس عالميا منذ اعتماد نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي قبل عقدين، بعد تجارب مشابهة في الصومال وجنوب السودان والسودان.
جاء البيان المشترك لمنظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) ليؤكد أن الوضع تجاوز جميع الخطوط الحمراء الإنسانية. وذكر البيان أن استمرار إغلاق المعابر وعرقلة تدفق المساعدات يترك المدنيين لمصير حتمي من الفناء. وربط البيان بين تفاقم الجوع وبين الحصار العسكري الصهيوني المستمر منذ عامين، إلى جانب التدمير المنهجي للبنية التحتية الصحية والزراعية، وسياسة التهجير القسري المتكرر للسكان.
تقرير التصنيف المرحلي المتكامل رفع محافظة غزة إلى المرحلة الخامسة، وهي أخطر مرحلة على سلّم انعدام الأمن الغذائي، حيث تحدد المعايير بثلاثية قاتلة: الجوع والعوز والموت. وأوضح التقرير أن نصف مليون شخص، أي ما يعادل ربع سكان القطاع، يعيشون ظروف مجاعة مكتملة الأركان، بينما يُتوقع أن يرتفع العدد إلى 640 ألفا بحلول الشهر المقبل إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة.
وشرح التقرير أن المجاعة حالة قابلة للرصد عبر مؤشرات دقيقة، مثل وصول نسبة من يعانون نقصا حادا في الغذاء إلى 20% من السكان، ومعاناة طفل من كل ثلاثة أطفال من سوء تغذية حاد، إضافة إلى تسجيل معدل وفيات يومي لا يقل عن حالتين من بين كل عشرة آلاف شخص. هذه المؤشرات تحققت في غزة بالفعل وبصورة متسارعة.)
تشير الأرقام إلى تضاعف معدلات سوء التغذية بين الأطفال ثلاث مرات منذ مايو الماضي، بينما ارتفع عدد الوفيات الناتجة عن الجوع إلى 272 حالة مسجلة حتى الآن، بينهم 113 طفلا. آخر هذه المآسي تجسدت في وفاة الرضيعة غدير بريكة، ذات الخمسة أشهر، في خان يونس بسبب سوء التغذية، لتصبح رمزا لطفولة تُقتل ببطء وسط صمت عالمي يراقب دون تحرك حاسم.
في جنيف، تحدث مسؤولون أمميون عن أن غزة تعيش "أسوأ سيناريو للمجاعة" منذ تأسيس نظام التصنيف المرحلي. وأكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن ما يحدث يمثل "كارثة من صنع الإنسان وانهيارا متعمدا للأنظمة الضرورية لبقاء الإنسان وفشلا أخلاقيا للإنسانية بأسرها". وأضاف أن ترك الأمور على حالها من دون تدخل أو محاسبة يفتح الباب أمام جرائم أوسع وأعمق. بدوره، صرّح وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية توم فليتشر أن "المجاعة في غزة كان يمكن تفاديها بالكامل لولا منع الاحتلال وصول المساعدات"، واعتبر اللحظة "عارا جماعيا يثقل ضمير العالم".
من جانبها، وصفت منظمة اليونيسيف الوضع بأنه مأساة غير مسبوقة للأطفال، وأشارت إلى أن "طفلا من كل أربعة أطفال في غزة يعاني سوء تغذية حاد يهدد حياته"، مضيفة أن انهيار النظام الصحي وغياب المياه النظيفة جعلا أمراضا بسيطة مثل الإسهال سببا مباشرا للموت. أما برنامج الغذاء العالمي فقد شدّد على أن "الوضع في غزة يجسد أسوأ سيناريو للمجاعة في العصر الحديث"، بينما حذرت منظمة الصحة العالمية من انهيار شامل للخدمات الطبية وعدم قدرة المستشفيات على استقبال المزيد من الأطفال الذين يعانون الجوع الشديد.
أثار الإعلان موجة إدانات دولية متصاعدة، إذ وصف وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي المجاعة في غزة بأنها "فضيحة أخلاقية من صنع الإنسان، كان يمكن تفاديها بالكامل". أما اللجنة الدولية للصليب الأحمر فأكدت أن «إسرائيل»، بصفتها قوة احتلال، تتحمل التزاما قانونيا بتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة للسكان، محذّرة من أن أي تأخير إضافي في إدخال المساعدات سيكلف آلاف الأرواح.
وفي السياق ذاته، اعتبر وزير الخارجية النرويجي إسبن بارث إيدي أن ما يجري في غزة "كارثة من صنع الإنسان"، مشيرا إلى رفض «إسرائيل» المستمر السماح بدخول المساعدات الطارئة إلى القطاع المحاصر. وأضاف أن غزة تواجه "مجاعة متكررة وكارثة هائلة"، في وقت تتعرض فيه ما تبقى من مدينة غزة لهجمات مكثفة أجبرت أعدادا كبيرة من الفلسطينيين على النزوح.
ومن جانبها، وصفت إريكا جيفارا روزاس، مديرة الأبحاث والمناصرة والسياسات والحملات في منظمة العفو الدولية، الوضع في غزة بأنه اقتراب من "الفناء التام". وأكدت أن الإعلان الرسمي عن المجاعة يشكّل دليلا كارثيا على ما حذرت منه المنظمات الإنسانية وحقوق الإنسان منذ شهور، مشددة على أن المجاعة "نتيجة مباشرة لأفعال (إسرائيل)"، وأن "كل ساعة تمرّ من دون تحرك دولي حاسم تُزهَق فيها المزيد من الأرواح".
ورغم وضوح الأرقام والشهادات وصدورها عن مؤسسات علمية محايدة، واصل جنرالات الدم لدى الاحتلال الصهيوني إنكار الحقائق والتشبث بسياسة النفي. فبلغة تنضح بالوقاحة، وصف رئيس وزراء سلطة الكيان بنيامين نتنياهو التقرير الأممي بأنه "كذبة صريحة"، فيما زعمت مؤسسات الاحتلال أنّ المساعدات تتدفق إلى غزة بشكل منتظم، متجاهلة أن ما يُسمح بدخوله لا يتجاوز 10% من الاحتياجات الفعلية. ويعكس هذا الموقف سياسة صهيونية راسخة تقوم على قلب الحقائق وتبرير استخدام التجويع كسلاح حرب.
في هذا السياق، أبرزت مجلة نيوزويك الأمريكية أن هيئة أمن الغذاء العالمية (IPC) أعلنت رسميا دخول غزة مرحلة المجاعة. وأوضحت أن الكارثة "من صنع الإنسان بالكامل"، نتيجة الحصار العسكري والهجمات المتواصلة منذ نحو عامين، مؤكدة أن وقفها لا يزال ممكنا إذا اتُخذت إجراءات إنسانية عاجلة. ورأت المجلة أن هذا الإعلان يمثّل أول اعتراف رسمي ببلوغ غزة حدّ المجاعة، ما يضاعف الضغط الدولي لإدخال المساعدات ويفتح الباب أمام تحرّكات سياسية ملحّة.
وأضافت أن الهيئة رفعت غزة إلى المرحلة الخامسة من سلّم الأمن الغذائي، حيث تُقاس المأساة بثلاثية قاتلة: الجوع والفقر والموت. وبيّنت أن نصف مليون إنسان يعيشون بالفعل في ظروف المجاعة، بينما يقترب العدد من 640 ألفا. وأشارت نيوزويك إلى أن "وقت النقاش والتردّد انتهى"، فالمجاعة تنتشر في قطاع محاصر لا يملك سكانه أي وسيلة للنجاة سوى مساعدات تُعرقل عمدا. ونقلت عن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قوله إن ما يحدث هو "إدانة أخلاقية وفشل للإنسانية كلها"، وأن القضية تتجاوز نقص الطعام لتكشف عن "انهيار متعمد للأنظمة الضرورية لبقاء البشر".
واختتمت المجلة تقريرها بالتنبيه إلى أن إعلان المجاعة يأتي بينما تستعد «إسرائيل» لهجوم واسع على مدينة غزة، في الوقت الذي يواصل - مجرم الحرب - نتنياهو ربط أي مفاوضات حول الأسرى بشروط حكومته، بما يعكس استخدام الاحتلال المدنيين ورقة ضغط، فيما يُترك الجوع سلاحا مفتوحا ضد شعب أعزل.