منذ السنوات الأولى للاستقلال، اتجهت الجزائر إلى بناء نموذج اجتماعي يقوم على توزيع الثروة الوطنية على أوسع نطاق ممكن، باعتبار ذلك امتدادًا طبيعيًا لثورة التحرير التي قامت على شعار العدالة والمساواة، فالدولة الناشئة لم تنظر إلى التعليم والصحة والسكن والغذاء كخدمات ثانوية، بل كـ حقوق أساسية لا جدال فيها.
في عام 1974 أُقرّ قانون يضمن الرعاية الصحية المجانية والشاملة لجميع المواطنين، ليصبح العلاج في الجزائر حقًا مكتسبًا لا يخضع لمنطق الربح والخسارة، وبعد عامين فقط، جاء إصلاح التعليم لسنة 1976 ليؤسس لمجانية التعليم على كل المستويات، وهو ما ساهم في رفع نسب التمدرس من حوالي 20% في بداية الاستقلال إلى أكثر من 80% في الثمانينيات، وفق تقارير المعهد الملكي للشؤون الدولية بلندن، كان هذا التحول ثوريًا بحق، إذ انتقل الجزائري من أمّي مهدد بالإقصاء إلى مواطن يتمتع بفرص تعليمية شبه متساوية.
ولم يتوقف المشروع عند هذا الحد، فقد توسع ليشمل سياسة دعم واسعة النطاق للسلع الأساسية مثل القمح، الزيت، الحليب، والسكر، فضلًا عن دعم أسعار الطاقة والماء، هذه السياسة، التي اتسعت مع الطفرة النفطية في السبعينيات، جعلت تكلفة المعيشة في الجزائر أقل بكثير من مثيلاتها في دول المنطقة.
وبلغت ميزانية الدعم سنة 2021 حوالي 3.2 تريليون دينار جزائري (ما يعادل 23.7 مليار دولار)، خصص منها 85% للطاقة، و13% للغذاء، و2% للماء، بهذا المعنى، كان كل جزائري يتمتع بدخل غير مباشر مضمون، لا يراه في حسابه البنكي، لكنه يلمسه يوميًا في فاتورة الكهرباء، أو في ثمن الخبز، أو في مقعد دراسي مجاني.
ورغم التراجع الكبير في أسعار النفط في العقدين الأخيرين، حافظت الدولة على الطابع الاجتماعي للنظام، ففي أقل من عامين فقط (2022-2023)، رفعت الحكومة الحد الأدنى للأجور إلى 20 ألف دينار جزائري (حوالي 150 دولارًا)، وطبقت نظامًا جديدًا لتعويض البطالة يستهدف الشباب الباحثين عن العمل، كما رفعت المعاشات التقاعدية بنسبة تتراوح بين 10% و15%.
كما حاولت الدولة تحديث منظومة الدعم عبر إصلاحات قانون المالية لسنة 2022، التي هدفت إلى إعادة توجيه الدعم للفئات الفقيرة والمتوسطة بدل توزيعه بشكل شامل، فالانتقاد الأساسي للنظام السابق أنه استفاد منه الجميع بلا تمييز، بما في ذلك الفئات الغنية، ما أدى إلى هدر الموارد، لذلك كان التوجه الجديد نحو اعتماد قاعدة بيانات وطنية تُحدد الفئات المستحقة، في محاولة للموازنة بين الحفاظ على الطابع الاجتماعي للدولة وبين تقليص الأعباء المالية الثقيلة.
إن هذه السياسات، على الرغم من تقلباتها، جعلت الجزائر واحدة من أبرز النماذج في العالم العربي والإفريقي التي اقتربت من فكرة "الدخل الأساسي الشامل" بشكل عملي، ولو عبر دعم عيني وخدماتي لا نقدي، فالمواطن الجزائري لم يكن بحاجة دائمًا إلى راتب شهري من الدولة، لأنه كان يحصل على تعليم وعلاج وسكن ومواد أساسية بأسعار زهيدة أو شبه مجانية، وهو ما عكس جوهر الفكرة نفسها: أن تكون إنسانًا يكفي لتستحق الحياة الكريمة.
البعد الإنساني في التجربة الجزائرية
وراء الأرقام الباردة والميزانيات الضخمة، تختبئ قصص تُجسد كيف كان النظام الاجتماعي الجزائري بمثابة "دخل أساسي غير معلن" أنقذ ملايين العائلات من الفقر المدقع.
ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين كان التعليم مجانيًا تمامًا، فتحت المدارس أبوابها لأبناء الفلاحين والعمال البسطاء، ممن كان يُفترض أن يبقوا خارج دوائر التمدرس لو كانت المدرسة سلعة تباع وتشترى، وكثير من أطباء ومهندسي الجزائر اليوم هم أبناء تلك السياسة التي جعلت من الجامعة فضاءً مفتوحًا للجميع، لا امتيازًا محصورًا في طبقة معينة، حيث لم يكن التعليم مجرد خدمة اجتماعية، بل مفتاحًا للصعود الطبقي ووسيلة لخلق حراك اجتماعي حقيقي.
الأمر نفسه ينطبق على الصحة المجانية، في زمن الثمانينيات، حين اجتاحت أمراض معدية مثل الحصبة والتيفوئيد قرى الجزائر، كان المستشفى العمومي مفتوحًا دون تمييز، لم يكن السؤال: "هل تملك بطاقة تأمين أو رصيدًا في البنك؟" بل كان: "ما الذي يؤلمك؟"، هذه التجربة، رغم نقائصها، أنقذت مئات الآلاف من الأرواح، وجعلت الجزائري يشعر أن كرامته مصونة أمام المرض، وأن الدولة ليست بعيدة عن همومه اليومية.
أما دعم المواد الأساسية فقد أثبت أهميته في لحظة حرجة: سنوات التسعينيات، حيث الأزمة الأمنية والاقتصادية هددت كيان الدولة، في تلك المرحلة، كان الخبز والحليب والزيت متوفرًا بأسعار شبه ثابتة رغم انهيار الدينار وتراجع الصادرات، هذا الاستقرار النسبي في حاجات المعيشة الأساسية لعب دورًا في منع الانفجار الاجتماعي الكامل، وحافظ على الحد الأدنى من التضامن الوطني في وقت كانت الجزائر على حافة الانهيار، لقد كان الدعم في تلك المرحلة أشبه بـ"صمام أمان" لمجتمع منكوب، أكثر منه مجرد سياسة اقتصادية.
وبالنظر إلى الألفية الجديدة، يمكن القول إن منحة البطالة التي أقرتها الدولة مؤخرًا للشباب الباحثين عن العمل، أعادت إلى الواجهة سؤالًا عميقًا: هل نحن بصدد ولادة نسخة جزائرية جديدة من "الدخل الأساسي الشامل"، ولكن هذه المرة بصيغة نقدية مباشرة؟ كثير من الشباب الذين استفادوا من هذه المنحة وجدوا فيها فرصة للتنفس، لتأجيل الاضطرار إلى قبول أي عمل عشوائي، وللتفكير في مشاريع مستقبلية أكثر استقرارًا، صحيح أن المبلغ يبقى محدودًا، لكنه يُعيد طرح النقاش حول مدى استعداد الجزائر لتطوير نموذجها الاجتماعي في زمن الذكاء الاصطناعي والبطالة المقنّعة.
إن التجربة الجزائرية، في عمقها الإنساني، تُظهر أن "الدخل الأساسي" لم يكن يومًا مجرد نظرية غربية أو موضة فكرية، لقد كان – وما يزال – واقعًا معاشًا بأشكال مختلفة، يُترجم في المدرسة والمستشفى وطاولة الطعام، وربما يكون التحدي اليوم ليس في اختراع الفكرة من جديد، بل في إعادة صياغتها بما يتلاءم مع أزمات الحاضر وتطلعات المستقبل.
الدخل الأساسي.. خبزة يومية في الجزائر مقابل شيك شهري في الغرب
الجزائري لم يكن يرى دخله الأساسي الشامل في حساب بنكي أو شيك شهري كما يتصوره الغرب اليوم. بل كان يراه في خبزة يومية لا يتجاوز ثمنها دج واحد لسنوات طويلة، في كيس حليب يصل إلى بيته بسعر رمزي، في فاتورة كهرباء وماء شبه مجانية، وفي جامعة تفتح أبوابها أمام ابن الفلاح وابن العامل دون تمييز. كان دخله الأساسي يتجسد في الواقع الملموس، في التفاصيل الصغيرة التي تصنع كرامة الحياة اليومية.
أما في الغرب، فالمعادلة مختلفة، هناك يُطرح الدخل الأساسي الشامل كـ"مبلغ نقدي ثابت" يُحوَّل مباشرة إلى الحساب البنكي للمواطن، الفكرة غربية في رمزيتها: الكرامة تتحقق عبر شيك شهري يضمن الحد الأدنى للعيش، حتى لو لم يعمل الفرد، إنها مقاربة حديثة لمفهوم الرعاية الاجتماعية، لكنها لا تزال في طور التجريب والنقاش، بينما عاش الجزائريون تجربتهم على الأرض منذ عقود.
هنا تكمن المفارقة: ما يراه الأوروبي حلمًا طوباويًا يتطلب ثورات فكرية وتجارب تجريبية، كان الجزائري يعتبره جزءًا بديهيًا من حياته اليومية، غير أن التحدي الأكبر يظل في الاستدامة: فالخبزة المدعومة التي كانت رمزًا للأمان الاجتماعي، تحولت مع الوقت إلى عبء مالي ضخم على الخزينة، بينما لا يزال الغرب يبحث عن صيغة متوازنة تمكّنه من تحويل اليوتوبيا إلى واقع دون تهديد اقتصاده.
بهذا المعنى، الجزائر سبقت في تجسيد الفكرة لكنها لم تنجح في تحويلها إلى نموذج مستدام، في حين أن الغرب يتأخر في التنفيذ لكنه يخطط لبناء نموذج مدروس قائم على تجارب دقيقة. فهل يمكن للجزائر أن تستفيد من إرثها الاجتماعي لتصوغ نسخة جديدة من "الدخل الأساسي" أكثر عدلًا وواقعية، بدل أن تبقى حبيسة ذكرى خبزة رخيصة وحليب مدعوم؟
تجارب دولية.. من ألاسكا إلى كينيا مرورًا بفنلندا
بينما عاشت الجزائر نموذجها الاجتماعي الخاص منذ الستينيات، لم يبدأ العالم الغربي في اختبار فكرة "الدخل الأساسي الشامل" إلا في العقود الأخيرة. أبرز تجربة مستمرة حتى اليوم هي صندوق ألاسكا الدائم في الولايات المتحدة، منذ عام 1982، يحصل كل مواطن في ولاية ألاسكا على شيك سنوي مصدره عائدات النفط. المبلغ يختلف بحسب أرباح الصندوق، لكنه يتراوح عادة بين 1000 و2000 دولار سنويًا، هذه التجربة أثبتت أن توزيع الريع بشكل مباشر على المواطنين ممكن وفعّال، لكنه محدود إذا لم يقترن بسياسات اجتماعية أخرى.
أما فنلندا، فقد أجرت تجربة أكثر قربًا من النموذج النظري للدخل الأساسي. بين عامي 2017 و2019، منحت الحكومة 2000 عاطل عن العمل راتبًا شهريًا ثابتًا (560 يورو) دون شروط، النتائج كانت مفاجئة: المستفيدون لم يتوقفوا عن البحث عن عمل كما خشي البعض، بل شعروا بقدر أكبر من الأمان النفسي، وتحسنت صحتهم العقلية وقدرتهم على التخطيط للمستقبل.
في كينيا، أطلقت منظمة غير حكومية برنامجًا تجريبيًا يمنح مئات العائلات دخلًا ثابتًا لسنوات طويلة، الهدف: اختبار أثر الدخل المستمر على التعليم والصحة والاقتصاد المحلي. النتائج الأولية أظهرت تحسنًا كبيرًا في مستوى المعيشة، وزيادة في الاستثمارات الصغيرة، مما عزز فكرة أن الدخل الأساسي لا يؤدي بالضرورة إلى الكسل، بل قد يشجع على الابتكار.
حتى البرازيل خاضت تجربة شبيهة في مطلع الألفية مع برنامج "بولسا فاميليا" الذي قدّم مساعدات نقدية مشروطة للعائلات الفقيرة، مقابل إبقاء الأطفال في المدارس والالتزام بالتطعيم الصحي، هذا البرنامج ساهم في تقليص الفقر المدقع بشكل ملموس، وأصبح يُستشهد به عالميًا كنموذج ناجح في العدالة الاجتماعية.
مقارنة بهذه التجارب، تبدو الجزائر قد سبقت الفكرة على طريقتها: فهي وزعت الدعم والخدمات بشكل شامل لعقود طويلة، غير أن الفرق الجوهري يكمن في الآلية: بينما اعتمدت الجزائر على دعم عيني غير مباشر، ركزت التجارب الدولية على النقد المباشر، وهو ما سمح بقياس أدق لتأثير الدخل على السلوك الاجتماعي والاقتصادي.
التحديات والآفاق.. هل يمكن إحياء النموذج الجزائري؟
الجزائر اليوم تقف عند مفترق طرق، من جهة، الإرث الاجتماعي الذي بُني منذ الاستقلال منحها تجربة ثرية يمكن أن تكون مصدر إلهام للعالم، ومن جهة أخرى، الأزمة المالية وتراجع عائدات النفط جعلت نموذج الدعم الشامل عبئًا يهدد الاستقرار الاقتصادي.
السؤال المركزي: هل تستطيع الجزائر إعادة صياغة تجربتها الاجتماعية بما يتلاءم مع التحديات الجديدة؟، مع صعود الذكاء الاصطناعي واحتمال اختفاء ملايين الوظائف، يصبح من الضروري التفكير في صيغة جديدة من "الدخل الأساسي" تستهدف الشباب والبطالة المقنعة، حيث أنه مع تزايد التفاوت الاجتماعي، يحتاج الدعم إلى آليات أكثر دقة، تضمن استفادة الفئات الهشة دون إهدار للموارد.
ومع الضغوط المالية، لا يمكن الاستمرار في سياسة الدعم الشامل إلى ما لا نهاية، لكن لا يمكن أيضًا التخلي عن الطابع الاجتماعي للدولة دون تهديد السلم الأهلي.
قد يكون الحل في مزيج جديد: دخل نقدي مباشر للفئات الضعيفة، مع الحفاظ على مجانية التعليم والصحة كحقوق مقدسة، وإعادة توجيه الدعم العيني بشكل مدروس.
بين الذاكرة واليوتوبيا
ما يسوقه الغرب اليوم كفكرة جذرية و "يوتوبيا جديدة"، عاشه الجزائريون منذ عقود كواقع يومي، من خبزة مدعومة إلى جامعة مجانية، من دواء متاح للجميع إلى كهرباء رخيصة، كان "الدخل الأساسي" حاضرًا في تفاصيل الحياة البسيطة. غير أن الفرق بين الحلم والواقع هو الاستدامة: الغرب يبحث عن نموذج قابل للدوام والتمويل، فيما الجزائر ما زالت تترنح بين إرث ثقيل وأزمات اقتصادية خانقة.
الدرس المستفاد أن الجزائر ليست بحاجة إلى استيراد الموضة الغربية الجديدة، لأنها ببساطة كانت من أوائل المختبرات التي جسدت الفكرة. ما تحتاجه اليوم هو إرادة سياسية وابتكار اقتصادي يعيدان صياغة التجربة بروح جديدة، لتتحول من ذكرى إلى مشروع مستقبلي. فربما يكون السبق الجزائري الذي بدا ضائعًا، أساسًا لنهضة اجتماعية جديدة إذا أُحسن استثماره.

