2025.10.28
الجزائر وفيتنام.. شراكة تاريخية تتجدد برؤية استراتيجية نحو الشرق الآسيوي سياسة

الجزائر وفيتنام.. شراكة تاريخية تتجدد برؤية استراتيجية نحو الشرق الآسيوي


ربيعة خطاب
27 أكتوبر 2025

في سياق دبلوماسي يتّسم بتكثيف التحركات الجزائرية نحو آسيا، انعقدت اليوم الإثنين في العاصمة الفيتنامية هانوي الدورة الرابعة للمشاورات السياسية الجزائرية–الفيتنامية، برئاسة مشتركة بين الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية الجزائرية ونائب وزير الشؤون الخارجية الفيتنامي. اللقاء، وإن بدا في مظهره تقليديًا، إلا أنه يحمل في جوهره بُعدًا استراتيجيًا عميقًا يعكس حيوية الدبلوماسية الجزائرية التي أعادت رسم خريطتها شرقًا بخطى محسوبة ورؤية مستقبلية تستند إلى قراءة دقيقة للتحولات الجيوسياسية الراهنة.

تاريخيًا، ليست العلاقات بين الجزائر وفيتنام وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها إلى سنوات الكفاح التحرري في خمسينيات القرن الماضي، حين توحّدت أصوات الثوار الجزائريين والفيتناميين في مواجهة الاستعمار. فمنذ استقلال الجزائر سنة 1962، ظلت هانوي من أوائل العواصم الآسيوية التي فتحت سفارة لها بالجزائر، وشهدت العلاقات الثنائية منذ ذلك الحين سلسلة من اتفاقيات التعاون في مجالات التعليم والتكوين والتجارة، عزّزها تبادل الزيارات الرسمية بين قادة البلدين.

ومع مطلع الألفية الجديدة، اتخذت هذه العلاقات منحًى أكثر براغماتية، فانتقلت من رمزية التضامن التاريخي إلى تعاون اقتصادي وعلمي يواكب المتغيرات الدولية. واليوم، تأتي الدورة الرابعة للمشاورات السياسية لتؤكد أن الجزائر تعيد بناء حضورها الآسيوي استنادًا إلى مقاربة تقوم على الندية والتكامل والمنفعة المشتركة، في وقت يشهد فيه النظام الدولي إعادة تموضع بين الشرق والغرب.

يقول البروفيسور الجزائري نور الدين شعباني ، في تصريح لـ الأيام نيوز:

“الجزائر تدرك أن مستقبل النفوذ الاقتصادي والسياسي العالمي يتجه شرقًا، وأن فيتنام تمثل بوابة مثالية للولوج إلى منطقة جنوب شرق آسيا، لما تتمتع به من استقرار سياسي ونمو صناعي متسارع. لذلك، تسعى الجزائر إلى شراكة لا تقوم على استهلاك المنتجات الآسيوية، بل على تبادل الخبرات وبناء مشاريع مشتركة ذات بُعد استراتيجي طويل المدى.”

البروفيسور الجزائري نور الدين شعباني 

من جهته، يؤكد الأستاذ عز الدين نميري، الباحث في الاقتصاد السياسي، أن اللقاء الأخير في هانوي يأتي في ظرف اقتصادي عالمي دقيق يشهد تحوّل مراكز الإنتاج والابتكار نحو الشرق، مضيفًا في تصريحه لـ الأيام نيوز:

“اختيار الجزائر لفيتنام ليس مصادفة، بل خطوة محسوبة في سياق سعيها لتنويع أسواقها وشركائها بعيدًا عن الهيمنة الأوروبية. فالتعاون مع هانوي يتيح للجزائر الانفتاح على سوق آسيوية ضخمة، والاستفادة من خبرة فيتنام في التصنيع والتكنولوجيا والتحول الطاقوي، وهي المجالات التي تضعها الجزائر في صميم استراتيجيتها التنموية الجديدة.”

وقد ناقش الجانبان خلال الدورة الرابعة تفعيل الاتفاقيات الموقّعة في مجالات الطاقة والزراعة والصناعات الدوائية والتعليم العالي، إلى جانب التعاون في التحول الطاقوي والتكنولوجيات الحديثة، وهي قطاعات ترى الجزائر فيها مستقبلها الاقتصادي المستدام. وتؤكد مصادر دبلوماسية أن الاجتماع مثّل خطوة عملية نحو تنفيذ برامج تعاون ملموسة بدل الاكتفاء بالتصريحات السياسية.

وفي قراءة تحليلية لمسار العلاقات بين البلدين، يرى البروفيسور شعباني أن “فيتنام تمثل بالنسبة للجزائر نموذجًا يحتذى به في كيفية تحقيق التنمية رغم محدودية الموارد، وهو ما يجعل التجربة الفيتنامية مصدر إلهام لمقاربات التنمية الوطنية الجزائرية القائمة على تنويع الاقتصاد والاستثمار في الإنسان والمعرفة.”

أما الأستاذ الجزائري  نميري عز الدين ، فيذهب أبعد من ذلك بالقول إن “الجزائر اليوم تتحرك ضمن رؤية دبلوماسية جديدة تدمج الاقتصاد بالسياسة، وتوظف بعدها التاريخي للتحول إلى فاعل محوري في الشراكات جنوب–جنوب، خاصة مع الدول التي تتقاطع معها في مبادئ الاستقلالية والسيادة الاقتصادية.”

على الصعيد السياسي، أظهر اللقاء توافقًا متزايدًا بين الجزائر وفيتنام حول قضايا الأمن الإقليمي والدولي، لا سيما ما يتعلق بمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة الوطنية. هذا التقاطع في الرؤى يمنح الجزائر موقعًا متقدمًا في الحوار الآسيوي–الإفريقي، ويعزز حضورها كصوت معتدل يدافع عن مصالح الجنوب العالمي في مواجهة الاستقطابات الدولية الحادة.

ويرى المحللون أن هذه المشاورات تمهّد لعقد اللجنة الكبرى للتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني بين البلدين خلال العام المقبل، ما سيترجم التفاهمات السياسية إلى مشاريع ميدانية واقعية في مجالات التكنولوجيا الخضراء، والطاقات المتجددة، والصناعات التحويلية.

ويخلص البروفيسور شعباني إلى أن “الجزائر لم تعد تتحرك بدافع ردود الفعل أو المجاملات الدبلوماسية، بل وفق رؤية تضعها في قلب التوازنات الجديدة للعالم المتعدد الأقطاب.” فيما يختتم الأستاذ نميري بالقول: “هذه المشاورات رسالة واضحة مفادها أن الجزائر تعود إلى آسيا ليس كحليف ثانوي، بل كشريك كامل السيادة يسعى إلى هندسة توازنات جديدة قائمة على العدالة الاقتصادية والتعاون الحقيقي.”

وبذلك، تؤكد الجزائر من هانوي أن سياستها الخارجية تدخل مرحلة أكثر نضجًا وفاعلية، قوامها الاستقلالية الاستراتيجية وتنوع الشراكات وبناء التحالفات الذكية، في وقت يتجه فيه النظام الدولي نحو إعادة رسم خرائط النفوذ. إنها دبلوماسية جديدة تستمد قوتها من التاريخ، وتستشرف المستقبل برؤية تجمع بين الطموح والواقعية.