2025.10.12
عاجل :



الشرق يكتسح والغرب يتراجع.. أوروبا بلا مركز حديث الساعة

الشرق يكتسح والغرب يتراجع.. أوروبا بلا مركز


جاوز الفرق بين شرق وغرب أوروبا الحدود الاقتصادية والجغرافية ليصبح صراعا حول المستقبل والهوية والمصير، فمع كل انتخابات جديدة في دول شرق القارة، يتعمّق الشرخ داخل البيت الأوروبي، وتتعالى الأسئلة حول قدرة الاتحاد الأوروبي على الاستمرار كقوةٍ موحّدة في عالم يتغيّر بسرعة. وقد قدّمت الانتخابات الأخيرة في جورجيا وجمهورية التشيك أنموذجين مختلفين في الشكل، لكنهما متطابقان في الجوهر: صعود النزعة القومية والشعبوية، وانهيار الثقة في مؤسسات الغرب، وتراجع الإيمان بفكرة "أوروبا الواحدة" التي كانت، يوما ما، عنوانا لحلمٍ مشترك بعد سقوط جدار برلين.

في العاصمة الجورجية تبليسي، خلال الانتخابات المحلية، لم تكن صناديق الاقتراع وحدها هي التي تحدد المشهد السياسي، فقد تصاعدت التوترات إلى مواجهات حادة في الشوارع. وبينما أعلنت اللجنة الانتخابية - يوم السبت - فوز حزب "الحلم الجورجي" الحاكم بأكثر من 80%، من الأصوات، شهدت العاصمة احتجاجات حاولت استغلال هذه النتائج لإشعال الاضطرابات، وهو ما دفع السلطات لاستخدام خراطيم المياه وقنابل الغاز لتفريق المجموعات المتورطة.

اتهمت السلطات المعارضة، وعلى رأسها حزب الحركة الوطنية الموحدة الموالي للرئيس السابق ميخائيل ساكاشفيلي، بالتحريض على العنف ومحاولة تنظيم انقلاب، معتبرة أن بعض قوى المعارضة تعمل بتوجيه من جهات خارجية لتعطيل المؤسسات الشرعية. ووصف رئيس الوزراء إيراكلي كوباخيدزه المظاهرات بأنها تهدف إلى زعزعة النظام الدستوري، مؤكدا أن أي محاولة لفرض تغيير سياسي بالقوة ستواجه بإجراءات قانونية صارمة.

تتجاوز هذه الأحداث حدود الاحتجاج على الانتخابات لتصبح جزءا من صراع أوسع بين القوى المحلية والدولية، حيث تتقاطع الطموحات الداخلية مع النفوذ الإقليمي والدولي. فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تتأرجح جورجيا بين الميل نحو موسكو التي تمارس ضغوطها، والتطلع إلى أوروبا، حيث يشترط الاتحاد الأوروبي التزام جورجيا بالمعايير التي تفرضها بروكسل، ويرى أي انحراف عن الصف الأوروبي خرقا لمبادئ احترام الحريات وتنفيذ الإصلاحات الديمقراطية.

لقد أصبح حزب "الحلم الجورجي" مثالا على التحولات السياسية الداخلية، حيث تحولت البدائل الليبرالية السابقة إلى خطاب قومي محافظ يركز على ضبط المشهد السياسي والإعلامي والمجتمع المدني، بما يعكس تأثير النماذج السلطوية في بعض دول الشرق الأوروبي. وفي ظل هذه المعطيات، تتضاءل الثقة في أوروبا بوصفها ملاذا ديمقراطيا، إذ يرى المواطنون أن وعودها لا تنعكس على أرض الواقع، وأن هناك فجوة متنامية بين المبادئ الغربية والممارسات على الأرض.

"ترامب أوروبا الوسطى"

على بُعد ألفي كيلومتر من تبليسي، شهدت جمهورية التشيك يومي الجمعة والسبت انتخابات برلمانية جسّدت تحوّلا ملحوظا في المزاج السياسي داخل أوروبا الشرقية، حيث تأرجحت الرياح بين الشعبوية القومية والانكسار من المشروع الأوروبي الكلاسيكي. وجاء فوز حزب «آنو» بقيادة الملياردير الشعبوي أندريه بابيش بنسبة 34.51% من الأصوات، بما يعادل 80 مقعدا من أصل 200 في البرلمان، متقدما بفارق كبير على الائتلاف الحاكم بزعامة رئيس الوزراء المنتهية ولايته بيتر فيالا، الذي حصل حزبه «معا» على 52 مقعدا فقط بنسبة 23.36% من الأصوات.

ولم يكتفِ بابيش بهذا التفوق الانتخابي، بل أعلن عزمه تشكيل حكومة منفردة، مع استعداد لفتح مشاورات مع أحزاب يمينية متطرفة مثل حزب الحرية والديموقراطية الذي حصل على 7.78% من الأصوات وحزب «موتوريستس» الذي نال 6.77%، سعيا لتوسيع نفوذه وضمان تشكيل حكومة تميل إلى الخطوط الشعبوية والقومية.

يعكس صعود بابيش صورة واضحة عن قدرة النخب السياسية والاقتصادية المتمرسة على إعادة صياغة خطابها، مستغلة الغضب الشعبي الناتج عن شعور المواطنين بالتهميش أمام بروكسل والناتو، وهو الغضب الذي يركز على شعور الشرق الأوروبي بالإجحاف من سياسات الغرب الاقتصادية والسياسية.

يقدم بابيش نفسه كصوت "المواطن العادي" في مواجهة ما يسميه استبداد النخب الأوروبية، مستثمرا حالة الشك المتنامية تجاه سياسات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، خاصة فيما يتعلق بدعم أوكرانيا ومشروع التحول البيئي الأوروبي.

فبرنامج بابيش الانتخابي يرفض إرسال الذخائر مباشرة إلى أوكرانيا، وينتقد خطط الناتو لزيادة الإنفاق العسكري، ويهاجم "الصفقة الخضراء" باعتبارها تمثيلا لهيمنة المركز الأوروبي على سيادة الدول الصغيرة. وشعار "سيادة تشيكية أولا" يعكس روح الانغلاق الجديدة في شرق أوروبا، ويعيد تعريف الهوية الوطنية بعيدا عن سلطة بروكسل.

رغم أن حزب «آنو» لم يحصل على أغلبية مطلقة، فإن صعوده أثار قلق الاتحاد الأوروبي الذي يخشى أن تنضم التشيك إلى محور الدول المتمرّدة على بروكسل، مثل المجر وسلوفاكيا. التحالفات المحتملة مع أحزاب يمينية متشددة ومشككة في الاتحاد الأوروبي، مثل حركة "سائقي السيارات من أجل أنفسهم"، تمهد لتشكيل حكومة تميل إلى العزلة وتغذي خطابا قوميّا مناهضا للمؤسسات الغربية.

شهرة بابيش، الذي يلقب بـ"ترامب أوروبا الوسطى"، لم تأتِ من فراغ، فهو رجل أعمال ضخم يجمع بين النفوذ المالي والسياسي، ويملك قدرة على تحويل الاتهامات بالفساد واستغلال أموال الاتحاد الأوروبي إلى دليل على مؤامرة النخب ضده، ما يجعله نموذجا للشعبوية الوسطى الأوروبية المعاصرة.

ويأتي هذا التغير في السياق ذاته الذي يشهده الشرق الأوروبي عموما، حيث يتراجع الحماس تجاه المشروع الأوروبي الكلاسيكي. جورجيا على سبيل المثال تمثل مرآة لما يحدث في محيط الاتحاد الأوروبي؛ دولة خارج حدوده، لكنها متأثرة مباشرة بتناقضاته، إذ تترنح بين حلم الانضمام إلى أوروبا والخوف من النفوذ الروسي، في حين بدأت التشيك تنطلق نحو نموذج أكثر قومية وشعبوية. وبذلك لم تعد القضية مجرد تراجع للشرق أو تقدم للغرب، بل أصبحت نهاية زمن التفوق الغربي داخل القارة نفسها، حيث بدأت "رياح الشرق" - الشعبوية، القومية، الشك في العولمة، ورفض الإملاءات الغربية - تكتسح المشهد السياسي، حتى في قلب الاتحاد الأوروبي.

هشاشة نموذج الدمج الأوروبي بعد نصف قرن

وقد راهنت أوروبا طوال نصف قرن على أن الدمج الاقتصادي والسياسي سيخلق نموذجا متماسكا للتعاون والازدهار، لكن الواقع الحالي يكشف عن هشاشة هذه الفرضية. فكلما توسع الاتحاد الأوروبي، ازدادت الانقسامات الداخلية وتفاقمت التوترات بين دوله. على سبيل المثال، الدول التي كانت تعتبر النموذج المثالي للالتزام بالقيم الأوروبية، أصبحت اليوم مصدر قلق لبروكسل، وهو ما يظهر في تصاعد المواقف المعادية للسياسات الغربية في المجر وسلوفاكيا والتشيك. حتى الدول خارج الاتحاد، مثل جورجيا، تواجه صعوبة في رؤية أوروبا كمصدر للثقة والازدهار، مع استشراء حالة الشك حول شرعية المؤسسات الأوروبية ومدى قدرتها على الوفاء بوعودها.

العودة إلى السلطة بالنسبة لبابيش تحمل رسائل مزدوجة: داخليا، تؤكد القوة الشعبوية لقدرة قادة الأعمال على توجيه الرأي العام واستثمار الشعور بالغبن الشعبي؛ وخارجيا، تفتح الباب أمام تقارب محتمل مع دول شرق أوروبي أخرى رفضت تقديم أي مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وتعارض العقوبات الصارمة على روسيا، مما يضع بروكسل أمام اختبار حقيقي لقدرتها على التكيف مع واقع جديد لا يتماشى دائما مع قيمها ومبادئها التقليدية.

وفي هذا السياق، أشار بابيش إلى أن براغ لن تعيد النظر بشكل كامل في دعمها لأوكرانيا، مؤكدا أن المساعدة ستستمر عبر الاتحاد الأوروبي، مع تذكيره بلقاءاته المتكررة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهو ما يعكس مزيجا من البراغماتية السياسية والتوازن بين المواقف القومية والالتزامات الدولية.

تلك التحولات السياسية تعكس عملية إعادة توزيع للنفوذ داخل أوروبا، حيث لم يعد الشرق مجرد تابع للغرب، بل أصبح لاعبا فاعلا يفرض لغته السياسية ويعيد تعريف العلاقة بين الشعوب والسلطة، بين الهوية والانتماء، وبين أوروبا كما حلم بها قادة ما بعد الحرب وبين أوروبا كما تعيشها شعوبها اليوم. ومع هذا الواقع، تصبح البوصلة القديمة التي كانت تعتمد على السيطرة المركزية لبروكسل غير صالحة، ويصعب الاعتماد على استراتيجيات الماضي لتفسير الحاضر أو التنبؤ بالمستقبل.

في ضوء ما تقدم، فإن الانتخابات التشيكية الأخيرة تمثل أكثر من مجرد استحقاق انتخابي عابر؛ إنها علامة على تحولات عميقة في الهوية السياسية داخل أوروبا الشرقية، حيث تبدأ الشعوب في استعادة صوتها، وتشكيل توجهات قومية وشعبوية تتحدى الفرضيات الغربية التقليدية عن الحرية والتقدم.

وتؤكد هذه الظاهرة أن أوروبا اليوم تتجه نحو عالم بلا مركز واحد، حيث تتوزع القوى وتتعدد الفاعليات، ويصبح الحفاظ على تماسك الاتحاد الأوروبي تحديا استراتيجيا يتطلب إعادة النظر في السياسات والعلاقات مع جيرانها الشرقيين. فالشرق لم يعد هامشا في السياسة الأوروبية، بل أصبح مركزا للقرار والتأثير، يعيد رسم خريطة النفوذ والتوازنات، ويحوّل أوروبا إلى قارة أكثر تشتّتا وأقل قدرة على التحكم حدود المركز التقليدي.