2025.09.30
عاجل :



الطاقة والتحول الأخضر.. سباق يُعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي اقتصاد

الطاقة والتحول الأخضر.. سباق يُعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي


منذ عقود طويلة ظل النفط والغاز والفحم يمثلون شرايين الاقتصاد العالمي، إذ قامت على هذه الموارد شبكات التجارة الدولية والتحالفات السياسية والحروب الصامتة والمعلنة على حد سواء. غير أن العالم يجد نفسه اليوم أمام منعطف تاريخي فارق، إذ يتسارع السباق نحو ما بات يُعرف بـ "التحول الأخضر"، أي الانتقال من الاعتماد المفرط على الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة مثل الشمس والرياح والهيدروجين الأخضر. هذا التحول لم يعد خياراً ترفياً، بل أصبح ضرورة تمليها الاعتبارات الاقتصادية والبيئية والجيوسياسية، خاصة بعد سلسلة من الأزمات التي ضربت أسواق الطاقة خلال السنوات الأخيرة، من جائحة كورونا إلى الحرب في أوكرانيا وما تبعها من اضطرابات هائلة في سلاسل الإمداد.

لقد أثبتت الأزمات الأخيرة أن الاعتماد المفرط على النفط والغاز يجعل الاقتصاد العالمي هشاً أمام أي اضطراب سياسي أو عسكري، وهو ما دفع عدداً من الخبراء الاقتصاديين إلى التأكيد بأن أمن الطاقة لم يعد قضية قطاعية تخص الدول المنتجة فقط، بل تحول إلى ركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي والاقتصادي في كل دولة. الخبير الاقتصادي الفرنسي جان بيير ماتيو يرى أن ما حدث في أوروبا خلال أزمة الغاز عام 2022 كان بمثابة "جرس إنذار قاسٍ"، إذ دفعت الحكومات الأوروبية فاتورة مضاعفة للطاقة، وأُجبرت صناعات ضخمة مثل صناعة الصلب والأسمدة على تقليص إنتاجها أو إغلاقه مؤقتاً، وهو ما انعكس مباشرة على مستويات التضخم ومعيشة المواطنين.

في المقابل، يطرح خبراء آخرون رؤية أكثر تفاؤلاً، معتبرين أن التحول الأخضر ليس مجرد استجابة لأزمات ظرفية، بل هو استثمار استراتيجي بعيد المدى قد يفتح الباب أمام حقبة اقتصادية جديدة. الاقتصادي الأمريكي مايكل بورنستين يشير إلى أن كل دولار يُستثمر في الطاقة المتجددة اليوم يمكن أن يولد ثلاثة أضعاف قيمته على المدى المتوسط من خلال خلق وظائف جديدة، وتطوير صناعات تكنولوجية، وخفض التكاليف الصحية المرتبطة بالتلوث. فالمعادلة لم تعد فقط بيئية، بل اقتصادية بامتياز، حيث تتضح العلاقة بين كفاءة الطاقة، خفض الانبعاثات، وتعزيز القدرة التنافسية للدول.

لقد دخلت القوى الكبرى سباقاً محموماً نحو السيطرة على مستقبل الطاقة. أوروبا تسعى عبر "الاتفاق الأخضر" إلى أن تصبح أول قارة محايدة كربونياً بحلول 2050، لكنها في الوقت ذاته تواجه تحديات هائلة في تمويل هذه الطموحات وضمان استقرار إمداداتها. الصين، من جانبها، استوعبت مبكراً أن من يملك تقنيات الطاقة الشمسية وسلاسل توريد البطاريات سيكون في موقع القيادة، ولذلك استثمرت مئات المليارات لتصبح المنتج الأول للألواح الشمسية والبطاريات في العالم. الولايات المتحدة لم تقف مكتوفة الأيدي، إذ أطلق الرئيس بايدن حزمة تحفيزية كبرى تحت اسم "قانون خفض التضخم" الذي يتضمن مئات المليارات لدعم الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والسيارات الكهربائية، وهو ما دفع شركات عالمية إلى إعادة النظر في مواقع استثماراتها بين ضفتي الأطلسي.

لكن رغم هذا السباق الطموح، فإن التحديات لا تزال كبيرة. فالتحول الأخضر يتطلب استثمارات بمليارات الدولارات، ويحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة للبنى التحتية من شبكات الكهرباء إلى موانئ التصدير. وهناك معضلة أخرى تتعلق بالدول النامية، إذ يطرح خبراء من البنك الدولي تساؤلات جدية: كيف لهذه الدول التي تعاني من مديونية عالية وضعف في البنية التحتية أن تتحمل تكلفة التحول؟ كثير من الحكومات في الجنوب العالمي ترى في التحول الأخضر نوعاً من "الترف الغربي"، بينما لا تزال شعوبها تكافح للحصول على كهرباء مستقرة ومياه شرب نظيفة. الاقتصادي الهندي راهول شارما يؤكد أن العدالة المناخية والطاقوية يجب أن تكون جزءاً من أي اتفاق دولي، وإلا فإن الفجوة بين الشمال والجنوب ستزداد اتساعاً.

في الجانب الآخر، لا يمكن إغفال ما يحمله التحول من فرص اقتصادية هائلة. فصناعة "الوظائف الخضراء" باتت توصف بأنها قطاع المستقبل، حيث تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن الانتقال نحو الطاقة المتجددة قد يخلق أكثر من 20 مليون وظيفة جديدة بحلول 2030. هذه الوظائف لن تقتصر على تشغيل الألواح الشمسية أو بناء مزارع الرياح، بل ستمتد إلى قطاعات الهندسة، البحث العلمي، إدارة الشبكات الذكية، وتطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بإدارة استهلاك الطاقة. ولعل هذا يفسر لماذا تتسابق كبريات الجامعات والشركات التكنولوجية إلى الاستثمار في البحث والتطوير في مجالات الطاقة النظيفة.

وليس بعيداً عن هذا السباق، تبرز تجارب ناجحة تستحق التوقف عندها. المغرب مثلاً استطاع أن يتحول إلى نموذج رائد في الطاقة الشمسية عبر مشروع "نور" الذي يُعد من أكبر محطات الطاقة الشمسية المركزة في العالم، ما جعله لاعباً استراتيجياً في تصدير الكهرباء الخضراء نحو أوروبا. ألمانيا بدورها استثمرت بكثافة في طاقة الرياح، حتى باتت ولايات شمال البلاد تنتج فائضاً كهربائياً يصدر إلى دول الجوار. هذه النماذج تقدم أدلة ملموسة على أن الاستثمار في التحول الأخضر يمكن أن يحقق نتائج عملية واقتصادية مهمة إذا ما رافقته إرادة سياسية واستراتيجيات واضحة.

مع ذلك، لا تزال معركة التحول الأخضر محكومة بمعادلات سياسية وجيوسياسية معقدة. فالدول المنتجة للنفط والغاز مثل روسيا ودول الخليج تدرك أن مستقبل الطلب على الوقود الأحفوري مهدد على المدى الطويل، ولذلك بدأت بعض هذه الدول في إطلاق استراتيجيات موازية للاستثمار في الطاقة المتجددة والهيدروجين. الخبير الاقتصادي السعودي ناصر العمري يشير إلى أن "الذكاء الاقتصادي يكمن في استثمار عائدات النفط اليوم لبناء اقتصاد ما بعد النفط"، محذراً من أن من يتأخر في هذا السباق قد يجد نفسه خارج اللعبة.

وفي خضم هذه التحولات، يبرز سؤال أساسي: هل سيكون التحول الأخضر فرصة لإعادة توزيع الثروة والنفوذ بشكل أكثر عدلاً، أم أنه سيعيد إنتاج الهيمنة بشكل جديد؟ بعض الاقتصاديين يرون أن الدول المتقدمة، بسيطرتها على التكنولوجيا ورؤوس الأموال، قد تحتكر أيضاً سوق الطاقة المتجددة كما احتكرت النفط في الماضي، بينما يرى آخرون أن انتشار الشمس والرياح في كل مكان يمنح الدول النامية فرصة ذهبية للاستقلال الطاقوي إذا ما استثمرت بذكاء في بنيتها التحتية.

ما لا شك فيه أن العقدين المقبلين سيشهدان تحولات جذرية في خريطة الاقتصاد العالمي. فالمعادلة القديمة التي كانت تقوم على أن "من يملك النفط يملك القرار" تتغير تدريجياً لتصبح "من يملك التكنولوجيا والقدرة على إدارة الطاقة النظيفة يملك المستقبل". وهنا تتقاطع الاعتبارات الاقتصادية بالسياسية والأمنية، لتجعل من ملف الطاقة أحد أكثر الملفات حساسية في العلاقات الدولية المعاصرة.

إن العالم يقف اليوم على أعتاب ثورة طاقوية جديدة، ثورة قد لا تقل أهمية عن الثورة الصناعية الأولى أو ثورة الإنترنت. وإذا كان الماضي قد صاغته أنابيب النفط وناقلات الغاز، فإن المستقبل قد تُرسم ملامحه عبر الألواح الشمسية، توربينات الرياح، محطات الهيدروجين، وشبكات الكهرباء الذكية. والسؤال المفتوح أمام الخبراء وصناع القرار هو: هل سينجح هذا التحول في خلق اقتصاد عالمي أكثر استدامة وعدالة، أم أنه سيظل محكوماً بمنطق الهيمنة والمصالح الضيقة؟ الجواب لن يتضح إلا مع مرور الزمن، لكن المؤكد أن السباق قد بدأ بالفعل، وأن نتائجه ستحدد شكل الاقتصاد والسياسة لعقود مقبلة.