2025.11.11
تقدم القاعدة نحو باماكو.. هشاشة الدولة والفيلق الإفريقي يفتحان الطريق للإرهاب

تقدم القاعدة نحو باماكو.. هشاشة الدولة والفيلق الإفريقي يفتحان الطريق للإرهاب


ربيعة خطاب
09 نوفمبر 2025

في ظلّ التسارع الميداني الذي يشهده شمال ووسط مالي، ومع الأنباء المتواترة عن اقتراب مجموعات تابعة لتنظيم القاعدة من محيط العاصمة باماكو، يزداد المشهد هناك تأزّما وتعقيدا، بشكل يتجاوز بكثير ما تحاول السلطة الانتقالية أن تحصره في خطر الإرهاب. إذ تشهد البلاد فوضى في الإدارة، وتآكلا في المؤسسات، وانكماشا في الرؤية الوطنية. منذ الانقلاب العسكري في عام 2020، بينما ترفع السلطة الانتقالية في مالي شعارات استعادة السيادة ومكافحة النفوذ الأجنبي، غير أنّ الواقع يقدّم صورة مختلفة تماماً. فبينما تتحدث القيادة عن النهوض الوطني والتحرّر من التبعية، تتراجع البلاد إلى مستويات غير مسبوقة من العزلة السياسية والاقتصادية، وتنهار الثقة بين الدولة والمجتمع، ويصبح الأمن نفسه رهينة الخطاب لا الفعل. في الأسابيع الأخيرة، تزايدت التقارير التي تتحدث عن تمدد الجماعات المتطرفة نحو الجنوب، وعن ضعف واضح في منظومة الدفاع المالي، في وقت تنشغل فيه السلطة بتدشين مشاريع رمزية ومحاولات لتلميع صورتها أمام الرأي العام.

محمد آق أحمدو

ويشير البروفيسور محمد آق أحمدو، في تصريح خصّ به صحيفة “الأيام نيوز”، إلى أن ما يحدث في مالي «ليس مؤامرة خارجية كما يروّج الخطاب الرسمي، بل هو نتيجة مباشرة لتآكل المؤسسات وغياب الرؤية الوطنية». ويضيف أن «السلطة الانتقالية اختارت الهروب إلى الأمام بشعارات السيادة ومواجهة الغرب، لكنها في الواقع رهنت سيادة البلاد لصالح تحالفات ظرفية، بلا عمق اقتصادي أو شرعية شعبية». هذا التصريح يعكس جوهر المأزق الذي تعيشه باماكو اليوم، حيث تتقدم التنظيمات المسلحة على الأرض، في الوقت الذي تتراجع فيه شرعية وفاعلية السلطة. فالحكومة التي وعدت الماليين بالأمن والاستقرار بعد خروج القوات الأجنبية، لم تستطع حتى الآن بناء بديل وطني قادر على حماية الطرق الحيوية، أو تأمين المدن الشمالية التي أصبحت هدفاً دائماً للهجمات.

إنّ الخطر الحقيقي الذي يهدد مالي لا يكمن فقط في تقدم القاعدة نحو العاصمة، بل في هشاشة الدولة التي أضعفت نفسها بخطابها الشعبوي وإدارتها المرتجلة للأزمات. فغياب الرؤية السياسية المتماسكة، وتراجع الأداء الاقتصادي، والتضييق على الإعلام والمجتمع المدني، كلّها عوامل تجعل البلاد في مواجهة مباشرة مع احتمال الانهيار الأمني الشامل. وما بين التحذيرات التي تصدرها المنظمات الإقليمية والدولية، وتصريحات المسؤولين المحليين الذين يكتفون بإلقاء اللوم على الخارج، تضيع الحقيقة الجوهرية: أنّ السلطة الانتقالية لم تنجح في تحويل “الاستقلال السياسي” إلى مشروع بناء وطني، بل جعلته ذريعة لتبرير الفشل.

اليوم، ومع اشتداد الضغط العسكري في الشمال والغرب، تتقلص المساحة الآمنة حول العاصمة باماكو، ويتراجع حضور الدولة في الأطراف إلى مجرد رمزية شكلية، بينما يُترك المواطن وحيداً أمام ندرة الوقود والسلع وغياب الخدمات. وفي هذا المناخ الملبّد، يصبح تقدم القاعدة نحو العاصمة أكثر من مجرّد تهديد عسكري، بل هو إنذار بانهيار شامل قد يطيح بما تبقّى من مؤسسات الدولة. فحين تكتفي القيادة برفع الشعارات وتغفل عن حقيقة الميدان، تكون النتيجة حتمية: وطن بلا بوصلة وسلطة بلا رؤية. وهكذا، تُختزل أزمة مالي اليوم في معادلة قاسية عبّر عنها البروفيسور آق أحمدو بدقّة: إنّ المشكلة ليست في وجود الأعداء على الحدود، بل في غياب الدولة داخل حدودها.

تحوّل استراتيجي في مسرح العنف

يشير البروفيسور محمد آق أحمدو إلى أن ما تشهده مالي اليوم ليس مجرد تصاعد تكتيكي في العنف المسلح، بل هو تحوّل استراتيجي شامل في طبيعة الصراع وموازين الفاعلين، يعكس انتقال البلاد من مرحلة “التمرد المحلّي” إلى مرحلة “الاضطراب البنيوي”، حيث أصبح العنف أداة لإعادة توزيع القوة داخل النظام السياسي نفسه. فبعد الانقلاب العسكري سنة 2020، تحوّل الأمن من وظيفة مؤسسية للدولة إلى مورد سياسي في يد القيادة الانتقالية، تُديره لتثبيت شرعيتها أكثر مما توظّفه لاستقرار البلاد، ما أدّى – بحسب آق أحمدو – إلى فقدان “المركز” قدرته على ضبط “الأطراف”.

في هذا السياق، يشهد مسرح العنف المالي إعادة تموضع للقوى المسلحة على نحو مختلف بشكل جذري. لم تعد الجماعات المتسلحة – وعلى رأسها تنظيم القاعدة – تركز على السيطرة الرمزية للمناطق، بل انتقلت إلى ما يسميه آق أحمدو “استراتيجية الخنق المحيطي”، أي تطويق الدولة عبر استهداف شرايينها اللوجستية والاقتصادية: الطرق، الإمدادات، ومراكز الطاقة. هذه المقاربة الجديدة للعنف لا تسعى إلى احتلال العاصمة، بل إلى جعلها غير قابلة للحياة. ومع تراجع قدرة باماكو على تأمين محيطها، أصبحت الجماعات تمتلك “زمام المبادرة الاستراتيجية”، وهو ما يعدّ مؤشراً خطيراً على تراجع الدولة من الفعل إلى ردّ الفعل.

ويربط آق أحمدو هذا التحوّل بالخلل العميق في هندسة التحالفات الإقليمية والدولية التي بنتها السلطة الانتقالية. فانسحاب الشركاء الأوروبيين لم يترافق مع بناء شراكة أمنية بديلة فعّالة، بل فتح فراغاً استراتيجياً استغلته الجماعات المسلحة لتوسيع مجال حركتها. ويرى البروفيسور أن ما يجري هو “إعادة هيكلة للفضاء الأمني في الساحل”، حيث تتحول مالي من محور موازنة إلى بؤرة هشاشة، تنعكس آثارها على النيجر وبوركينا فاسو وحتى موريتانيا. ومن هذا المنظور، فإنّ الأزمة لم تعد داخلية الطابع فحسب، بل إقليمية في تداعياتها.

كما يبرز التحوّل في مسرح العنف من خلال ما يسميه آق أحمدو “تآكل احتكار الدولة لوسائل القوة المشروعة”، إذ لم تعد السلطة الانتقالية قادرة على احتكار العنف أو تنظيمه. فوجود تشكيلات محلية مسلّحة تعمل بالتوازي مع الجيش، وتدخّلها في إدارة بعض المناطق، خلق ما يشبه “اللامركزية القسرية للعنف”، أي أن القوة العسكرية باتت موزعة بين فواعل متنافسة تتقاطع مصالحها في لحظة وتتصادم في أخرى. هذه الظاهرة، برأي آق أحمدو، تمثل جوهر الانهيار الاستراتيجي للدولة، لأنها تنقل الصراع من بُعده العسكري إلى بعده البنيوي – صراع على الشرعية، والتمثيل، والسيادة ذاتها.

ويخلص البروفيسور إلى أن التحول الاستراتيجي في العنف المالي هو نتيجة مباشرة لاختلال التوازن بين السلطة والشرعية من جهة، والقدرة والأداء الأمني من جهة أخرى. فحين تُدار الدولة بمنطق الطوارئ دون مشروع وطني، يتحول الأمن إلى أداة بقاء لا إلى رؤية استقرار. وبذلك، فإن الخطر الذي يهدد مالي اليوم ليس التمدد الميداني للقاعدة، بل العجز البنيوي للسلطة عن استيعاب منطق الصراع الجديد. إنها تواجه عنفاً لم يعد يسعى إلى إسقاطها، بل إلى استبدالها كمنظومة حكم داخل الفراغ الذي خلّفته سياساتها.

دور الفيلق الإفريقي وفرق FA وMA في تمكين القاعدة

يشير التحليل الاستراتيجي إلى أن مالي لم تعد تواجه فقط تحديات الجماعات المسلحة، بل أزمة هيكلية مرتبطة بفشل السلطة الانتقالية في إدارة مؤسساتها بشكل فعال، وهو الفشل الذي ساهم بشكل مباشر في تمكين تنظيم القاعدة من التقدم نحو العاصمة باماكو. وفق تصريح إبراهيم ماطار، مدير مركز المعهد الإفريقي في فرنسا، لـ«الأيام نيوز»، فإن “وجود الفيلق الإفريقي وفرق FA وMA، بدل أن يكون ضامنًا للأمن، ساهم في خلق فراغ مؤسسي استغله التنظيم لتوسيع نفوذه. فالتركيز على حماية نقاط محدودة وممرات استراتيجية دون غيرها ترك باقي الأراضي عرضة للسيطرة، وهو ما أتاح للقاعدة استغلال الانقسام بين القوى الأمنية للتحرك بحرية.”

إبراهيم ماطار

ويضيف ماطار أن هذا النمط من الوجود العسكري يكرّس ما يسميه “اللامركزية القسرية”، حيث تتحول الجماعات المسلحة إلى فواعل أمنية واقتصادية في المناطق التي تتخلى عنها الدولة، بينما تبدو السلطة الانتقالية عاجزة عن فرض سيطرتها خارج المدن الكبرى. الفيلق الإفريقي وفرق FA وMA لم تُنظّم القوات المحلية أو تعزز القدرات الوطنية، بل عملت كغطاء رمزي للسلطة، ما أدى إلى استمرار ضعف الرقابة على الموارد والطرق الحيوية، وتسهيل وصول الجماعات المسلحة إلى مناطق كانت الدولة تعتبرها تحت سيطرتها.

ويشير ماطار إلى أن هذا الأداء الهش ساهم بشكل غير مباشر في استراتيجية القاعدة نفسها، حيث أصبح بإمكان التنظيم استغلال غياب التنسيق المركزي وضعف الخطط الاستراتيجية للجيش المالي للتمدد تدريجيًا. فالتهديد الأمني لم يعد مجرد مسألة تصدي للهجمات، بل أصبح مرتبطًا بعجز الدولة عن تأمين المساحات الحيوية وإدارة الموارد الحيوية، وهو ما يجعل أي تدخل عسكري محدود غير فعّال، بينما يستمر التنظيم في تعزيز نفوذه تدريجيًا.

وبذلك، يُظهر التحليل أن الفيلق الإفريقي وفرقتي FA وMA، بدل أن يكونا حاجزًا أمام التقدم الاستراتيجي للقاعدة، شكّلا عاملًا مهيئًا للتوسع من خلال ترك مناطق شاسعة بلا حماية، وتعزيز اعتماد السلطات على التدخلات الخارجية بدل بناء قدرات وطنية فعّالة. كما أن الوجود الجزئي لهذه الفرق عزز إحساسًا زائفًا بالأمن في العاصمة، بينما كانت الجماعات المسلحة تنسج شبكات نفوذها بعيدًا عن الرقابة المباشرة، مستفيدة من ضعف الدولة على الأرض.

في المحصلة، يؤكد إبراهيم ماطار أن “تقدم القاعدة في مالي ليس مجرد نتيجة لضعف الجيش أو مهارة التنظيم، بل هو انعكاس مباشر لفشل الدولة واللامركزية القسرية التي أنتجها الاعتماد على الفيلق الإفريقي وفرق FA وMA، وهي قوى لم تعالج الأزمة الاستراتيجية، بل ساعدت في تمكينها.” هذا يعني أن أي استقرار محتمل يعتمد على إعادة بناء الدولة من الداخل وتعزيز قدراتها المركزية، وإلا فإن التقدم الاستراتيجي للقاعدة سيستمر، مستفيدًا من كل ثغرة تتركها السلطة الانتقالية على الأرض.