قبل أيام قليلة من انعقاد جلسة مجلس الأمن الحاسمة بشأن الصحراء الغربية، وجّه الرئيس الصحراوي والأمين العام لجبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، رسالة رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في خطوة وُصفت بأنها من أقوى رسائل الجبهة خلال السنوات الأخيرة، لما حملته من لهجة قانونية صارمة ومضامين تُعيد ترتيب النقاش داخل أروقة المنظمة الدولية حول مسؤولية الاحتلال المغربي عن استمرار النزاع.
وجاءت الرسالة في توقيتٍ بالغ الحساسية، إذ تتجه الأنظار إلى نيويورك حيث يناقش مجلس الأمن تجديد ولاية بعثة المينورسو نهاية أكتوبر الجاري، لتُعيد البوليساريو عبر هذه الخطوة التأكيد على موقفها الثابت بأن المغرب هو الطرف الوحيد المسؤول عن انهيار اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1991، وأن أي مسار نحو السلام الحقيقي يجب أن يبدأ بالاعتراف بمسؤولية الاحتلال عن خرق الاتفاق وعرقلة مسار تقرير المصير.
ومن خلال هذه الرسالة، بدا واضحا أن جبهة البوليساريو تسعى إلى تجاوز الخطاب التوصيفي المعتاد نحو مقاربة قانونية هجومية، تستند إلى قرارات الأمم المتحدة نفسها لتُحمّل المغرب المسؤولية الكاملة عن التصعيد الميداني، وتضع المجتمع الدولي أمام اختبار جديد لمصداقيته في التعامل مع قضية تُعدّ آخر ملف لتصفية الاستعمار في إفريقيا. وهكذا، كانت الرسالة وثيقة مرافعة أممية تعيد صياغة معادلة السلام على قاعدة واحدة: لا تسوية من دون محاسبة الاحتلال.
وفي هذا السياق، يرى المحلل الصحراوي محمد خطري في تصريحٍ لـ«الأيام نيوز» أن الرسالة «لا تُقرأ كلائحة احتجاج، بل كوثيقة تأريخ سياسي وقانوني تعيد ترتيب النقاش داخل أروقة الأمم المتحدة، وتضع المجتمع الدولي أمام مرآة التناقض بين قراراته وممارساته».
تحميل المغرب المسؤولية الحصرية عن انهيار وقف إطلاق النار
منذ بداية النزاع، حرصت جبهة البوليساريو على توثيق الخرق المغربي لاتفاق وقف إطلاق النار الذي أُقرّ سنة 1991 تحت إشراف الأمم المتحدة، معتبرة أن ما حدث في نوفمبر 2020 بمنطقة الكركرات لم يكن حادثًا معزولًا، بل تتويجًا لمسارٍ طويل من الانتهاكات المغربية.
وفي رسالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ذكّر الرئيس الصحراوي إبراهيم غالي بأن "السبب الجذري للوضع الحالي هو الخرق المادي والسياسي من قبل دولة الاحتلال المغربي لاتفاق وقف إطلاق النار والاتفاقيات العسكرية ذات الصلة، عندما قامت قواتها بالتوغل في المنطقة العازلة بالكركرات في 13 نوفمبر 2020"، مشيرا إلى أن هذا الفعل مثّل إعلانا صريحا عن نهاية الاتفاق الأممي الذي صمد قرابة ثلاثة عقود.
وأضافت الجبهة أن قوات الاحتلال المغربي "أطلقت النار أولا وأنهت إغلاق ثغرة الكركرات"، في انتهاك واضح لبنود الاتفاق الأممي، مشيرة إلى أن تقارير الأمم المتحدة السابقة، بما فيها تقرير (S/2021/843)، تؤكد تلك الوقائع وتوثّقها بشكل رسمي.
ويقول المحلل الصحراوي محمد خطري لـ«الأيام نيوز» إن "الرسالة لم تكتفِ بالتذكير التاريخي، بل استخدمت وثائق الأمم المتحدة نفسها كسلاح إثبات قانوني، لتبرهن أن المغرب هو من بدأ التصعيد المسلح، وأن الاحتلال هو أصل كل اختلال سياسي أو ميداني منذ عام 2020".

المحلل الصحراوي محمد خطري
ويضيف: "هذه ليست مراسلة دبلوماسية عادية، بل إعادة صياغة لمعادلة السلام: لا يمكن مساواة الجلاد بالضحية، ولا يمكن الحديث عن وقف إطلاق نار في ظل استمرار الاحتلال العسكري للأراضي الصحراوية."
وتشير الجبهة في رسالتها إلى أن مجلس الأمن مدعوّ إلى "تحمّل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية" عند مناقشة تمديد بعثة المينورسو، معتبرة أن الصمت الدولي عن الخرق المغربي هو ما شجّع الرباط على "فرض واقع الاحتلال بالقوة، في تحد صارخ لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها".
من الشكوى إلى المواجهة الدبلوماسية.. البوليساريو تعيد رسم قواعد الاشتباك
لم تقتصر رسالة البوليساريو على البعد العسكري والسياسي فحسب، بل أفردت مساحة واسعة لما وصفته بـ«الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة»، منتقدةً ما اعتبرته «سكوتا دوليا مريبا» عن ممارسات الاحتلال المغربي ضد المدنيين الصحراويين والمدافعين عن حقوق الإنسان. هذا البعد الحقوقي أضفى على الرسالة طابعًا مزدوجًا يجمع بين الخطاب القانوني والنداء الإنساني، ليضع الأمم المتحدة أمام اختبارٍ أخلاقي لا يقلّ أهمية عن التحدي السياسي.
وفي نص الرسالة، أكدت الجبهة أن «المغرب ليس له أي سيادة على الصحراء الغربية وفقًا لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة 34/37 و35/19»، مشدّدة على أن أي تقارير صادرة عن مؤسسات مغربية أو تابعة للرباط لا يمكن اعتبارها مرجعًا شرعيًا لأنها «صادرة عن كيان يمارس الاحتلال العسكري». كما دعت إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع السجناء السياسيين الصحراويين الذين يعانون من «احتجازٍ تعسفي وتعذيبٍ ومنعٍ من الزيارات العائلية»، في خرقٍ واضح لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.
وفي تعليقٍ لـ«الأيام نيوز»، قال الإعلامي الصحراوي إبراهيم الحافظ إن الرسالة تمثل "إعادة كتابة لقواعد الاشتباك الدبلوماسي" بين الشعب الصحراوي والمجتمع الدولي، موضحًا أن "البوليساريو تخلّت في هذا الخطاب عن اللغة الدفاعية التقليدية لصالح خطاب هجومي قانوني، يُدين الاحتلال بالأدلة الأممية ذاتها، ويطالب الأمم المتحدة بالانتقال من دور المراقب إلى دور الفاعل المنفّذ لتصفية الاستعمار".

الإعلامي الصحراوي إبراهيم الحافظ
ويضيف الحافظ أن "الرسالة جاءت في توقيت مدروس قبيل اجتماع مجلس الأمن، لتمنع تكرار الخطأ الدبلوماسي المتمثل في مساواة الطرف المحتل بالطرف الواقع تحت الاحتلال. إنها إعلان بأن العودة إلى ما قبل نوفمبر 2020 لم تعد ممكنة، وأن أي حديث عن تسوية سياسية يجب أن يبدأ من الاعتراف بالعدوان المغربي".
وتختتم الجبهة في رسالتها تأكيد استعدادها الكامل للتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي من أجل التوصل إلى حلٍّ سلميٍ وعادلٍ ودائم للنزاع، شرط أن يكون مبنيًا على الاحترام الكامل لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير والاستقلال، وهو حق "غير قابل للتصرف أو المقايضة"، بحسب نص الرسالة. ويشير الحافظ إلى أن "إصرار الجبهة على استخدام مصطلحات مثل تصفية الاستعمار والاحتلال العسكري المغربي ليس عفويًا، بل مقصود بعناية لإعادة النقاش إلى جذوره القانونية الأولى، بعيدًا عن الطروحات التي تحاول تصوير الصحراء الغربية كقضية نزاعٍ حدودي أو إقليمي."
ويستخلص المراقبون أن الرسالة الأخيرة لجبهة البوليساريو تُعدّ تحوّلا نوعيا في الخطاب الدبلوماسي الصحراوي، إذ انتقلت من مرحلة الدفاع عن الحق إلى مرحلة توظيف القانون الدولي كسلاح سياسي مشروع. فبينما تواصل الرباط سعيها لتكريس واقع الاحتلال كأمر مفروض، تبدو البوليساريو عازمة على إعادة تعريف معركة الشرعية الدولية من داخل مؤسسات الأمم المتحدة نفسها، مستخدمة لغتها ومراجعها القانونية لإحراج مراكز القرار في نيويورك.
وفي وقت تتزايد فيه الضغوط الحقوقية والإنسانية على المجتمع الدولي للتحرك، تعيد الرسالة الصحراوية التذكير بأن قضية الصحراء الغربية تعد آخر ملف مفتوح لتصفية الاستعمار في إفريقيا، وأن فشل الأمم المتحدة في تطبيق قراراتها سيعني عمليا إقرارا باستمرار الاحتلال. وبذلك، وجّهت البوليساريو عبر رسالتها تحذيرا واضحا: إمّا سلام عادل على أساس القانون الدولي، أو مواجهة مفتوحة إلى أن يتحقق حق تقرير المصير.

