2025.09.30
عاجل :



من\ سياسة

من"الممر الهندي-الأوروبي" إلى "ممر ترامب.. إعادة رسم خرائط النفوذ


ربيعة خطاب
26 سبتمبر 2025

تشهد الساحة الدولية اليوم تحولات جذرية في بنية الاقتصاد العالمي، حيث لم تعد المنافسة محصورة في الأسواق المالية أو التكنولوجيا، بل امتدت إلى البنية التحتية والممرات الاستراتيجية التي تعيد رسم خرائط التجارة بين الشرق والغرب.

في هذا السياق، يبرز "الممر الهندي–الأوروبي" الذي جرى الإعلان عنه في قمة العشرين الأخيرة، كأحد أبرز المشاريع الطموحة الرامية إلى ربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، في مقابل مبادرة "الحزام والطريق" الصينية التي مضى على إطلاقها أكثر من عقد، ونجحت في مدّ شبكات برية وبحرية عملاقة تربط آسيا بإفريقيا وأوروبا.

تعتبر هذه الممرات التجارية أكثر من مجرد خطوط للنقل أو مشاريع للبنية التحتية؛ فهي تعكس تحالفات اقتصادية جديدة، تعيد ترتيب موازين القوة والنفوذ، وتكشف عن مساعٍ متوازية للهند والصين لتكريس موقعهما كقوتين عالميتين عبر بوابة التجارة والربط اللوجستي.

وإذا كان "الحزام والطريق" قد اكتسب زخما واسعا، مدعوما باستثمارات ضخمة وتجربة ميدانية ممتدة عبر عشرات الدول، فإن "الممر الهندي–الأوروبي" يحاول أن يقدّم نفسه كبديل استراتيجي، يربط بين الديمقراطيات الغربية والاقتصاد الهندي الصاعد، مع وعود بتقليص زمن وكلفة التبادل التجاري.

وسط هذه التحولات، يبرز موقع العالم العربي باعتباره قلب هذه الممرات الجديدة. فالدول العربية، وبخاصة الواقعة في الخليج والبحر الأحمر وشرق المتوسط، لا تشكّل مجرد ممر جغرافي عابر، بل هي فضاء استراتيجي تتقاطع فيه المصالح العالمية. فالموانئ العربية، وخطوط السكك الحديدية الجاري تطويرها، والمشاريع اللوجستية الكبرى، تجعل من المنطقة لاعبا محوريا في رسم مستقبل هذه الشبكات. غير أن السؤال الجوهري يكمن في: هل ستتمكّن الدول العربية من استثمار هذا الموقع الجغرافي لتتحول إلى مراكز اقتصادية عالمية، أم ستكتفي بكونها ممرات تستخدمها القوى الكبرى ضمن صراع النفوذ؟

إن المقارنة بين "الممر الهندي–الأوروبي" و"الحزام والطريق" لا تقتصر على البعد الاقتصادي، بل تمتد إلى البعد السياسي والاستراتيجي، حيث يمثّل كل مشروع انعكاسا لخيارات التحالف والتوازنات الدولية.

ومن هنا، فإن فهم دور العرب في هذه المعادلة يتطلب قراءة مزدوجة: من جهة النظر إلى الفرص الاقتصادية والتنموية التي توفرها هذه الممرات، ومن جهة أخرى تقدير المخاطر السياسية المرتبطة بالانخراط في مشاريع تحمل بصمات تنافسية بين قوى كبرى.

وفي هذا السياق، يتحدث الدكتور محمود الهاشمي، مدير مركز الاتحاد للدراسات الاستراتيجية في العراق، لـ"الأيام نيوز"، موضحا أن التحالفات الاقتصادية الجديدة، بما فيها مشروع الممر الهندي–الأوروبي في مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، لا يمكن فصلها عن السياق الجيوسياسي الذي فرضته التحولات الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة.

ويرى الهاشمي أن الإعلان عن مشروع الممر الهندي–الأوروبي جاء في الأساس لتقليص الاعتماد الأوروبي على مصادر الطاقة الروسية، إلا أن اندلاع معركة طوفان الأقصى قبل عامين قلب الموازين وأوقف ديناميكيات هذا المشروع، بعدما بدا الكيان الصهيوني منبوذا ليس فقط على مستوى المنطقة، بل حتى من جانب العديد من القوى الدولية الكبرى، باستثناء الولايات المتحدة.

الدكتور محمود الهاشمي، مدير مركز الاتحاد للدراسات الاستراتيجية في العراق

ومع اشتداد الغضب العربي والإسلامي ضد "إسرائيل"، توقفت ماكينة "التطبيع" التي كانت تمثّل ركيزة أساسية للمشروع الإبراهيمي، فيما وصلت الخلافات بين تركيا والكيان الصهيوني إلى مستوى أقرب إلى "حالة الحرب".

وفي الإطار ذاته، يلفت الهاشمي إلى أن السياسات الاقتصادية الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، مثل قرار مضاعفة الرسوم الجمركية على الواردات من الهند إلى 50%، دفعت بالعلاقات الأميركية–الهندية إلى مسار متوتر، ما شجع نيودلهي على الاقتراب أكثر من الصين وروسيا وإيران.

ويضيف أن واشنطن، منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، سعت إلى تشديد الحصار الاقتصادي عليها، باعتبارها "العدو الأول" بعد احتلال سفارتها في طهران وتسليمها لمنظمة التحرير الفلسطينية.

ويؤكد الهاشمي أن إيران استطاعت مواجهة الضغوط عبر فتح منافذ تجارية مع دول الجوار، وتطوير موانئها، وتعزيز شراكاتها مع العراق بعد سقوط النظام السابق عام 2003. فطول الحدود المشتركة (1450 كيلومترا) وتعدد المنافذ (24 منفذا بريا وبحريا وجويا) جعل من العلاقة الاقتصادية بين بغداد وطهران عنصرا صعبا على واشنطن تعطيله. ومع ذلك، حاولت الولايات المتحدة عرقلة هذه العلاقة عبر منع استيراد الغاز الإيراني للعراق، والتدخل لوقف مشروع خط السكك الحديدية بين شلامجة والبصرة (33 كلم فقط).

ويشير الهاشمي إلى أن مشروع الممر الهندي–الأوروبي لم يكن موجها ضد الصين فقط، بل كان يستهدف أيضا إيران عبر محاصرتها جغرافيا واقتصاديا، خصوصا مع إحياء مشروع ممر زنغزور بين أرمينيا وأذربيجان برعاية أميركية. بل إن الاتفاق الموقّع في أوت/ أغسطس الماضي أعاد رسم خريطة الممرات التجارية في جنوب القوقاز، وأدخل واشنطن لاعبا مباشرا عبر شركاتها، حتى جرى الحديث عن تسمية الممر بـ"ممر ترامب". وهو ما أثار غضب طهران التي رأت فيه تهديدا مباشرا لتجارتها ونفوذها الإقليميين.

أما العراق، فقد أعلن عن مشروع طريق التنمية أو "القناة الجافة"، وهو مشروع سككي وبري ضخم يربط الخليج العربي شمالا بتركيا وأوروبا، عبر ميناء الفاو الكبير وصولا إلى منفذ فيشخابور شمال العراق. بكلفة تقدّر بـ17 مليار دولار، وطول يتجاوز 1175 كيلومترا، يهدف المشروع إلى جعل العراق عقدة تجارية لنقل البضائع بين 25 دولة. إلا أن المشروع، الذي وُضع مخططه من قبل شركة إيطالية، اصطدم بتحديات كبيرة، أبرزها غياب الحاضنة الشعبية في العراق، نتيجة الشكوك بأنه مخطط أميركي يهدف إلى دمج العراق في محور التطبيع مع "إسرائيل" وليكون بديلا عن طريق الحرير الصيني.

ويتابع الهاشمي أن هذه الشكوك تفاقمت مع أزمة الثقة العميقة بين الشعب العراقي والولايات المتحدة، خصوصا بعد انحياز واشنطن المطلق ل "إسرائيل" في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين خلال معركة طوفان الأقصى، إضافة إلى ما يراه كثير من العراقيين استهدافا مباشرا لعلاقاتهم المتينة مع إيران. وهو ما جعل المشروع يواجه عراقيل سياسية واقتصادية واجتماعية، فضلا عن الصعوبات المالية التي لم تُحل بعد.