خلال سبعينيات القرن الماضي، ألقى الشيخ العلاّمة "أحمد حمّاني" محاضرة بمكّة المكرمة في الندوة العالمية الخامسة لرابطة العالم الإسلامي أيام الحج، بعنوان "من هدى القرآن وتربيته"، قدّم فيها أهم المفاتيح التي تحمي المُسلم من السقوط في الغلو في الدين، بالإفراط أو بالتفريط، كما قدّم "المعادلة" التي تجعل من الأمّة الإسلامية قوية عزيزة وتحفظها من التبعيّة إلى الغرب، وتحصّنها ضد الأفكار الهدّامة التي تستهدف إفراغها من محتوياتها الروحانية وإغراقها في الماديّة المُسرفة.. إن اختيار شيخنا العلاّمة لهذا الموضوع في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأمة استدعاه "الحراك الفكري" الذي اتّسم بالغلوّ في الدين وظهور التفكير التكفيري وبروز مظاهر ضعف الأمة وقابليتها للارتماء في أحضان الغرب وإن كان بشكل غير مُعلن! ولو أن الأمّة تنبّهت إلى دعوة شيخنا في ذلك الوقت ما وصلت إلى حالتها الراهنة المتميّزة بالتفكّك والضعف وولاء البعض للغرب المعادي للإسلام والمُسلمين. إن رؤية شيخنا كانت واضحة جليّة، فالعرب إذا ما استمسكوا بالدين الصحيح وارتبطوا بالقرآن الكريم فإنهم يستطيعون تحقيق المعجزات في فترات زمنية قصيرة، وإذا ما ابتعدوا عن الدين الصحيح وهجروا القرآن الكريم فإنهم يعودون إلى طبيعتهم المتناحرة. قال شيخنا: "فإن أكبر هجران للقرآن أن تُعطّل أحكامه وأن يُحلّل حرامه ويُحرّم حلاله، وإنّ هذا لَهُو شأن الكثير من المسلمين اليوم، ولذا كانوا كغثاء السيل، ولو التزموا أحكام القرآن، وساروا على نهجه لكانوا - في كل زمان ومكان - خير أمة أُخرجت للناس، طهارة نُفوس، ومتانة أخلاق، وعلمًا وقوة وحضارة وتفوّقًا في كل ميدان". ويؤكد شيخنا بأن سعادة المُسلم في القرآن الكريم ففيه كل مفاتيح السعادة، يقول: "إننا لنجد كتاب ربّنا يعلّمنا كيف نكون المفلحين في حياتنا، السعداء في دنيانا، المنتصرين على أعدائنا، وفي آياته المحكمة أوامر ونواهي وأمثال ومواعظ وأخبار تعلّم الأمّة الإسلامية كيف تكون القوية المتغلّبة العزيزة الفائزة برضى الله وجنّاته في الآخرة والنصر والظفر في الدنيا". نشرت جريدة "الأيام نيوز" مقالات للشيخ العلاّمة "أحمد حماني" خلال هذا الشهر الفضيل، وتعيد الجريدة نشر مقالة أخرى حول "هدى القرآن وتربيته".. والشيخ العلّامة "أحمد حماني" (1915 - 1998) هو من أبرز العلماء الرّاسخين في العلم الذين أنجبتهم الجزائر في العصر الحديث، عاش حياةً حافلة بالجهاد في مجالات التعليم والإصلاح والثورة.. ويُعتبر من أكبر العلماء العارفين بالمذهب المالكي، وله فتاوي شهيرة منها "حرمة موالاة الكافر والاستعانة به على المؤمنين" واعتبر ذلك ردّةً عن الإسلام، وفتوى "حرمة الزواج من الفرنسيات" استنادًا إلى فتوى الشيخ "ابن باديس" التي حرّم بموجبها الزواج بالفرنسيات، وغيرها من الفتاوي التي أثار بعضُها جدلا كبيرًا في وقتها.. أثرى العلّامة "أحمد حماني" المكتبة الجزائرية والعربية عموما بمؤلّفات عديدة منها: "فتاوي الشيخ أحمد حماني"، "من الشهداء الأبرار: شهداء علماء معهد عبد الحميد بن باديس"، "الإحرام لقاصدي بيت الله الحرام".. بالإضافة إلى كتاباته الغزيرة في الصحافة الجزائرية والتونسية قبل ثورة التحرير الوطني وخلالها وفي ظلال الاستقلال. ومن أبرز المسؤوليات التي اضطلع بها منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، رئاسته للمجلس الإسلامي الأعلى.. وفيما يلي نترك القارئ مع مقالة شيخنا رحمه الله.. الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيّما لينذر باسا شديدا من لدنه ويبشّر المؤمنين. والصلاة والسلام على عبده محمد النبي الأمين. بعثه بالهدى ودين الحق رسولا في الأميين، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وعلى آله وصحابته الذين كانوا معه خير أمّة أخرجت للناس آمرين بالمعروف وعن المنكر ناهين، أشداء على الكفار رحماء بينهم راكعين لربهم ساجدين أذلّة على المؤمنين، أعزّة على الكافرين. وعلى التابعين منهاجهم مِمّن يقولون: "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ" (سورة الحشر، الآية: 10). أما بعد: فإن القرآن كتاب الله العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد، أنزل إلينا برهانًا من ربّنا ونورا مُبينا، لا يضلّ من سلك السبيل على نوره فإنه المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وإنّما يضلّ عن الصراط السويّ من أعرض عنه ولغى فيه واتبع هواه بغير هدى من الله، فسلك طريق الرّدى، واستحبّ العمى على الهدى فاستحق عذاب الهون. إن القرآن الكريم أُنزل هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، يهدي للتي هي أقوم ويبشّر المؤمنين، أنزله الله الحكيم العليم على نبيّه الكريم ليُخرج به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم إلى صراط العزيز الحميد، من ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات الشك والريب إلى نور اليقين والاطمئنان، ومن ظلمات الجهل والعماية إلى نور العلم والبصيرة، ومن ظلمات الظلم والطغيان إلى نور العدل والتواضع والإحسان، ومن ظلمات الرعب والخوف إلى نور الأمن والسلام والأمان. إن القرآن المُنزل أحسن الحديث، وأبلغ المواعظ، يداوي النفوس فيشفيها ويبرئ سقمها وينقيها، وينقذ الأرواح ويهديها، ويسعد الأفراد والأمم ويعليها، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (سورة يونس، الآية: 57)، "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (سورة الزمر، الآية: 23). وإنما أنزله الله علينا، وبعث به رسوله إلينا لنستمع إليه، ونهتدي بهديه ونعمل بأحكامه، ونعلم علومه ونتّعظ بمواعظه، وإن لم نفعل ذلك فلسنا على شيء كما قال تعالى فيمن قبلنا: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (سورة المائدة، الآية: 68). فمن قال: أسلمتُ، ولم يقم بفرائض الإسلام، أو قال: آمنت بالرحمان، وهو يعطّل ما شرّعه القرآن، ويجادل بالباطل ليستبدل الذي هو أدنى من قوانين الإنسان، بالذي هو خير من أحكام الفرقان، فقد اتخذ إلهه هواه وصدق عليه شكوى الرسول الذي قال: "يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (سورة الفرقان، الآية: 30). فإن أكبر هجران للقرآن أن تُعطّل أحكامه وأن يُحلّل حرامه ويُحرّم حلاله، وإنّ هذا لَهُو شأن الكثير من المسلمين اليوم، ولذا كانوا كغثاء السيل، ولو التزموا أحكام القرآن، وساروا على نهجه لكانوا - في كل زمان ومكان - خير أمة أُخرجت للناس، طهارة نُفوس، ومتانة أخلاق، وعلما وقوة وحضارة وتفوّقا في كل ميدان. أُنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم هدى للناس، ومن التزم الهداية الربّانية لم يضلّ أبدا، إن من هذا الهدى القرآني استعمال العقل والتفكير في آيات الله الكونية، وآياته المقروءة القرآنية، وقد أمر الله بتدبّر هذه الآيات وتفهّمها والغوص في معانيها، والتوصّل إلى الحقائق، واستنباط الأحكام واستخراج كنوز العلوم والدقائق، "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (سورة ص، الآية: 29). وقال في الآيات الكونية "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ" (سورة آل عمران، الآية: 190). ثم قال: "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا" (سورة آل عمران، الآية: 191). وقال: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا.." (سورة العنكبوت، الآية: 20). وقال: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (سورة الحج، الآية: 46). فلو أقبل الإنسان على هذه الآيات يتدبّرها، ويدرسها ويستخرج منها الحقائق والعِبَر لاهتدى إلى أقوم السُّبل في دينه ودنياه، وآمن بخالق الكون وعَبَده وحده، وصدّق برسالة النبي واقتدى بهُداه، ولكنه إذا عطّل هذه الموهبة الإلهية عن عملها، وأبطل آلة التفكير، وأغلق بابها وهي ميزته التي كُرّم بها وفُضّل على سائر المخلوقات بها، انحطّ إلى درجة الأنعام بل كان أضلّ منها. لهذا أمر الله سبحانه بتدبّر آياته القرآنية والكونية، ونعى على الذين عطلوها فقال: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (سورة محمد، الآية: 24). وقال: "أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" (سورة المؤمنون، الآية: 68 - 71). وقال: "لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (سورة الأعراف، الآية: 179). وقال: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (سورة الحج، الآية: 46). وإن من هدى القرآن أن الله جعل أمّتنا الإسلامية هي الأمّة الوسط إذ قال: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (سورة البقرة، الآية: 143)، والأمّة الوسط: هي الأمة الخيار لتوسّطها بين طرفَي الإفراط والتّفريط، الإفراط بالإغراق في الروحانية، والتفريط بالانجراف في المادية، وقد أخذ من قبلنا من الأمم بهذا الغلو في أحد الطرفين. جاء الاسلام فأنكر الغلوّ في الدين بالتفاني في الروحانية، والإغراق في العبادة إلى حد الإضرار، والزهد إلى حد إنكار كل حق للجسد، والإعراض عن كل زينة والرغبة عن كل لذة مباحة، وتعذيب النفس والجسد، فإن للجسد حقا، وللنفس حقا، وللأهل حقا، وكان عليه الصلاة والسلام يصوم ويفطر، ويقوم وينام ويأكل اللحم، ويتزوج النساء، ومن رغب عن سنّته فقد برئ منه، لأنه ظلَم واعتدى وجار وما اهتدى، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ" (سورة المائدة، الآية: 87 - 88). وقوله تعالى: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (سورة الأعراف، الآية: 31 - 32). هذا طرف الإفراط، وإنه طرف الاعتداء بالتحريم لِما أحلّ الله، وذلك تّعدٍّ على الله. أما الطرف الآخر فهو التفريط في جنب الله، والإغراق في المادية ونسيان حظ الروحانية، والانهماك في إشباع الغرائز الجنسية، والتهالك على طلب الملذّات واجتناء الشهوات، والإسراف في متاع الدنيا من نزوة وجاه ومُلك وسلطان.. إن ذلك يُميت القلب ويُنسي الربّ، ويُطغي العبد، ويدفع إلى الفجور والفسق والعلو في الأرض والفساد والاستكبار والمكر السيء والكفر، قال تعالى: "وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ" (سورة الأحقاف، الآية: 20). وعمّن أطغتهم السلطة والمادة، قال تعالى: "الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" (سورة الفجر، الآية: 11 - 14). وعن فرعون مثال المُغرق في المادية، المزهو بسلطانه، قال تعالى: "وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (سورة الزخرف، الآية: 51). ثم قال سبحانه وتعالى: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ" (سورة الزخرف، الآية: 54 - 56). هذه أمثلة للماديّين الذين فرّطوا في جنب الله، وكانوا من السّاخرين. وشأن المسلم التوسّط بين الإفراط والتفريط، يعمل للدنيا ولا ينسى الآخرة، يكتسب ويجتهد ولكن لا يحمله استبطاء الرزق على قبول الكسب الحرام. يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا، فإذا آتاه الله مالا شكره بالإنفاق منه في سبيل الله وإعلاء كلمته والبر والإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء كل حقوقه، عالِمًا بأن ما أوتيه ليس بكسبه وعلم من عنده وإنما هو من عند الله فلينفق مما آتاه الله، قال الله تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (سورة القصص، الآية: 77). وإن قدر عليه رزقه قنع وصبر. فالمسلم لا يعيش لدنياه فقط ولكنه لا ينسى نصيبه منها ويسعى للآخرة سعيها وهو مؤمن، ولهذا يكون من الناس الذين يقولون في ابتهالاتهم: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (سورة البقرة، الآية: 201).