في قلب القرن الإفريقي، حيث تتقاطع رهانات النفوذ الدولي على الممرات البحرية الاستراتيجية، عادت قضية ما يُعرف بـ"أرض الصومال" إلى واجهة الأحداث، ليس كملف داخلي صومالي فحسب، بل كأداة تُستعمل في صراع القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين.
فقد أصدرت سفارة جمهورية الصومال الفيدرالية في واشنطن بياناً حاد اللهجة، حذرت فيه الإدارة الأمريكية من أي خطوة قد تُقدم على الاعتراف بالكيان الانفصالي في شمال غرب البلاد، مؤكدة أن مثل هذا القرار يُعد انتهاكاً صارخاً لوحدة الأراضي الصومالية وسيقوّض جهود الاستقرار التي تبذلها الحكومة والشعب الصومالي بعد عقود من الفوضى. وأوضحت السفارة أن الاعتراف بهذا الكيان لن يشجع إلا الجماعات المتطرفة ويُضعف مسار بناء الدولة الوطنية، كما يمنح ذريعة لحركة الشباب الإرهابية وغيرها لترويج خطابها بأن الغرب يسعى إلى تقسيم الصومال.
التحذير الصومالي جاء رداً على رسالة بعث بها السيناتور الجمهوري تيد كروز، رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي المعنية بإفريقيا، إلى الرئيس دونالد ترامب، دعا فيها إلى الاعتراف رسمياً بما يُسمى "أرض الصومال"، معتبراً ذلك خطوة استراتيجية لواشنطن في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة.
وهكذا يتضح أن القضية تتجاوز كونها مجرد نقاش حول إقليم أعلن انفصاله عام 1991 دون أي اعتراف دولي، لتصبح ورقة جيوسياسية ترتبط بالممرات البحرية والموانئ الحيوية والشرعية الدولية نفسها. فمنذ انهيار نظام محمد سياد بري، احتفظ الإقليم بهياكل حكم محلية ورئاسة وانتخابات شكلية، لكنه ظل خارج منظومة القانون الدولي. وبالنسبة لمقديشو، فإن أي محاولة لانتزاع شرعية لهذا الكيان من الخارج تمثل تهديداً مباشراً للسيادة الوطنية، وهو خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
الموقف الصومالي لم يكن وحيداً، إذ سارعت الصين عبر سفارتها في مقديشو إلى رفض دعوات كروز، ووصفتها بأنها تدخل سافر في الشأن الداخلي الصومالي. البيان الصيني شدد على مبدأ احترام السيادة وعدم التدخل، وربط بين الملف الصومالي والقضية التايوانية، حيث إن بكين لم تغفل عن محاولات "أرض الصومال" السابقة لإقامة علاقات مع تايبيه. ومن ثم فإن أي اعتراف أمريكي بهذا الكيان لن يُقرأ فقط كمساس بوحدة الصومال، بل أيضاً كخطوة خطيرة قد تُستغل لاحقاً في ملف تايوان. لذلك جاء الرد الصيني صارماً، واصفاً بعض الأصوات الأمريكية بأنها تمارس "التنمّر والتعالي" على الدول الإفريقية.
أما في واشنطن، فإن الدعوات للاعتراف بـ"أرض الصومال" لا تعكس سياسة رسمية للإدارة الأمريكية، لكنها تعبّر عن تيار داخل دوائر صنع القرار يرى في الإقليم ورقة ضغط استراتيجية على الصين. فالموقع الجغرافي لأرض الصومال على خليج عدن وباب المندب، ووجود ميناء بربرة الذي طوّرته شركة موانئ دبي العالمية، يجعلان من الإقليم نقطة جذب لأي قوة تبحث عن موطئ قدم في أهم الممرات البحرية العالمية. بالنسبة لواشنطن، فإن أي وجود عسكري أو لوجستي هناك يُعد فرصة لموازنة النفوذ الصيني في جيبوتي، حيث تدير بكين قاعدتها العسكرية الأولى خارج أراضيها. لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر: إذ يهدد علاقة الولايات المتحدة بالحكومة الصومالية الشرعية المعترف بها دولياً، كما قد يضعها في مواجهة مباشرة مع الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية اللذين يؤكدان على رفض أي مساس بوحدة الدول الأعضاء.
الأبعاد الإقليمية تزيد من تعقيد المشهد. فالإمارات تسعى لتعزيز نفوذها الاقتصادي والأمني عبر استثماراتها في ميناء بربرة، فيما تنظر إثيوبيا إلى أرض الصومال كمنفذ بحري محتمل بعد فقدانها الوصول إلى البحر. في المقابل، تواصل تركيا وقطر دعم الحكومة الفيدرالية في مقديشو بمشاريع اقتصادية وتعاون عسكري، بينما تراقب مصر والسعودية الوضع من زاوية أمن البحر الأحمر واستقرار الممرات البحرية. هذا التشابك يجعل من قضية "أرض الصومال" نقطة ارتكاز في ميزان القوى الإقليمي والدولي.
خطورة الاعتراف لا تقف عند حدود السيادة الصومالية، بل تمتد إلى قضايا أوسع. فالاتحاد الإفريقي، الذي تأسس على مبدأ احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، يعتبر أن أي اعتراف بكيان انفصالي سيفتح الباب أمام مطالب مشابهة في مناطق أخرى من إفريقيا، وربما في أوروبا وأمريكا الشمالية أيضاً. مثل هذا التطور سيهدد الاستقرار الدولي ويدفع نحو إعادة رسم خرائط دولية غير محسوبة العواقب.
من هنا، تدرك مقديشو أن معركتها ليست فقط من أجل الحفاظ على وحدة أراضيها، بل من أجل حماية النظام الدولي نفسه من الانزلاق إلى فوضى الاعترافات الانفصالية. فالقضية الصومالية تُستخدم كورقة في التنافس الأمريكي – الصيني، لكنها في جوهرها معركة الشعب الصومالي من أجل السيادة والاستقرار بعد أكثر من ثلاثة عقود من التضحيات.
السيناريوهات المستقبلية تبقى مفتوحة. فقد يستمر الوضع الراهن حيث يظل الكيان الانفصالي قائماً عملياً من دون اعتراف، أو قد تلجأ بعض القوى الدولية إلى خطوات رمزية تهدف إلى الضغط السياسي. في المقابل، يبقى خيار التسوية الداخلية مطروحاً، عبر منح هرجيسا حكماً ذاتياً واسعاً في إطار الدولة الصومالية الواحدة، بما يحفظ السيادة ويعزز الاستقرار.
ما هو مؤكد أن الأزمة لم تعد شأناً صومالياً داخلياً فحسب، بل تحولت إلى جزء من معركة أوسع على الشرعية الدولية والممرات البحرية وموازين النفوذ بين القوى الكبرى.
وفي حين تتمسك مقديشو بموقفها الثابت الرافض لأي مساس بوحدة الأراضي، يبقى الرهان على دعم الاتحاد الإفريقي، والجامعة العربية، والشركاء الدوليين الذين يدركون أن استقرار القرن الإفريقي يبدأ من احترام سيادة الصومال.