2025.10.01



شرعية بلا سيادة.. كيف كبّل بروتوكول باريس الاقتصاد الفلسطيني رغم اعتراف العالم بدولته؟ سياسة

شرعية بلا سيادة.. كيف كبّل بروتوكول باريس الاقتصاد الفلسطيني رغم اعتراف العالم بدولته؟


ربيعة خطاب
منذ ساعة واحدة

منذ توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" عام 1993، وما أعقبه من بروتوكول باريس الاقتصادي في أفريل 1994، دخلت العلاقات الفلسطينية – "الإسرائيلية" مرحلة جديدة اتسمت بانتقال القضية من إطار صراع سياسي وعسكري مباشر إلى إطار تفاوضي قائم على ترتيبات أمنية وإدارية واقتصادية.

في قلب هذه الترتيبات برز بروتوكول باريس الذي كان من المفترض أن يكون اتفاقاً انتقالياً لخمس سنوات، لكنه تحول مع مرور الوقت إلى إطار دائم فرض قيوداً هيكلية على الاقتصاد الفلسطيني، وربطه بشكل شبه كامل بالاقتصاد "الإسرائيلي". ومنذ ذلك الحين، لم يعد ممكناً الحديث عن إمكانات بناء سياسة اقتصادية فلسطينية مستقلة دون المرور عبر هذا البروتوكول وما أرساه من آليات.

البروتوكول وضع الفلسطينيين أمام واقع معقد؛ فمن جهة، أتاح تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية مساحة محدودة لإدارة بعض الشؤون الاقتصادية والمالية، لكنه من جهة أخرى أبقى مفاصل الاقتصاد الرئيسية في يد "إسرائيل". فقد نصّ على أن تقوم "إسرائيل" بتحصيل الجمارك وضريبة القيمة المضافة والرسوم على الواردات نيابة عن السلطة، عبر ما يعرف بآلية المقاصة، ثم تحويلها شهرياً للجانب الفلسطيني. هذا الترتيب جعل المالية العامة الفلسطينية رهينة مباشرة لـ"إسرائيل"، إذ يمكنها أن تجمد هذه الأموال أو تخصم منها متى شاءت، ما يؤدي إلى أزمات متكررة تمس دفع الأجور وتفاقم المتأخرات وتزيد من الاقتراض المحلي. إضافة إلى ذلك، فرض البروتوكول توحيد معدلات الضريبة الجمركية ومعايير الاستيراد مع تلك المطبقة في "إسرائيل"، ومنحها سيطرة كاملة على المعابر الحدودية، ما منع الفلسطينيين فعلياً من ممارسة سياسة تجارية مستقلة أو تنويع شركائهم الدوليين.

هذا الواقع انعكس على طبيعة الاعتماد المتبادل بين الاقتصادين، لكنه كان في معظم الأحيان اعتماداً غير متكافئ. فقد أصبحت السوق "الإسرائيلية" الوجهة الرئيسية للصادرات الفلسطينية ومصدراً رئيسياً للواردات، كما شكلت "إسرائيل" المعبر الوحيد تقريباً لتدفق السلع والخدمات. ومع كل إغلاق أو تضييق أمني، كانت تكاليف النقل والإمداد ترتفع، في حين يتعطل الإنتاج المحلي ويتراجع الاستثمار. كما أن القيود على حرية حركة العمال والبضائع، عبر الحواجز والبوابات والإغلاقات المتكررة، خلقت بيئة اقتصادية عالية المخاطر وغير مستقرة، ما قلل من القدرة التنافسية وأبقى العجز التجاري في مستويات مرتفعة.

في المقابل، وعلى الصعيد السياسي والدبلوماسي، حققت فلسطين خلال العقود الثلاثة الماضية تقدماً كبيراً في مكانتها الدولية. فاعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بها كدولة غير عضو عام 2012 كان محطة مفصلية فتحت الباب أمام انضمامها إلى منظمات دولية عديدة، مثل اليونسكو والمحكمة الجنائية الدولية. ومنذ ذلك الحين ارتفع عدد الدول التي تعترف رسمياً بدولة فلسطين ليصل إلى أكثر من مئة وخمسين دولة حتى سبتمبر 2025. هذا الاعتراف الواسع منح الفلسطينيين شرعية دبلوماسية متنامية، عززت حضورهم في المنتديات الدولية وأتاحت لهم إمكانية الانخراط في ترتيبات تمويل وتنمية متعددة الأطراف، كما رفعت الكلفة السياسية لاستمرار الاحتلال وسياساته التقييدية.

غير أنّ السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدى يمكن لهذه الشرعية الدبلوماسية أن تتحول إلى مكاسب اقتصادية ملموسة في ظل استمرار العمل ببروتوكول باريس. فحتى مع الاعتراف الدولي المتزايد، تبقى القيود المفروضة على الحدود والمعابر والسياسات التجارية والجمركية عائقاً أساسياً أمام استفادة فلسطين من هذا الرصيد الدبلوماسي. إذ لا يمكن لفلسطين أن تدخل في اتفاقيات تجارية ثنائية أو أن تطور استراتيجيات اقتصادية مستقلة ما دامت تفتقر إلى السيطرة على منافذها وحدودها. ومن هنا يظهر التناقض بين توسع الاعتراف السياسي بالدولة الفلسطينية وبين ضيق الفضاء الاقتصادي المتاح لها عملياً على الأرض.

تزداد هذه المعضلة وضوحاً عند النظر إلى مسألة التمويل الدولي. فاعتراف أكثر من 150 دولة بفلسطين نظرياً يفتح المجال واسعاً أمامها للاستفادة من مؤسسات التنمية والتمويل الدولية، والحصول على قروض ميسرة أو منح تنموية مباشرة. لكن غياب السيطرة على التحويلات المالية، وخضوعها لآلية المقاصة "الإسرائيلية"، يجعل أي تدفقات مالية معرضة للاقتطاع أو التأخير. كذلك، فإن أي مشروع تنموي يحتاج عملياً إلى المرور عبر منظومة المعابر التي تتحكم بها "إسرائيل"، ما يعني أن تنفيذ المبادرات الاقتصادية يظل مرهوناً بقرار الطرف "الإسرائيلي"، بصرف النظر عن حجم الدعم الدولي المقدم.

ومع استمرار هذا الواقع، تتراجع قدرة الاقتصاد الفلسطيني على الاستفادة من الاعترافات الدبلوماسية المتزايدة. فبدلاً من أن تتحول الشرعية الدولية إلى رافعة للتنمية وبناء مؤسسات الدولة، تبقى هذه الشرعية ذات أثر رمزي أكثر منه عملي، طالما لم يقترن الاعتراف السياسي بإجراءات فعلية تعزز السيادة الاقتصادية. الأمر لا يرتبط فقط بغياب السيطرة على المعابر، بل أيضاً بعدم وضوح الحدود النهائية للدولة الفلسطينية، وهو ما يضعف إمكانية صياغة سياسات اقتصادية متماسكة أو الدخول في التزامات تجارية طويلة الأجل مع شركاء دوليين.

وهكذا يظهر أن بروتوكول باريس الاقتصادي لم يكن مجرد اتفاق فني لإدارة المرحلة الانتقالية، بل تحول إلى أداة هيكلية تقيّد تطور الاقتصاد الفلسطيني، وتحدّ من قدرته على الاستفادة من الإنجازات السياسية والدبلوماسية. فبينما تراكم فلسطين اعترافات دولية متزايدة، تظل عاجزة عن استثمارها في مسارات اقتصادية استراتيجية بسبب القيود التي يفرضها البروتوكول. هذا التناقض يعكس الفجوة القائمة بين الشرعية السياسية على الساحة الدولية وبين الواقع الاقتصادي على الأرض، وهي فجوة مرشحة للاستمرار ما لم تتم مراجعة جذرية لترتيبات باريس أو إيجاد آليات دولية بديلة تمنح الفلسطينيين قدراً أكبر من الاستقلالية الاقتصادية.

في المحصلة، يمكن القول إن الاعتراف الدولي بفلسطين يرفع الكلفة السياسية لاستمرار الاحتلال ويمنح الفلسطينيين مساحة أوسع للمناورة الدبلوماسية، لكنه لا يغير من حقيقة أن الاقتصاد الفلسطيني مقيد ضمن إطار بروتوكول باريس. هذا الإطار يجعل تحويل الشرعية الدبلوماسية إلى مكاسب اقتصادية عملية محدودة الأثر، ويجعل التنمية الفلسطينية أسيرة لعوامل خارجية أكثر من ارتباطها بقدرة الفلسطينيين على صياغة سياسات داخلية مستقلة. وبذلك، يبقى مستقبل الاقتصاد الفلسطيني معلقاً بين اعتراف دولي متزايد من جهة، وبين منظومة اقتصادية مقيدة من جهة أخرى، ما يطرح تحدياً استراتيجياً لم يتم تجاوزه منذ ثلاثة عقود.

وفي هذا السياق صرّح الخبير الاستراتيجي في الشؤون الأميركية بجامعة كاليفورنيا، إياد عفالقة، لـ"الأيام نيوز" قائلاً:

"منذ توقيع اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994، ظلّ الاقتصاد الفلسطيني أسير قيود مشددة فرضتها "إسرائيل"، بحيث لم يتمكّن الفلسطينيون من بناء سياسة مالية أو تجارية مستقلة. فقد أرسى البروتوكول ما يشبه الاتحاد الجمركي الفعلي مع "إسرائيل"، إذ جرى توحيد الضرائب والمعايير الاستيرادية، بينما احتكرت "إسرائيل" تحصيل الجمارك وضريبة القيمة المضافة عبر آلية المقاصة، وهو ما جعل المالية العامة الفلسطينية رهينة للقرار "الإسرائيلي". وأي تجميد أو اقتطاع من هذه الإيرادات سرعان ما ينعكس بأزمات متكررة تطال قدرة السلطة على دفع الأجور، وتزيد من تراكم المتأخرات، وتدفعها إلى الاقتراض الداخلي بما يفاقم حجم الدين المحلي. هذا النمط استمر طيلة العقود الثلاثة الماضية، ليكشف عن هشاشة هيكلية في الاقتصاد الفلسطيني لا تنفك تتجدد مع كل أزمة.

الخبير الاستراتيجي في الشؤون الأميركية بجامعة كاليفورنيا، إياد عفالقة

وفي الإطار العملي، يضيف عفالقة، أن الاعتماد التجاري واللوجستي على "إسرائيل" يعمّق هذه التبعية؛ فالمعابر تحت السيطرة "الإسرائيلية" الكاملة، والتجارة الخارجية للفلسطينيين مرتبطة كلياً بالسوق "الإسرائيلية"، مما يرفع كلفة المعاملات ويُبقي العجز التجاري كبيراً. ومع كل إغلاق أو تضييق، ترتفع تكاليف النقل والإمداد والإنتاج، فيتراجع الاستثمار وتتقلص القدرة التنافسية، ويصبح الاقتصاد الفلسطيني عاجزاً عن تطوير قاعدة إنتاجية مستقلة.

كما يوضح أن السيطرة "الإسرائيلية" على المعابر والحركة الميدانية عبر الحواجز والبوابات العسكرية والإغلاقات المتكررة في الضفة الغربية وقطاع غزة، لا ترفع فقط التكاليف التشغيلية، بل تؤدي إلى نشوء سوق سوداء بين بعض التجار الفلسطينيين و"الإسرائيليين"، بما يقلّص اليقين التجاري، ويكسر سلاسل العرض، ويخنق الإنتاج المحلي والصادرات. هذا المشهد يترافق مع قيود مالية إضافية على التحويلات وأموال المقاصة، ما يقوّض استدامة المالية العامة، ويحدّ من قدرة الحكومة على تقديم الخدمات العامة أو الاستثمار في البنية التحتية.

ويشير عفالقة إلى أن الشرعية الدبلوماسية التي راكمتها فلسطين، حيث تعترف بها أكثر من 150 دولة حتى سبتمبر الجاري، ترفع الكلفة السياسية لاستمرار هذه القيود، وتتيح نظرياً فرصاً أكبر للنفاذ إلى مؤسسات التمويل والتنمية الدولية وعقد اتفاقيات تعاون جديدة. غير أنّ غياب السيطرة الفلسطينية على الحدود والمعابر، وغياب تعريف واضح لحدود الدولة الفلسطينية المعترف بها، يجعل من الصعب تحويل هذه الشرعية السياسية إلى مكاسب اقتصادية ملموسة. فبدون معالجة جوهرية لبروتوكول باريس أو فرض ترتيبات دولية تضمن قدراً من السيادة الاقتصادية، ستظل هذه المكتسبات الدبلوماسية محدودة الأثر.

ويختم عفالقة تصريحه قائلاً: الواقع على مدى الثلاثين عاماً الماضية يبرهن أن الفلسطينيين لا يملكون سلطة فعلية على أي من أدوات إدارة الاقتصاد، فكل مفصل من مفاصله  من الجباية إلى التجارة مروراً بالإنتاج وحركة الأفراد والأموال  يبقى تحت رحمة الاحتلال "الإسرائيلي".

وما لم يحدث تغيير جوهري في هذا النظام، ستبقى السلطة الفلسطينية محاصرة بين قيود الاحتلال وهشاشة البنية الاقتصادية الداخلية، رغم كل ما تحققه من اعتراف دبلوماسي على الساحة الدولية."