في خضم تصاعد الأحداث في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، برز خطاب الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كإحدى اللحظات المفصلية في التاريخ السياسي للقضية الفلسطينية. فقد تجاوز بيترو حدود الإدانة الدبلوماسية التقليدية، ودعا إلى تشكيل قوة دولية لحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية. لم تكن هذه الدعوة مجرد موقف أخلاقي، بل تمثل إعادة تفكير جذري في طبيعة النظام الدولي القائم.
هذا التحول في الخطاب السياسي الدولي يطرح تساؤلات مهمة حول جدوى النظام الدولي الحالي، القائم على الأحادية القطبية والقوة المادية، ويعكس ميلًا نحو إرساء قيم إنسانية جديدة تقوم على العدالة والمساواة وحماية حقوق الشعوب.
النظام الدولي القائم وحدوده
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تشكّل النظام الدولي على أسس ثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، في إطار بنية دولية فوضوية تفتقر إلى سلطة مركزية لضبط العلاقات بين الدول. ورغم شعارات الحرية وحقوق الإنسان التي رفعتها القوى المنتصرة، برزت الصهيونية كأحد أكبر المستفيدين من هذا النظام. فقد تمكنت، بدعم القوى الغربية، من إقامة دولة "إسرائيل" عام 1948 وترسيخ موقعها الاستراتيجي، على أساس أيديولوجيا توسعية قائمة على العنصرية والإقصاء والهيمنة.
الحرب على غزة أكدت عدم فاعلية النظام الدولي القائم، سواء على مستوى المؤسسات القانونية والسياسية، أو على مستوى المنظومة القيمية. فالأمم المتحدة ومجلس الأمن عجزا عن اتخاذ خطوات فعّالة لوقف العدوان أو حماية المدنيين. هذا العجز كشف التناقض بين القيم المعلنة للنظام الدولي وبين الواقع الذي تحكمه القوة والمصلحة.
دعوة بيترو: كسر الأحادية وبناء بديل
في هذا السياق، جاء خطاب الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو ليشكل منعطفًا رمزيًا وسياسيًا مهمًا. فقد دعا بيترو الدول التي "لا تقبل الإبادة الجماعية" إلى توحيد الجهود العسكرية لحماية فلسطين، مستحضرًا رموزًا تاريخية كالشعب السلافي الذي هزم النازية، وجيوش بوليفار في أمريكا اللاتينية.
هذه الدعوة لم تكن مجرد تعبير عن تضامن أخلاقي، بل تمثل بداية تفكير عالمي جديد يقوم على تعددية الأطراف وتجاوز الهيمنة الأحادية.
وفي هذا السياق، أول من تحدث عن مصطلح الفلستنزم د. إياد البرغوثي من فلسطين إلى الفلستنزم قول في الوعي والمعنى، يظهر الفلستنزم (Palestinism) كقوة قيمية مضادة للصهيونية. فكما استفادت الصهيونية من النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية لترسيخ مشروعها الاستعماري، برزت القيم الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر كنموذج عالمي قائم على:
· الحرية والمساواة والعدالة.
· حق الشعوب في تقرير مصيرها.
بهذا، أصبح الفلستنزم إطارًا عالميًا للنظام الدولي الجديد المحتمل، يقوم على الالتزام بالقانون الدولي وميثاق حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، بدلًا من منطق القوة والمصلحة. أصبحت فلسطين معيارًا أخلاقيًا وسياسيًا عالميًا يقيس التزام المجتمع الدولي بالقيم التي يعلنها.
وقد اكتسبت هذه الدعوة زخمًا إضافيًا مع إعلان الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو استعداد بلاده لإرسال 20 ألف جندي للمشاركة في قوة دولية مقترحة لحماية غزة، ما يعكس ميلًا واضحًا نحو بناء محور عالمي جنوبي قادر على تحدي الهيمنة التقليدية.
فلسطين كبؤرة قيمية للنظام الدولي الجديد
دعوة بيترو تجاوزت البعد السياسي أو العسكري، لتصبح محاولة لإعادة توجيه النظام الدولي نحو القيم الإنسانية. فالقضية الفلسطينية لم تعد صراعًا محليًا أو عربيًا فحسب، بل أصبحت معيارًا عالميًا يقيس صدقية الالتزام بالقيم.
إن الفلستنزم، كمنظومة قيمية عالمية، يقف في مواجهة مباشرة مع الصهيونية ونظام الهيمنة القديم، ويجسد هذا التيار إمكانية ظهور نظام دولي جديد يقوم على العدالة والمساواة وحق تقرير المصير ورفض الهيمنة والاحتكار ويجعل القضية الفلسطينية رمزًا عالميًا للتحول الأخلاقي والسياسي.
ملامح النظام الدولي الجديد المحتمل
استنادًا إلى دعوة بيترو والدعم الدولي الذي أبدته بعض الدول، يمكن ملاحظة بوادر تحول بنيوي وقيمي في النظام الدولي. فبدلًا من الفوضى التي تحكمها القوة، يظهر نموذج يقوم على:
· تعددية الأطراف وتنسيق القوى الدولية من دول الجنوب.
· تحالفات جديدة تتجاوز الاصطفافات التقليدية.
· الالتزام بالقيم الأخلاقية والإنسانية كأساس للعلاقات الدولية.
في هذا النموذج، تصبح فلسطين محورًا مركزيًا يعكس الصراع بين القيم الإنسانية والقيم المهيمنة القديمة. ويشير هذا إلى إمكانية بلورة كتلة عالمية جديدة قادرة على فرض نوع من الضبط الجماعي للفوضى الدولية خارج الهيمنة الغربية التقليدية.
دعوة الرئيس الكولومبي وما تبعها من مواقف داعمة دوليًا ليست مجرد رد فعل على العدوان، بل علامة فارقة على تحول عميق في النظام الدولي. فلسطين، عبر الفلستنزم، لم تعد قضية محلية، بل محرّك عالمي لإعادة صياغة القيم الدولية.
يبقى السؤال الأهم: هل ستستجيب القوى الدولية لهذه الدعوة، أم سيظل النظام القائم عاجزًا عن مواجهة التحديات الأخلاقية والسياسية الجديدة؟ الإجابة ستحدد شكل النظام الدولي لعقود مقبلة.
جمال العبادي، باحث في العلاقات السياسية