2025.09.30



بين الطموح والواقع.. تعددية قطبية أم نظام \ ملفات الأيام

بين الطموح والواقع.. تعددية قطبية أم نظام "أحادي الأقطاب"؟


طاهر مولود
21 سبتمبر 2025

قمة شنغهاي في تيانجين 2025، رسخت صورة المنظمة كمنصة صاعدة تعيد رسم ملامح النظام الدولي، وتدفع نحو تعددية قطبية تتجاوز إرث الهيمنة الأمريكية، فخطابات قادتها لم تقتصر على الدعوات الرمزية، بل اقترنت بمبادرات ومشاريع اقتصادية وأمنية تفتح الباب أمام نظام عالمي أكثر توازنا وتمثيلا.

قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت في مدينة تيانجين في الصين بداية سبتمبر 2025، جسدت محطة جوهرية في مسار التحولات الجيوسياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة الأوروآسيوية والعالم بأسره، فقد جاءت هذه القمة في وقت تتراجع فيه بوضوح معالم النظام الدولي الليبرالي الذي طغت عليه الولايات المتحدة لعقود، وتتصاعد من جهة أخرى محاولات قوى كبرى متعددة، لا سيما الصين وروسيا، لإعادة صياغة موازين القوة وفرض هندسة دولية جديدة مبنية على «التعددية الحقيقية» ومحاور نفوذ جديدة.

ففي الوقت الذي يدعو فيه الرئيس الصيني شي جينغ بينغ إلى ضرورة بلورة نظام جديد لـ"الحوكمة العالمية" يعكس توازنات القوة المتغيرة، جاء رجع الصدى من واشنطن على نحو لافت؛ إذ نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصته "تروث سوشيال" تعليقا بدا كأنه اعتراف بخسارة كبرى، حيث أرفق صورة جمعت قادة الصين وروسيا والهند خلال "قمة شي"، وكتب بسخرية: "يبدو أننا فقدنا الهند وروسيا لصالح الصين العميقة والمظلمة… أتمنى لهما مستقبلا طويلا ومزدهرا معا!"

كأن الأمر أشبه بإعلان خروج من السباق؛ فبعد أن فرض ترامب على الهند رسوما جمركية وصلت إلى 50% على صادراتها، منها 25% فقط بذريعة أنها تشتري النفط من روسيا، يظل السؤال مطروحا: هل تموّل نيودلهي الحملة العسكرية الروسية عبر النفط؟ بالطبع، على طريقة ترامب، كل شيء يسير بالرسوم والاتهامات. وهكذا يتلخص الصراع بين واشنطن و"الدول المتآمرة" التي اختارت أن تتجمع في المشهد العالمي بتيانجين من دون دعوة البيت الأبيض.

ملامح نظام عالمي موازي..

تأتي القمة في سياق تحولات إقليمية ودولية عميقة تعيد رسم ملامح النظام العالمي، بعد انقضاء مرحلة الأحادية القطبية التي طبعت العقود الماضية بسيطرة واشنطن على السياسات الدولية. ومع تبنّي الصين وروسيا رؤية مشتركة في إطار منظمة شنغهاي، بدا واضحًا أن هناك مشروعًا موازيًا يتشكل، هدفه كسر احتكار الولايات المتحدة لآليات الحوكمة العالمية.

تصريحات الرئيس الصيني شي جين بينغ حملت نقدًا ضمنيًا لكنه صارخ للولايات المتحدة، حين شدد على رفض الهيمنة وإدانة سياسة القوة، مطلقًا ما عُرف بـ"مبادرة الحوكمة العالمية" كإطار جديد يسعى لتمثيل مصالح دول الجنوب وأعضاء المنظمة. هذه المبادرة لم تكن مجرد خطاب نظري، بل اقترنت بحزم تمويلية سخية، شملت إنشاء بنك تنمية برأسمال من مليارات اليوان، بما يعكس إرادة واضحة لترسيخ استقلال اقتصادي وسياسي يعزز مكانة المنظمة ويجعلها لاعبًا مؤثرًا في النظام الدولي.

في المقابل، تتحرك روسيا عبر الرئيس فلاديمير بوتين لتثبيت حضورها كقوة إقليمية وعالمية، مستثمرة في منظمة شنغهاي كمنصة لمواجهة التهديدات الأمنية والاقتصادية، خصوصًا في ظل العقوبات الغربية المتصاعدة ضدها. ولعل حرص بوتين على الترويج لفكرة "التعددية الحقيقية" وتقديم مقترحات حول الهيكل السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمنظمة، يعكس مسعى روسيًا لإعادة صياغة توازنات أوراسيا، وإحياء إرثها الجيوسياسي في المنطقة.

بين التوسع والتصدع..

رغم توسع منظمة شنغهاي خلال السنوات الأخيرة لتشمل دولًا مثل الهند وباكستان وإيران وبيلاروسيا، فإن هذا الاتساع العضوي لم يخلُ من إشكالات بنيوية تعكس تعقيدات المشهد الأوروآسيوي. ، فهذه الدول، وإن كانت تلتقي عند رفضها للهيمنة الغربية، إلا أنها مثقلة بخلافات عميقة وصراعات مباشرة: من التوترات المستمرة بين الهند وباكستان، إلى المنافسة الحدودية بين نيودلهي وبكين، مرورًا بصراعات شركاء الحوار مثل أرمينيا وأذربيجان.

هذا الواقع يضع ما يُعرف بـ"روح شنغهاي" أمام اختبار صعب؛ إذ يبدو التماسك الداخلي للمنظمة هشًّا في ظل تضارب المصالح، ويزداد المشهد تعقيدًا مع عجز بعض الأعضاء، خاصة الهند، عن تبني موقف واضح في إدانة الإرهاب العابر للحدود، الأمر الذي انعكس سلبًا على صورة المنظمة كهيئة أمنية متماسكة. وإلى جانب ذلك، يظل اعتراف موسكو بحكومة طالبان في أفغانستان نقطة خلافية حادة، تعكس ضعف قدرة المنظمة على إدارة أزمات إقليمية متشابكة وتثير تساؤلات حول مدى قدرتها على فرض نفسها كلاعب استراتيجي منسجم.

الأمن المشترك..  بين الطموح والقيود

يشكل البعد الأمني أحد أكثر الملفات حساسية في إطار عمل منظمة شنغهاي للتعاون، حيث يُنظر إليها كمنصة إقليمية تسعى إلى تعزيز الاستقرار في منطقة مثقلة بالأزمات والاضطرابات. غير أن هذه المهمة تبقى معقدة بفعل تباين أولويات أعضائها وتناقض حساباتهم الاستراتيجية، إذ تتراوح التحديات بين الصراعات الحدودية والإرهاب العابر للحدود والتأثيرات المباشرة للصراعات العالمية على الفضاء الأوراسي.

من أبرز الملفات التي تضع المنظمة أمام اختبار جدي، النزاع الهندي–الباكستاني الذي يهدد باستمرار بالانزلاق نحو مواجهة نووية. لكن عجز المنظمة عن تطوير آليات ضغط فعالة أو وساطة مقنعة يجعلها طرفاً مراقباً أكثر منها لاعباً مؤثراً، لتظل الضغوط الخارجية، ولا سيما الأمريكية، هي العامل الحاسم في تهدئة هذه الأزمات. الرفض الهندي للتوقيع على بيان مشترك ضد الإرهاب في قمة يونيو 2025 يعكس الهوة بين خطاب المنظمة الطموح وقدرتها العملية على بناء أمن جماعي.

ورغم المحاولات المتكررة لتفعيل آليات مكافحة الإرهاب في آسيا الوسطى، ما زالت فعالية المنظمة محدودة، إذ تحول الخلافات السياسية بين أعضائها دون تحويلها إلى ضامن أمني إقليمي حقيقي. في المقابل، تسعى بكين إلى استغلال القمم المتعاقبة لتعزيز نفوذها الأمني والاقتصادي عبر تشريعات تعاون موسعة، فيما تراهن موسكو على المنظمة كأداة لمواجهة العزلة الغربية والعقوبات. لكن الاشتباكات المستمرة بين أرمينيا وأذربيجان، أو الصراعات المتجددة في ميانمار وأفغانستان، تبرز حجم الفجوة بين الطموح والوحدة المطلوبة وبين واقع الانقسامات الميدانية.

أثر واشنطن ورعونة ترامب

يصعب فصل معادلة شنغهاي عن السياسة الأمريكية، لاسيما بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فقد واصل ترامب تقويض الأطر المتعددة الأطراف، معتمداً على أدوات العقوبات والتعريفات الجمركية لإعادة فرض الهيمنة الأمريكية. هذه السياسة زادت من الضغوط الاقتصادية والأمنية على أعضاء المنظمة، لكنها في الوقت نفسه دفعت الصين وروسيا والهند إلى تعزيز تكتلهم كخيار دفاعي، رغم التناقضات العميقة التي تفصل بينهم.

لا ينظر ترامب إلى منظمة شنغهاي كلاعب أمني منافس، بل يراهن على التفوق التقليدي للولايات المتحدة في إدارة الأزمات، غير أن سياساته الانعزالية والمتشددة أسهمت بشكل غير مباشر في إعطاء المنظمة زخماً إضافياً، وإن ظلّ زخم رد الفعل لا الفعل.

بين بناء النظام الجديد ومحدودية الفعل

الخطاب الصيني–الروسي المشترك يروّج لفكرة نظام دولي متعدد الأقطاب يتجاوز الهيمنة الأمريكية، إلا أن قمة تيانجين 2025 أظهرت أن المنظمة لا تزال في مرحلة "البنية غير المكتملة"، حيث تقيّدها الصراعات الجيوسياسية الثنائية والتباينات الأمنية الداخلية وشعار "الحفاظ على روح شنغهاي" بقي أقرب إلى دعوة رمزية للوحدة منه إلى خطة تنفيذية ذات معالم واضحة.

إعلان الصين عن تمويل بمليارات اليوان لتعزيز الترابط الاقتصادي قد يشكل خطوة باتجاه بناء قاعدة مؤسساتية صلبة، لكنه لا يحل المعضلة الأعمق المتمثلة في إدارة الخلافات الأمنية والجيوسياسية بين الأعضاء، وهنا تكمن العقدة الجوهرية: الاقتصاد قادر على مدّ الجسور، لكن غياب رؤية أمنية موحدة يبقي المنظمة في موقع الشريك المحدود لا الفاعل المؤسس لنظام عالمي جديد.

تعكس قمة شنغهاي في 2025 مرحلة انتقالية حساسة ضمن صراع النفوذ العالمي، إذ تبدو المنظمة في موقع "الاختبار"، فهل تستطيع تجاوز خلافاتها الداخلية وصراعات أعضائها لتشكل نواة بديل جيوسياسي وأمني حقيقي لنظام ما بعد الحرب الباردة؟ أم ستظل أداة خطابية تراوح مكانها بين الطموح والواقع؟. حتى الآن، تشير الوقائع إلى أن الطريق نحو تجسيد رؤية نظام عالمي متوازن وعادل لا يزال طويلاً، وأن منظمة شنغهاي ستبقى رهينة توازنات معقدة تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى وصراعاتها الإقليمية.

علاء دينيز حسينوف، محلل السياسات الخارجية لدول آسيا الوسطى (تركيا)

من "نمر من ورق" إلى لاعب عالمي.. كيف تصنع آسيا الوسطى قوة شنغهاي؟

غالبًا ما وُصفت منظمة شنغهاي للتعاون بأنها "نمر من ورق" و"غير قادرة على مواجهة المؤسسات الغربية المرنة بفعالية"، غير أن المشكلة الحقيقية، وفقًا لعلاء دينيز حوسينوف، الباحث في مركز "حيدر علييف للدراسات الأوراسية" (التابع لجامعة ابن خلدون التركية الخاصة)، تكمن في موضع آخر: فـ"منظمة شنغهاي للتعاون لا تهدف إلى وضع نفسها ككتلة تكاملية، بل كمنتدى للدول التي تشترك في مبادئها الأساسية: احترام السيادة والاستقلال وسلامة الأراضي، المساواة، المنفعة المتبادلة، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم استخدام القوة أو التهديد بها كأساس للتنمية المستدامة للعلاقات الدولية".

وبرأي الباحث، فإن "توسع الشراكات يتعزز بنمو البنية التحتية المرنة" ومع تعميق هذه الروابط، "توسع المنظمة تدريجيًا نطاق التعاون، حتى وإن لم يكن ذلك داخلها مباشرة"، إذ توفّر أدواتها، مثل الاجتماعات المنتظمة، "منصة للدول الأعضاء لبناء تحالفات جديدة". ومن الأمثلة على ذلك، مبادرة تطوير ممر النقل الدولي الذي يضم بيلاروسيا وروسيا وكازاخستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، والتي حظيت بإطار مؤسسي في أول منتدى للنقل لمنظمة شنغهاي للتعاون عام 2023.

ويؤكد حوسينوف أن العمود الفقري لتعاظم دور المنظمة "هو البنية التحتية للنقل والطاقة، حيث يشكّل الأمن غلافها الواقي"، أما عن التهديدات الأمنية، فيشير إلى أن "معظم الأعضاء يواجهون، على الحدود البحرية، تحديات لوجستية وتهديدات جمركية أمريكية على حد سواء، كما أن علاقات روسيا في مجال الطاقة مع الغرب ماضية في التآكل، مع تحول الاتحاد الأوروبي نحو استيراد الغاز الطبيعي المسال الأمريكي".

 وفي الوقت نفسه، تسعى الصين إلى "الحد من اعتمادها على إمدادات المواد الخام المنقولة بحرًا، خاصة مع تراجع وارداتها من خردة النحاس من الولايات المتحدة خلال الأزمة التي افتعلها الرئيس الأمريكي عبر فرض التعريفات الجمركية".

ويضيف الباحث أن هناك "مسارات عديدة تسهم مجتمعةً في تطور منظمة شنغهاي للتعاون من مجرد نمر من ورق إلى مركز لعقد التحالفات حول البنية التحتية والتجارة والأمن والتكنولوجيا خارج دائرة النفوذ الغربي"، وفي هذا السياق تبرز جهود توثيق العلاقات مع منظمة التعاون الإسلامي، ودعم إنشاء بنك التنمية، وإصدار إعلان السلامة النووية، واقتراح مواثيق لتيسير التجارة وأدوات تعاون جديدة مثل اتحاد الطاقة، ومركز المواد الحيوية، وتمويل المشاريع، والبوابة الإلكترونية للأعمال التجارية. كما تشمل الجهود ربط خط السكة الحديد للتكامل بين كازاخستان وأفغانستان، وإحياء مجموعة الاتصال بين المنظمة وكابول، بما يعكس ديناميكيات جيواستراتيجية مهمة في "روح شنغهاي" للعمل الجماعي في المنطقة الآسيوية.

ويعتبر حوسينوف أن هذه الديناميكيات "تُظهر أن التواصل داخل القارة أصبح الأولوية الرئيسية للمنظمة، وهو ما يزيد من أهمية الأمن الإقليمي"، فـ"على مدى سنوات، أدى ضعف الاهتمام بالمشاريع القارية إلى إبطاء تطور منظمة شنغهاي للتعاون"، لكن الوضع اليوم "آخذ في التغير"، وأصبحت آسيا الوسطى "محركًا رئيسيًا بفضل جغرافيتها ودبلوماسيتها المتوازنة، من حيث ترسيخ مبادرات البنية التحتية عبر مختلف قمم المنظمة"ـ كما يتجلى تعاظم دور المنظمة "في تعميق التعاون بين روسيا والصين، والحضور المتنامي للهند في أوراسيا في سياق النزاعات مع واشنطن".

وتشكل قمة تيانجين، في نظر الباحث، "نقطة تحول في سياسة الطاقة والاقتصاد في أوراسيا". فقد شهدت توقيع الصين وروسيا مذكرة ملزمة قانونيًا "لبناء خط أنابيب باور أوف سيبيريا 2 الذي يربط حقول الغاز في غرب سيبيريا بالصين عبر منغوليا" وبسعة مخطط لها تبلغ 50 مليار متر مكعب سنويًا، سيتجاوز المشروع بكثير خط أنابيب "باور أوف سيبيريا" الحالي.

ويفسر حوسينوف أهمية المشروع بقوله: "بالنسبة لموسكو، يؤمن خط الأنابيب سوق تصدير رئيسية جديدة بعد أن فقدت إمكانية الوصول إلى المستهلكين الأوروبيين. أما بالنسبة لبكين، فإنه يوفر مصدرًا مستقرًا وطويل الأجل للطاقة في عصر المخاطر الجيوسياسية وتنويع الواردات"، كما أعلنت الصين، خلال القمة نفسها، "توسيع نطاق التعاون في مجال الطاقة المتجددة مع روسيا ودول المنطقة الأخرى، إلى جانب الدعوة إلى إنشاء بنك التنمية التابع للمنظمة في أقرب وقت ممكن لتمويل المشاريع من خلال المنح والقروض".

وتعزز هذه الخطوات "النمو السريع لتجارة النفط الروسية مع الصين والهند، مما يقوّي شراكة تلك الدول تحت مظلة المنظمة في مجال الطاقة كدرع واقٍ ضد العقوبات الغربية". ويضيف الباحث أن معركة التعريفات الجمركية "غير المبررة" شكّلت "المسرّع للتأكيد على مسار الاستقلالية الاستراتيجية للكثير من الدول الأعضاء"، بحيث "كانت العقوبات والتعريفات الجمركية بمثابة حافز لبناء محاور جديدة للطاقة والنقل في أوراسيا، حيث تعمل الصين وروسيا والهند على تشكيل مراكز قوة بديلة، تدريجيًا أقل اعتمادًا على أسواق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي".

ويشدد الباحث على أن "منطقة آسيا الوسطى تقع في قلب هذه التحولات"، فمنذ جائحة كوفيد-19، أكدت قمم المنظمة في دوشانبي وسمرقند ونيودلهي وأستانا على الأهمية الجيواستراتيجية للمنطقة. كما يذكّر بتوسع المنظمة بانضمام الهند وباكستان عام 2017، ثم إيران عام 2021، واكتمال عضوية بيلاروسيا السنة الماضية، بعد أن قُبلت منغوليا كأول عضو مراقب عام 2004.

ويمثل الاقتصاد "عصب القوة السياسية للمنظمة"، في نظر حوسينوف. فـ"من وجهة نظر جغرافية، تعد آسيا الوسطى قلب منظمة شنغهاي، أما من منظور اقتصادي، فقد أصبحت القلب النابض للمنظمة، حيث توجه البنية التحتية للدول المتكتلة التدفقات التجارية والاستثمارية"، ففي عام 2024، سجّل الأعضاء الأربعة في آسيا الوسطى (باستثناء تركمانستان) 252.84 مليار دولار أمريكي من إجمالي التجارة، منها 134.60 مليار دولار (53.2%) مع شركاء المنظمة، استنادًا إلى بيانات مركز التجارة الدولية، غير أن الهيكل التجاري غير متماثل: "38.3% من الصادرات تذهب إلى أسواق المنظمة، في حين أن 66.6% من الواردات تأتي منها" ، وبالتالي "تهيمن منظمة شنغهاي للتعاون على ما تشتريه آسيا الوسطى لا على ما تبيعه".

وتقود الصين وروسيا هذا النظام، إذ "ترسل آسيا الوسطى حوالي 14.5% من صادراتها نحو الصين و12.7% إلى روسيا، بينما تمثل الصادرات البينية 9.4% فقط في المنطقة"،  ورغم توسيع النطاق الجغرافي للمنظمة، فإن اقتصادات الدول الأعضاء لا تزال تعتمد على الصين وروسيا، "مما يجعل التجارة البينية بين دول آسيا الوسطى متواضعة"، إلا أن ذلك لا يُعد توجهًا سلبيًا في رأي الباحث، لأن "المنظمة باتت منصة استثمار متزايدة الأهمية، وليست مجرد أداة للتجارة"، باعتبار أن "البنية التحتية التي تشكلها خطوط الطاقة والمشاريع وقنوات التمويل المرتبطة بمبادراتها تمثل ميزة كبرى، إذ أن الموردين موثوقون ومصادر التمويل لا تخضع للضغوطات السياسية مثل تلك التي تفرضها دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة في تعاملاتها مع الآخرين".

ويضيف الباحث أن "ما يشكل نجاحًا للقمة الأخيرة هو الاستجابة الدبلوماسية الفاترة والرسائل الانتقادية للعواصم الغربية"، خصوصًا بعد الاستعراض العسكري لعيد النصر في بكين، الذي حضره الرئيس الروسي إلى جانب نظيره الكوري الشمالي. وقد صوّرت وسائل الإعلام والمحللون الغربيون المشهد، وخاصة صورة شي وبوتين وكيم وبيزيشكيان معًا، على أنه "محور اضطراب" يستهدف النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، كما حذرت أصوات أوروبية من أن العرض عزّز ادعاء موسكو بقدرتها على الصمود بفضل حلفاء أقوياء. أما الغياب الجماعي للدول الأخرى المدعوة، فقد رآه الباحث "محاولة يائسة لرفض إضفاء الشرعية على ما يعتبره الغرب تحالفًا معاديًا له بشكل صريح".

وفي واشنطن، أثارت القمة "رد فعل سياسيًا فوريًا وأعادت التفكير الاستراتيجي على نطاق أوسع". فـ"سياسات ترامب في فرض الرسوم الجمركية الثقيلة على حلفاء في المنطقة، مثل الهند، دفعت الكثير من البلدان إلى التقارب الاستراتيجي مع الصين وروسيا"، سواء في إطار المنظمة أو عبر قنوات أخرى.

ويقرأ حوسينوف لغة البيان الختامي لقمة تيانجين باعتبارها "دعوة واضحة إلى تسريع الانحياز نحو كتلة غير غربية"، مضيفًا أن الرأي السائد هو أن "الأحادية القطبية في طريقها إلى الانكسار، وعلى الولايات المتحدة أن تتكيف مع نظام متعدد الأقطاب أكثر تعقيدًا، يتمتع فيه الشركاء الديمقراطيون باستقلالية استراتيجية"، ورغم أن "منظمة شنغهاي للتعاون ما تزال أمامها مسافة طويلة لفرض ميلاد نظام حوكمة جديد، كما يرغب الرئيس الصيني، فإن اعتبارها مجرد نمر من ورق سيكون خطأ فادحًا".

ستيفان وولف - باحث في دراسات الأمن الدولي، جامعة بيرمينغهام (بريطانيا)

بكين ونيودلهي وموسكو.. تحالف الضرورة في مواجهة الهيمنة الأمريكية

لم يكن الرئيس الصيني شي جين بينغ في مطلع هذا الشهر يكتفي بدور المراقب في الساحة الدولية، بل بدا وكأنه يقود أوركسترا دبلوماسية متكاملة الأركان، ففي العاصمة بكين، استضافت الصين ما وصفته وسائل الإعلام بـ"أكبر قمة سنوية" لمنظمة شنغهاي للتعاون، أعقبها عرض عسكري ضخم وُصف بـ"المثير للإعجاب" بمناسبة ذكرى هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، تخللته لقاءات ثنائية على مستوى رفيع مع قادة دول تتقاطع مصالحها الاستراتيجية مع رؤية بكين لمستقبل النظام الدولي.

ويصف البروفيسور ستيفان وولف، الباحث في دراسات الأمن الدولي بجامعة بيرمنغهام (بريطانيا)، هؤلاء القادة بأنهم "متشابهون في التفكير الاستراتيجي" مع الصين، قبل أن يخلص إلى عبارة حاسمة مفادها: "إن بكين اليوم هي العاصمة الدبلوماسية للعالم"، في إشارة واضحة إلى انتقال مركز الثقل الجيوسياسي من الغرب إلى الشرق

غير أن وولف لا يكتفي بالاحتفاء بالاستعراضات السياسية والدبلوماسية التي تقدمها الصين للعالم، بل يحذر من أن ما يبدو من انسجام ووحدة خلف واجهة المودة الرسمية يخفي في العمق واقعًا أكثر هشاشة، فالنظام العالمي الجديد الذي يحاول شي أن يبنيه لا يقوم على أساس متماسك كما يراد له أن يُصوَّر، بل يظل عرضة للتصدع بفعل تناقضات التحالفات، وتعارض مصالح القوى الكبرى المنضوية تحت راية منظمة شنغهاي أو المتقاطعة مع مبادرة الحزام والطريق.

في هذا السياق، لا يرى وولف أن القيمة الكبرى لقمة شنغهاي تكمن في الكم الهائل من الوثائق الرسمية التي خرجت بها، من بيانات مطولة وإعلانات مشتركة تجاوزت العشرين، تناولت قضايا الذكاء الاصطناعي والطاقة الخضراء والتجارة الدولية، فالأهمية الحقيقية في نظره تمثلت في حدث واحد: حضور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وما حمله ذلك من مؤشرات على تقارب ملموس بين نيودلهي وبكين.

لقد كانت زيارة مودي الأولى إلى الصين منذ سبع سنوات وقد أضفى عليها طابعًا خاصًا وصفه بنفسه بـ"المثمر"، مؤكدًا أن علاقته مع شي قائمة على "الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة والحساسية المتبادلة"، أما الرسالة الصينية الأوضح لنيودلهي، فتمثلت في إدانة بكين القاطعة للهجوم الإرهابي الذي استهدف منطقة باهالغام في كشمير خلال أبريل الماضي، في تحول عن موقف سابق حين عرقلت الصين صدور بيان مشابه في اجتماع وزراء دفاع المنظمة قبل أشهر قليلة.

إلى جانب ذلك، أتاح وجود مودي فرصة سانحة له ولشي لإظهار دعمهما المستمر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت يجد فيه الكرملين نفسه في مواجهة عزلة غربية متزايدة، وهنا يرى وولف أن مجرد فكرة تحالف ثلاثي يضم الصين وروسيا والهند قد يشكل عاملًا هائلًا في إعادة تشكيل النظام الدولي، غير أن ما يجمع هذه القوى، في تقديره، لا يتجاوز في العمق "معارضتها للنظام القائم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة"، أكثر من كونه مشروعًا مشتركًا متماسكًا لبناء بديل فعلي.

وفي خضم هذه التطورات، لم يتردد شي في التلويح بما يسميه "إصلاح النظام الدولي"، من خلال مبادرة الحوكمة العالمية، التي تسعى – وفق تحليل وولف – إلى تحويل الأمم المتحدة إلى أداة تعمل في خدمة بكين. لكن الباحث يذكّر بأن فرص التغيير الجذري تبقى محدودة، ما دامت الصين والهند، شأن معظم الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي والدول الشريكة، مندمجتين بعمق في المنظومة الاقتصادية والمالية التي صاغها الغرب، صحيح أن سياسات دونالد ترامب الانعزالية والحمائية دفعت الكثير من العواصم إلى السخط، لكن ذلك لا يمنح بكين ونيودلهي أوراق نفوذ كافية، باستثناء الهيمنة الصينية الجزئية على تجارة الأتربة النادرة.

ويشير وولف إلى معضلة بنيوية أخرى تواجه الصين وهي أن مساعيها لإعادة تشكيل النظام الدولي تبدو غير مكتملة بل متداخلة على نحو يثير الالتباس، فمنظمة شنغهاي للتعاون ذات طابع أمني إقليمي يركز على أوراسيا، بينما مبادرة الحزام والطريق تحمل طابعًا اقتصاديًا عالميًا يسعى إلى توسيع النفوذ عبر مشاريع البنية التحتية، ويضاف إلى ذلك مجموعة "بريكس" التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، والتي تقدم بدورها منصة بديلة لكنها غير متجانسة، و في ضوء ذلك، يصف وولف النهج الصيني بأنه "سلسلة من بالونات الاختبار الجيوسياسية"، أكثر من كونه استراتيجية واضحة المعالم، ما يعكس أن شي نفسه "لم يحسم بعد أي المسارات سيفتح الطريق أمام القيادة العالمية".

تتعمق الهشاشة أكثر عند النظر إلى محدودية الشركاء الحقيقيين للصين، إذ أن القمة الأخيرة في تيانجين ركزت أساسًا على محور الصين–روسيا–الهند، بينما خطف التحالف الوليد بين بكين وموسكو وبيونغ يانغ الأضواء خلال العرض العسكري ببكين بعد يومين فقط، ومع ذلك، فإن غياب مودي عن ذلك العرض بعث برسالة واضحة مفادها أن الهند لا ترغب في الارتباط بمصير كوريا الشمالية، ولا في الانزلاق إلى تحالفات قد تجرها إلى مواجهة مباشرة مع الغرب.

وفي تقييم وولف، يقف شي أمام خيارات متعددة لمواجهة النظام الدولي الذي تقوده واشنطن، لكنها في كثير من الأحيان خيارات متعارضة ومربكة، فليس كل الدول التي تدور في الفلك الصيني مرتاحة إلى الاصطفافات الحادة التي تختارها بكين، ومع ذلك لا يرى الباحث أن مسعى الصين للحلول محل الولايات المتحدة محكوم عليه بالفشل، بل على العكس، فإن منطق شي يقوم على بناء "منطقة نفوذ آسيوية صلبة" تتيح لبكين لاحقًا الانطلاق نحو الهيمنة العالمية.

ومع ذلك، يصر وولف على أن المشروع الصيني حتى الآن لا يشكل بديلًا جذابًا للنظام الدولي الليبرالي، فرغم أن السخط على هذا النظام يتردد في أروقة المؤسسات الدولية ومنصات السياسة العالمية، إلا أن الصين لم تقدم بعد نموذجًا متماسكًا يلقى القبول الواسع،  ويذكر الباحث أن هذا السخط على النظام الليبرالي لم يبدأ مع ترامب، لكنه تفاقم في الأشهر الأولى من ولايته الثانية، حيث دفعت سياساته المتقلبة الهند تحديدًا إلى إعادة التموضع، حيث مثّل التقارب الهندي الصيني "تضحية" من نيودلهي بأكثر من عقدين من إعادة تقويم علاقاتها مع واشنطن، لصالح تحالف أكثر إقليمية مع الصين، وهو ما يعكس فشل الولايات المتحدة في التوسط بين الهند وباكستان بعد هجوم باهالغام، فضلًا عن سياسات ترامب العقابية تجاه الهند، سواء عبر الرسوم الجمركية أو الانفتاح المفاجئ على باكستان.

ويخلص وولف إلى أن سياسة ترامب الخارجية، التي يصفها بـ"المضللة تمامًا"، قامت على شعار "أمريكا أولًا"، لكنها في الجوهر قوضت علاقات واشنطن مع أوروبا وآسيا، وهي العلاقات التي شكّلت العمود الفقري للنظام الدولي الليبرالي لعقود، ومن هذا المنظور، فإن رؤية ترامب بأن الصين وروسيا وكوريا الشمالية "تتآمر ضد الولايات المتحدة" قد تمنح بصيص أمل لحلفاء أمريكا في أن يعيد الرئيس الأمريكي النظر في مساره، غير أن هذا الأمل سيظل هشًّا، ما لم يدرك ترامب أن مواجهة التحدي الصيني تقتضي شراكة حقيقية مع الحلفاء التقليديين.

أما إذا استمر في تجاهل هذه الحقيقة، فإن بكين قد تتمكن بسرعة من توسيع مجال نفوذها إلى ما يتجاوز جغرافيا آسيا، ليجد الأمريكيون أنفسهم أمام خطر التحول إلى قوة من الدرجة الثانية، محصورة في دائرة نفوذ آخذة في الانكماش، بينما تزداد في المقابل الدعوات إلى التحرر من الهيمنة الغربية على المؤسسات الدولية، عندها قد يصبح السؤال المطروح ليس عن مدى قدرة الصين على قيادة العالم، بل عن المدى الذي قد تذهب إليه الولايات المتحدة في التنازل عن دورها التاريخي في صياغة قواعد النظام الدولي.

هنرييتا ليفن - باحثة مختصة في الدراسات الصينية (الولايات المتحدة)

 شنغهاي 2025.. بكين ترفع سقف طموحاتها العالمية

في بداية سبتمبر الجاري، استضاف الرئيس الصيني شي جين بينغ القمة السنوية لمنظمة شنغهاي للتعاون (SCO) في مدينة تيانجين الساحلية، مجسّدًا طموح بكين المتزايد على الساحة الدولية، انضم إلى أعضاء المنظمة العشرة – بيلاروسيا، الصين، الهند، إيران، كازاخستان، قيرغيزستان، باكستان، روسيا، طاجيكستان، وأوزبكستان – مجموعة من الشركاء من جنوب وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، إضافةً إلى الأمين العام للأمم المتحدة، في مشهد يعكس الرغبة الصينية في توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي على مستوى العالم.

تعود الباحثة هنرييتا ليفن، المتخصصة في الدراسات الصينية وجنوب شرق آسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بأمريكا، إلى تاريخ تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون، والتي كانت في الأصل "مبادرة من قبل الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان باسم خماسية شنغهاي" في عام 1996 لإدارة النزاعات الحدودية، قبل أن "تتوسع ولاية المنظمة وعضويتها بشكل كبير مع مرور الوقت، لتصبح جزءا مهمًا، كما ترى الباحثة، من جهود الصين المتسارعة لبناء نظام دولي جديد" يتسم بمزيد من الاحترام للمصالح الصينية و"معايير أكثر ملاءمة للنظام السياسي الذي تصفه بـالاستبدادي"، بهدف "إزاحة القيادة الأمريكية"، وتشير الباحثة إلى نص ميثاق منظمة شنغهاي للتعاون، الذي "ينص صراحةً على أن المنظمة ستعمل على تعزيز نظام دولي سياسي واقتصادي جديد".

في مدينة تيانجين، "أظهر الرئيس شي قدرته على جمع مجموعة واسعة من الدول والمنظمات الدولية لدعم هذه الرؤية"، التي تراها الباحثة "طموحة واستفزازية" ورغم أن تنوع أعضاء المنظمة "يحد في كثير من الأحيان من قدرتها على اتخاذ إجراءات ملموسة، إلا أنه يعزز الحجة التي تقدمها الصين للعالم، وهي أن القيادة الصينية و"حكمة" شي الشخصية، هي تصحيح مرحب به على نطاق واسع، لسياسة واشنطن الخارجية المتقلبة".

بالإضافة إلى ذلك، تعتقد الباحثة أن "قمة تيانجين وفرت للصين مكانًا مهمًا لتعزيز العديد من العلاقات الثنائية مع الهند"، مشيرة إلى أن الرئيس الصيني "عقد اجتماعات منفصلة مع ما لا يقل عن 15 زعيمًا آخر، بما في ذلك لقاء دافئ غير عادي مع رئيس الوزراء ناريندرا مودي، والذي بدا أنه سرّع من التقارب الصيني مع نيودلهي وفتح فرصًا جديدة للتعاون بين هذين الخصمين منذ فترة طويلة".

قد تكون النتيجة الأكثر واقعية لقمة منظمة شنغهاي للتعاون لعام 2025، كما ترى الباحثة، "قرار الأعضاء بإنشاء بنك التنمية التابع للمنظمة، والذي يهدف إلى تمويل البنية التحتية والبرامج الاقتصادية". وتذكر الدكتورة ليفن "أن بكين سعت إلى إنشاء بنك لمنظمة شنغهاي للتعاون لأكثر من عقد من الزمان". ولكن في السنوات السابقة، "تم عرقلة اقتراحها من قبل روسيا، التي فضلت توجيه تمويل التنمية في آسيا الوسطى من خلال المؤسسات التي تسيطر عليها، على عكس منظمة شنغهاي للتعاون حيث يتجاوز نفوذ بكين نفوذ موسكو"، ومع تزايد اعتماد روسيا "أكثر من أي وقت مضى على الدعم الاقتصادي والمالي والعسكري الصيني"، ليس من المستغرب- حسبها- "أن تقدم موسكو تنازلات جديدة لبكين"، وقمة منظمة شنغهاي للتعاون- تقول الباحثة- " سلطت الضوء على قوة الشراكة الصينية الروسية في كل منعطف، لكنها علاقة، كما ترى، ستلعب فيها روسيا الدور الأصغر بشكل متزايد".

وبالإضافة إلى ذلك، "أعلنت الصين عن ستة منصات جديدة للتعاون بين الصين ومنظمة شنغهاي للتعاون"، مما يضفي "مزيدًا من الطابع المؤسسي على قيادة الصين الفعلية للمنظمة"، حيث ستركز هذه المنصات على الطاقة، والصناعة الخضراء، والاقتصاد الرقمي، والابتكار التكنولوجي، والتعليم العالي، والتعليم المهني والتقني، و"لكن لم يتضح بعد كيف تعتزم بكين تنفيذ هذه الالتزامات".

في اجتماع القمة في الأول من سبتمبر أعلن الرئيس شي عن مبادرة جديدة للحوكمة العالمية، التي ترى الباحثة أن هذا "يشير بوضوح غير عادي إلى أن الصين تعتزم قيادة تطوير نظام دولي جديد"، وهذه هي المبادرة الرابعة من "المبادرات العالمية" التي أطلقها الرئيس الصيني، لتضاف إلى مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية.

يمكن قياس الأهمية التي يوليها الرئيس الصيني للمبادرة العالمية "من خلال المديح الذي حظيت به في اجتماعاته الثنائية التسعة اللاحقة، وفقًا للقراءات الصينية"،  إذ تشير الباحثة إلى التصريحات التي تلت إعلان الرئيس الصيني لتلك المبادرة، مثل ما أشار إليه الرئيس الطاجيكي (إمام علي رحمان) بأن "مبادرة الحوكمة العالمية التي طرحها الرئيس شي تُظهر رؤية وإحساسًا بالمسؤولية لدى قائد عالمي المستوى".

في قراءتها للغة الخطاب السياسي للرئيس الصيني، ترى الدكتورة ليفن أن وصف شي لمبادرة الحوكمة العالمية، مثلها مثل المبادرات الثلاث المرافقة لها، "بلغة مجردة وأيديولوجية"، دون مشاركة خطط التنفيذ الواقعية، ومع ذلك من الجدير بالملاحظة- حسبها- أنه في حين أعلن الرئيس الصيني عن مبادرة التنمية العالمية في اجتماع افتراضي للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2021، فقد كشف النقاب عن مبادرة الحوكمة العالمية في منظمة شنغهاي للتعاون – وهي منظمة دولية تقودها الصين فعليًا، ودعا شي في خطابه المنظمة إلى "التقدم ولعب دور ريادي وأن تكون الصين قدوة في تنفيذ المبادرة العالمية للحوكمة"، مشيدًا بقدرة المنظمة على "أن تصبح محفزًا لتطوير وإصلاح نظام الحوكمة العالمي".

وعلى الرغم من إصرار شي أيضًا على أن مبادرة الحوكمة العالمية يجب أن "تحافظ بحزم على مكانة وسلطة الأمم المتحدة"، إلا أن "إيقاع تصريحاته، مقترنًا بالإعداد الاستراتيجي نفسه، يشير إلى أن المبادرة تهدف في المقام الأول إلى تعزيز دور الهيئات الدولية التي تكون فيها وجهات نظر الصين ومعاييرها حاسمة، على حساب الأمم المتحدة والمؤسسات الأخرى التي تدعم النظام الدولي القائم على القواعد، والذي اعتبرته بكين واجهة للهيمنة الأمريكية".

من جانب آخر، تقول الباحثة إن "قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين والعرض العسكري في بكين كانا حدثين منفصلين"، إلا أن الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية (أو كما تسميها الصين الحرب العالمية ضد الفاشية) برزت بشكل بارز في رسائل الصين للمنظمة. فعندما لخص وزير الخارجية الصيني وانغ يي "النتائج الرئيسية" للقمة، "عكست النقطة الثانية من أصل ثماني نقاط، دور المنظمة باعتبارها صوتًا عادلًا للدفاع عن إنجازات الانتصار في الحرب العالمية الثانية".

كما أصدر قادة المنظمة بيانًا مشتركًا أعلنوا فيه، كما لخصه وزير الخارجية الصيني، أن "منظمة شنغهاي للتعاون ستقف بحزم على الجانب الصحيح من التاريخ" و"التمسك بالمنظور التاريخي الصحيح للحرب العالمية الثانية".

في تحليل الباحثة، "تسعى بكين من خلال الترويج لهذه الرسائل إلى إضفاء الشرعية على طموحاتها العالمية المتزايدة عبر الاعتماد على تجربة الصين في الحرب العالمية الثانية". وتضيف: "بينما قد تعتبر الولايات المتحدة وحلفاؤها نظام ما بعد الحرب نظامًا ليبراليًا وقائمًا على القواعد القانونية، تتصور الصين نظامًا مختلفًا تمامًا لما بعد الحرب، نظامًا أكثر ملاءمة للنظام السياسي والمصالح الضيقة لبكين، وتحل فيه الصين محل حلفائها في زمن الحرب على الساحة العالمية بشكل متزايد".

نايغل لي نايغل – خبير السياسة الروسية وآسيا الوسطى والأسلحة النووية (سنغافورة)

منظمة شنغهاي للتعاون.. اختبار جديد للدبلوماسية متعددة الأقطاب

نايغل لي، طالب الدراسات العليا في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورجتاون والمتخصص في الدراسات الأوراسية والروسية وأوروبا الشرقية، يدرس تأثيرات التحولات الجيوسياسية في المنطقة ومراقبة الأسلحة النووية. بعد أن أنهى دراسته الجامعية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية (MGIMO) كأول سنغافوري يفعل ذلك في عام 2023، يركز اهتمامه البحثي على السياسة الخارجية الروسية والتطورات في آسيا الوسطى، مع اهتمام خاص بكيفية توظيف القوى الكبرى للمنظمات الإقليمية في تعزيز نفوذها واستراتيجياتها.

وفقًا لنايغل لي ، أظهرت قمة منظمة شنغهاي للتعاون الأخيرة قدرة الصين على "جمع عدد كبير من الدول حولها"، محذرًا من أن الغرب قد يفوّت فرصة لعب دور في "تشكيل معايير العلاقات الأوروبية-الآسيوية" إذا بقي بعيدًا عن هذه التحولات. واصفًا القمة بـ"اختبار الإجهاد"، سلط لي الضوء على ما أسماه "الدبلوماسية الهادئة في عالم متعدد الأقطاب"، بعد أن تمكنت بكين من استضافة أكثر من 20 قائدًا أجنبيًا ورؤساء 10 منظمات دولية في مدينة تيانجين الصينية، في إشارة إلى الرغبة في تعزيز مكانتها كمركز سياسي وإقليمي قادر على جمع مختلف القوى الكبرى والناشئة تحت مظلة واحدة.

تأسست منظمة شنغهاي للتعاون عام 2001، انطلاقًا من "خماسية شنغهاي" التي جمعت الصين وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان لترسيم حدود آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتحقيق الاستقرار فيها وتهدف المنظمة إلى تعزيز الثقة المتبادلة وحسن الجوار، ومكافحة ما يسمى بـ"الشرور الثلاثة": الإرهاب والانفصالية والتطرف، كما تهدف إلى تقديم منصة للتعاون الاقتصادي والأمني بين أعضائها، بعيدًا عن النفوذ الغربي المباشر.

مع توسع عضويتها، أصبحت المنظمة تضم الآن بيلاروسيا والصين والهند وإيران وكازاخستان وقيرغيزستان وباكستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان، مع مشاركة دول شريكة ومراقبين. ويشير لي إلى أن المنظمة، باحتساب الأعضاء الكاملين والدول الشريكة، "تمثل 40 في المئة من سكان العالم و30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي"، مما يجعلها قوة جيوسياسية معتبرة أمام الكتلة الغربية المتعثرة، خصوصًا في وقت تواجه فيه أوروبا والولايات المتحدة تحديات داخلية وسياسية متزايدة.

إلا أن طبيعة صنع القرار القائمة على توافق الآراء بين الأعضاء أضفت على المنظمة صورة "متجر حوار" أوراسي غير فعال في تنفيذ مهامه، كما يوضح لي، مشيرًا إلى رفض الهند التوقيع على بيان مشترك في يونيو الماضي حول هجوم باهالغام الذي أودى بحياة 26 سائحًا، ألقت الهند فيه باللوم على باكستان، مما أدى إلى تبادل إطلاق صواريخ ونزاع دام أربعة أيام بين الهند وباكستان، وكلاهما عضو في المنظمة. هذا الحادث أبرز التحديات التي تواجه المنظمة في التوفيق بين مصالح أعضائها المتباينة، رغم الطموحات الكبيرة لتعزيز الوحدة الإقليمية.

ويضيف لي أن وصول رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ بابتسامة خلال الاجتماع الأخير، يعكس تحولًا في ديناميكيات المنظمة. وقد نص "إعلان تيانجين" على إدانة الهجمات الإرهابية في باهالغام، ووقّع عليه أيضًا رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، في خطوة تُظهر قدرة المنظمة على التوصل إلى حلول وسطى رغم التوترات الثنائية بين الأعضاء.

على الرغم من الطبيعة غير الشفافة للمنظمة، يشير لي إلى أن "بكين ونيودلهي وإسلام أباد أبدت اهتمامًا بالحفاظ على وحدة المنظمة" رغم التوترات السابقة، مما يعكس قدرة الصين على قيادة دبلوماسية توازن دقيقة تجمع بين مصالح متعارضة دون أن تهدد استقرار المنظمة. كما أن العقوبات التجارية الأمريكية التي فرضها الرئيس ترامب على الهند، والتي شملت معاملات البلاد مع روسيا، دفعت الهند ودول أخرى إلى البحث عن بدائل اقتصادية ودبلوماسية، قد تكون من بينها منظمة شنغهاي للتعاون، التي توفر مظلة للتعاون المتعدد الأوجه بعيدًا عن الضغوط الغربية، ويضيف الباحث أن "الصين أتقنت القدرة على جمع عدد كبير من الدول، ثلاث منها قوى نووية، تحت مظلة سياسية واحدة"، ما يعزز من مكانتها كفاعل دولي مؤثر.

أما عن توسيع أدوار المنظمة، فذكّر نايغل لي بإعلان الصين عن خطط لإنشاء بنك تنمية وتقديم قروض بقيمة 1.4 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة، بالإضافة إلى مشاريع بنية تحتية استراتيجية مثل خط السكك الحديدية بين الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان ضمن "الممر الأوسط" الرابط بين الصين وأوروبا عبر آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، ما يعكس الطموح الصيني في تحويل المنظمة إلى أداة اقتصادية وتنموية وليس مجرد منصة سياسية. كما انضمت لاوس كشريك في المنظمة بعد الدمج بين دور "شريك الحوار" و"مراقب"، لتصبح ثاني دولة في جنوب شرق آسيا ضمن المنظمة بعد ميانمار، ما يشير إلى السعي لتوسيع النفوذ في المنطقة بالكامل.

ويؤكد نايغل لي أن توسع مقبولية الأعضاء يشير إلى تطور المنظمة من مجرد تجمع لمواجهة المشكلات السياسية المؤقتة إلى تكتل إقليمي متين، يمكن أن يمتد لاحقًا إلى تأثير عالمي، في ظل التوترات المتصاعدة بين القوى العظمى وسياسات الحماية التجارية الغربية، وفي ظل هذه الديناميكيات، يبدو أن الغرب لم يعد يملك المبادرة في "تشكيل معايير العلاقات الأوروبية-الآسيوية"، بينما تبرز الصين نفسها كقوة مركزية في الحوكمة العالمية، مدعومة بتنوع أعضائها من إيران إلى إندونيسيا، ومن تركيا إلى مصر، وهو ما يمنح المنظمة ثقلًا سياسيًا واقتصاديًا متناميًا.

ويختتم لي بالإشارة إلى أن "عدم التجانس في السياسات الخارجية لبعض الأعضاء، مثل ميل كازاخستان والهند نحو الغرب، يبرز التحدي المستمر لفهم الجغرافيا السياسية المتحولة في المنطقة"، محذرًا من أن رؤية منظمة شنغهاي للتعاون كـ"نادٍ أوراسي للديكتاتوريين فقط" ستمنع القوى الغربية من إدراك قوة هذا التكتل الناشئ، وما يمكن أن يحققه من تأثير على النظام الدولي متعدد الأقطاب في السنوات القادمة.

فاطمة نودبا - باحثة في حقوق الإنسان /جامعة اللغات الحديثة (باكستان)

من الحوار إلى التأثير.. قوة أوراسية تتأسس في بيانجين

ترى فاطمة نودبا، الباحثة في حقوق الإنسان بجامعة اللغات الحديثة في باكستان، أن التحالفات الإقليمية أصبحت إحدى السمات البارزة للسياسة الدولية المعاصرة، حيث تتجه الدول بشكل متزايد نحو التعاون ضمن مناطقها الجغرافية لمواجهة التحديات المشتركة وتعزيز مصالحها الجماعية. وتشير نودبا إلى أن منظمة شنغهاي للتعاون تمثل نموذجًا حيًا لهذه النزعة الإقليمية في أوراسيا، معتبرة أن تأسيسها عام 1996 تحت اسم "شنغهاي الخمسة"، ثم توسعها لاحقًا بانضمام أوزبكستان، وباكستان، والهند، وإيران، يعكس طموح الدول الأعضاء في بناء منصة متعددة الأبعاد تتجاوز التركيز الأمني التقليدي. وترى الباحثة أن المنظمة صُممت لتكون نموذجًا للتعاون غير الغربي، لكنها تطورت لتصبح هيكلًا متكاملًا يشمل الأمن السيبراني، مكافحة الإرهاب، الطاقة، الاقتصاد الرقمي، البنية التحتية، والدبلوماسية الإقليمية والدولية.

وتؤكد نودبا أن فهم الدور الجيوسياسي للمنظمة يتطلب التركيز على مجالات محددة، أهمها الأمن السيبراني، مشيرة إلى أن ارتفاع الهجمات الإلكترونية بنسبة 30% خلال عام 2023 دفع الدول الأعضاء إلى اعتماد أكثر من 15 إطارًا قانونيًا، وإجراء أكبر تمرين للدفاع السيبراني بمشاركة 1500 متخصص، ما أسفر عن انخفاض الهجمات المبلغ عنها بنسبة 25%. وتضيف الباحثة أن هذه الإجراءات تعكس وعي الأعضاء بالحاجة إلى حماية البنى التحتية الرقمية والحفاظ على أسبقية في المنافسة مع القوى الغربية، معتبرة أن تعزيز التحول الرقمي يعد جزءًا أساسيًا من جدول أعمال المنظمة متعدد الأبعاد.

وفيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، ترى نودبا أن الهيكل الإقليمي لمكافحة الإرهاب الذي أُنشئ عام 2004 يمثل إنجازًا مهمًا للمنظمة، حيث ينسق جهود تفكيك الجماعات المتطرفة، ويتيح تنظيم أكثر من 30 مناورة مشتركة، ما أدى إلى تفكيك أكثر من 500 جماعة متطرفة. وتضيف الباحثة أن التركيز على أمن الحدود ومكافحة تهريب المخدرات يعكس إدراك المنظمة لأهمية حماية الاستقرار الإقليمي، مشيرة إلى أن نحو 40% من المواد الأفيونية العالمية تمر عبر بلدان آسيا الوسطى، خاصة أفغانستان. وترى نودبا أن التنسيق الأمني ساهم في نجاح عمليات كبيرة مثل "عملية العنكبوت"، التي شارك فيها 2000 ضابط وأسفرت عن ضبط أكثر من 30 طنًا من المخدرات، كما أن تبادل المعلومات الاستخبارية عبر منصة المنظمة ساعد في خفض تهريب المخدرات عبر الحدود بنسبة 20%.

وترى نودبا أيضًا أن الطاقة تشكل أولوية استراتيجية للمنظمة، نظرًا لاحتياطيات الدول الأعضاء الكبيرة من النفط والغاز الطبيعي والفحم. وتؤكد أن تعزيز قوة المنظمة على المستوى الإقليمي يتم عبر إطلاق مشاريع ممرات الطاقة وتسهيل الاستكشاف المشترك للموارد، معتبرة أن هذه المشاريع تعكس قدرة المنظمة على تعزيز مكانتها الاقتصادية والاستراتيجية في أوراسيا. وتضيف الباحثة أن البنية التحتية الرقمية والاقتصادات الرقمية، التي تمثل بالفعل 15% من الناتج المحلي الإجمالي، تعد عنصرًا مركزيًا في استراتيجية المنظمة، حيث تستثمر الصين وروسيا أكثر من 200 مليار دولار سنويًا لدعم هذا القطاع الحيوي.

كما ترى نودبا أن المنظمة تمثل منصة مهمة للحوار والدبلوماسية، مشيرة إلى أن أكثر من 100 اتفاقية للتعاون الأمني والاقتصادي تعكس الدور الإيجابي للمنظمة في تعزيز الاستقرار الإقليمي. وتضيف الباحثة أن التزام المنظمة بإعادة إعمار أفغانستان عبر تخصيص 800 مليون دولار، وتدريب أكثر من 1500 مسؤول، وعقد أكثر من عشرين حوارًا مع الزعماء الأفغان، يظهر قدرتها على التأثير الإقليمي البناء. وتشير نودبا إلى أن اتفاقية النقل البري الدولي لعام 2014 تمثل أساسًا لإنشاء نظام نقل إقليمي متكامل، يسمح بتدفقات التجارة والسلع من أوروبا الشرقية إلى الشرق الأقصى الروسي والصيني، معتبرة أن هذه الاتفاقية تجسد القوة السياسية للمنطقة التي تضم نحو 44% من سكان العالم.

ومع ذلك، تحذر نودبا من أن المنظمة تواجه تحديات عدة قد تعيق فعاليتها. وتعتبر أن أبرز هذه التحديات هو التنافس الاقتصادي بين أعضاء المنظمة، الذي يحد من التكامل السياسي، خاصة بين الصين وروسيا حول إنشاء صندوق للتنمية أو مناطق التجارة الحرة، مشيرة إلى أن مقاومة موسكو للمقترحات الصينية تعكس مخاوف من الهيمنة المالية الصينية، ما يؤدي إلى تقليص نطاق التكامل الاقتصادي. وترى الباحثة أن عدم الاستقرار في أفغانستان يشكل تحديًا أمنيًا بالغ الأهمية للأعضاء، رغم إنشاء فريق اتصال عام 2005 ومنح أفغانستان صفة مراقب عام 2012، موضحة أن استيلاء طالبان على السلطة في سبتمبر 2021 أعاد الجماعة إلى الظهور كمصدر قلق أمني كبير.

وتشير نودبا أيضًا إلى أن الصورة السلبية للمنظمة في الغرب ووسائل الإعلام تمثل تحديًا إضافيًا، معتبرة أن وصفها "نادي استبدادي" يثير تساؤلات حول الدور الحقيقي للمنظمة، وأن الانتقادات تتعلق بدور روسيا والصين في شرعنة سياساتهما الإقليمية، من الغزو الروسي لأوكرانيا إلى سلوك الصين في بحر الصين الجنوبي وتجاه تايوان، ما يستدعي إعادة النظر في كيفية عرض المنظمة نفسها دوليًا.

وترى الباحثة أن مستقبل المنظمة يعتمد على اتخاذ تدابير عملية لتعزيز مصداقيتها وكفاءتها، مثل إنشاء صندوق تنمية مصغر مع سقوف ملكية متساوية لجميع الأعضاء لمعالجة مخاوف موسكو بشأن الهيمنة الصينية، وزيادة المشاركة مع الدول المراقبة وشركاء الحوار، وتوسيع المبادرات الثقافية والأكاديمية ورفع مستوى الشفافية الإعلامية. وتؤكد نودبا أن المنظمة اليوم تقف عند مفترق طرق: إما أن تبقى منتدى للحوار، أو تتحول إلى قوة إقليمية فاعلة قادرة على إدارة الأزمات وتحويل الثقة إلى تعاون حقيقي، لتصبح قوة حاسمة في إدارة الأزمات الإقليمية في مواجهة النفوذ الغربي.

تؤكد الباحثة فاطمة نودبا أن مستقبل منظمة شنغهاي للتعاون يعتمد بشكل مباشر على قدرة أعضائها على تجاوز الخلافات الداخلية، وتعزيز التعاون الفعلي في المجالات الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية. فنجاح المنظمة لا يقاس فقط بعدد الاتفاقيات أو المشاريع، بل بمدى قدرتها على ترجمة الحوار إلى أفعال ملموسة تعزز الاستقرار الإقليمي وتواجه التحديات المتزايدة بجرأة وفعالية. ومع التزام الدول الأعضاء برؤية مشتركة واستراتيجيات واضحة، يمكن للمنظمة أن تتحول من منتدى نقاش إلى قوة إقليمية متكاملة، تجمع بين الأمن والتنمية والديبلوماسية في خدمة مصالح شعوب أوراسيا.

ديباك سين - مستشار استراتيجي، مختص في ادارة المشاريع (الهند)

من شنغهاي إلى بيانجين.. أزمة الهوية التي أعادت رسم خريطة القوة في آسيا

ديباك سين، مستشار استراتيجي مختص في إدارة المشاريع من الهند وعضو هيئة التدريس في SP Jain School of Global Management، وصف قمة مدينة تيانجين بأنها تمثل "تجميعًا لمصالح متضاربة تحت يافطة منظمة مختلة"، ويركز الباحث في تحليله على دلالات حضور رئيس وزراء الهند، الذي اعتبره كثيرون رمزًا لنشوء تحالف محتمل لقوى عظمى جديدة في الشرق.

أثارت "الألفة الظاهرة" بين قادة الهند والصين، بحضور روسيا المنخرطة في حربها مع أوكرانيا، اهتمام وسائل الإعلام العالمية بشكل خاص، إذ بدا أن هذا التجمع قد يشكل محورًا جديدًا للقوة بعيدًا عن الدور المباشر للغرب، وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

بالنسبة للعديد من المراقبين الغربيين، كان مشهد تحالف الهند الديمقراطية مع الصين المتزايدة الحزم، وروسيا المعزولة، "لحظة جيوسياسية مثيرة للقلق"، ويرى سين أن هذه الديناميكية أعطت "وزنًا لرؤية الصين لعالم متعدد الأقطاب"، وهو ما يثير المخاوف في واشنطن من تهميش الولايات المتحدة وضعف نفوذها العالمي، كما يتابع الاتحاد الأوروبي هذه التطورات عن كثب، مدركًا تأثيرها على التجارة والأمن العالميين.

في رأي الباحث، التغطية الإعلامية المكثفة لقمة تيانجين "غيّرت بشكل جذري التصور حول منظمة شنغهاي للتعاون، من هيئة إقليمية إلى مسرح مركزي لإعادة توازن القوى العالمية".

وعند الحديث عن جذور منظمة شنغهاي، يستدعي سين التاريخ ويشير إلى الدوافع الاستراتيجية والأمنية للصين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والتي كانت مدفوعة بالبحث عن استقرار الحدود. بعد تلاشي الاتحاد السوفيتي، أصبحت الصين تشترك بحدود طويلة مع جمهوريات آسيا الوسطى الجديدة، مما جعل الاستقرار الإقليمي هدفًا استراتيجيًا محوريًا. كما أن توسع الناتو شرقًا في منتصف التسعينيات جعل آسيا الوسطى تمثل حاجزًا حيويًا للصين في مواجهة النفوذ الغربي.

من جانب آخر، يشير ديباك سين إلى أن الدوافع الاقتصادية لعبت دورًا محوريًا في تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون. فآسيا الوسطى تمثل مصادر مهمة للطاقة والمواد الخام الأساسية اللازمة لتحديث الاقتصاد الصيني، كما أنها توفر فرصًا لتنويع مسارات التجارة. حرصت الصين على تأسيس طرق تجارة عبر القارات، لضمان استيراد المواد الخام الاستراتيجية وتصدير السلع الصناعية، وتقليل الاعتماد على الطرق البحرية التي قد تتعرض لمضايقات البحرية الأمريكية. وبالاستثمار في آسيا الوسطى، ضمنت الصين إمدادات السلع الأساسية وفتحت أسواقًا جديدة للصادرات الصينية، وهو ما يُنظر إليه، وفق الباحث، كجزء من مرحلة انتقالية بعد الحقبة السوفيتية، تمثل "فرصة كبيرة للصين بسبب تناقص النفوذ الروسي في المنطقة".

على هذا الأساس، شكلت الصين، بمشاركة روسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، مجموعة "شنغهاي 5" في 26 أبريل 1996، وكان الهدف الرئيسي من المجموعة نزع السلاح على الحدود المشتركة وبناء الثقة المتبادلة، وهو ما وافقت عليه روسيا أساسًا لتأمين حدودها الواسعة والهشة مع الصين وجيرانها السوفييت السابقين، ومنع أي تنافس إقليمي محتمل، حيث تميز تأسيس المجموعة بتوقيع الدول الخمس على "معاهدة تعزيز الثقة العسكرية في المناطق الحدودية".

لعب الرئيس الروسي حينها، بوريس يلتسين، دورًا محوريًا كموقّع ومروّج للمجموعة، سعيًا لتأمين حدود روسيا وتعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب يحد من نفوذ القوى العظمى الأخرى. شملت أهدافه حل النزاعات الحدودية مع الصين ودول آسيا الوسطى، وبناء الثقة العسكرية، ومقاومة التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية، بما يتوافق مع إطار أمني تعاوني ومحايد. وكان الدافع الرئيس لتشكيل المجموعة مرتبطًا بالمصلحة المشتركة في مكافحة الإرهاب الإقليمي والانفصالية العرقية والتطرف الديني، وإقامة إطار مستقر للأمن الإقليمي.

أما الجانب الصيني، فقد كان الرئيس جيانغ زيمين المحرك الرئيسي لتكتل "شنغهاي 5"، إذ رأى فيه فرصة استراتيجية لتعزيز الأمن الإقليمي والدور الدبلوماسي للصين و يوضح الباحث أن أهداف الصين كانت ثلاثية: أولاً، بناء الثقة على الحدود، ثانيًا، تعزيز التعاون ضد ما سماه "شرور الثلاثة" المتمثلة في التطرف والانفصالية والإرهاب، ثالثًا، مقاومة الهيمنة والسياسة القوية في الشؤون الدولية، ومن خلال هذا التوجه، سعت بكين إلى ترسيخ عالم متعدد الأقطاب، وإقامة جبهة مستقرة على حدودها الغربية لتسهيل صعودها الاقتصادي.

على مدى السنوات الخمس التالية لتأسيس "شنغهاي 5"، عملت الصين مع الدول المشاركة لحل القضايا العالقة، وبحلول عام 2001، تطورت حالة الثقة نتيجة "السلوك التوافقي" للصين ورغبتها في إقامة علاقات تقوم على التبادل في المسائل الإقليمية. في هذا الإطار، يرى الباحث أن تشكيل منظمة شنغهاي للتعاون كان ذا أهمية كبيرة لكل من الصين وروسيا لتجنّب الدول السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى من الانجراف تحت النفوذ الأمريكي، خصوصًا بعد الانتصار السريع للولايات المتحدة في أفغانستان عقب هجمات 11 سبتمبر، الذي شكّل ضغطًا على روسيا والصين لتعزيز شراكتهما بسرعة.

كان فلاديمير بوتين حينها رئيسًا شابًا ونشيطًا يسعى لاستعادة مكانة بلاده العالمية، بينما كانت الصين، التي كانت لا تزال ضعيفة ومعزولة نسبيًا، تبحث عن حلفاء موثوقين لدعم صعودها الاقتصادي والسياسي. بناءً على هذه الثقة المتنامية، حوّلت الصين مجموعة "شنغهاي 5" إلى منظمة شنغهاي للتعاون في 15 يونيو 2001، بانضمام أوزبكستان. ويؤكد الباحث أن انضمام أوزبكستان مثل خطوة استراتيجية للدول المؤسسة، خصوصًا الصين وروسيا، اللتين كانتا حريصتين على تنظيم الكتلة وتوسيع نفوذهما في المنطقة.

لعبت أوزبكستان دورًا محوريًا بسبب موقعها المركزي في آسيا الوسطى ومشاكلها الأمنية الداخلية المستمرة، لا سيما تصاعد أعمال عنف "الحركة الإسلامية في أوزبكستان" (IMU)، وهي مجموعة متطرفة راديكالية. منح انضمامها إلى منظمة شنغهاي منصة قوية للتعاون الإقليمي في مكافحة الإرهاب والانفصالية والتطرف، وأصبح ذلك محور تركيز المنظمة الجديدة. كما واجهت أوزبكستان نزاعات حدودية مع دول الجوار مثل قيرغيزستان وطاجيكستان، وكان انضمامها يهدف إلى تأمين حدودها والحصول على دعم أمني مستدام.

من جانبها، كانت للصين مصلحة مزدوجة في ضم أوزبكستان: اقتصاديًا، تمتلك أوزبكستان موارد طبيعية مهمة وتعد مركزًا رئيسيًا لطرق التجارة والطاقة المستقبلية، مثل خط السكة الحديدية بين الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان؛ وجيوسياسيًا، كان انضمامها ضروريًا لتثبيت نفوذ الصين في آسيا الوسطى وضمان استقرار حدودها الغربية، وهو ما يمكّنها من تعزيز حضورها الإقليمي والدولي بشكل استراتيجي.

يعتبر الباحث أن انضمام أوزبكستان عاملاً مهمًا في دفع توسع اختصاص منظمة شنغهاي للتعاون ليشمل أمن الحدود إلى جانب مكافحة الإرهاب، وهو ما أرسى "إطارًا أمنيًا جديدًا للمنطقة". وعملت المنظمة على تأسيس أمانة دائمة في بكين، وهيكل إقليمي لمكافحة الإرهاب في طشقند، مما عزز تنسيق الجهود بين الدول الأعضاء.

وفقًا لرؤية ديباك سين، تتبنى الصين من خلال المنظمة هدفين استراتيجيين رئيسيين. الأول يتعلق بـ تأمين الموارد من آسيا الوسطى، حيث تنفذ الصين مشاريع بنية تحتية ضخمة وتلتزم بالاستثمار في تلك الدول، بما يسمح لها باستخدام هذه البنى للوصول إلى الموارد الحيوية.

 ويشير الباحث إلى أن "في وقت كانت فيه الولايات المتحدة منشغلة بحروبهما في العراق وأفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر، كانت دول آسيا الوسطى تملك الموارد لكنها تفتقر إلى السوق، وكانت هذه فرصة استراتيجية للصين كراعٍ للأمن وممكّن للعجلة الاقتصادية". من خلال هذه الديناميكية، أطلقت الصين مشاريع بارزة مثل خط أنابيب النفط كازاخستان-الصين وخط أنابيب الغاز آسيا الوسطى-الصين.

أما الهدف الاستراتيجي الثاني للصين، فيتعلق بـ ضمان أمن هذه الموارد. فقد خشيت الصين أن تستغل الولايات المتحدة، في ظل انشغالها بالحروب، ذريعة مكافحة الإرهاب للدخول في سباق الموارد في آسيا الوسطى، مما كان سيضر بنمو الصين الاقتصادي. وبسبب الصراعات الإقليمية المستمرة، وشعور دول آسيا الوسطى بعدم الأمان، "استغلت الصين هذا العرض بتقديم نفسها كضامن صريح للأمن"، وهو عرض قوبل بقبول فوري ورضا واسع، وفق تعبير الباحث.

تجسدت هذه العلاقة الأمنية تدريجيًا خلال السنوات التالية، حيث دربت الصين قوات الشرطة والميليشيا والجيش في دول آسيا الوسطى، وضمنت تزويدهم بأحدث التقنيات الأمنية، بما في ذلك رادارات وأجهزة مراقبة يسيطر عليها الصينيون وتبادل بياناتها مباشرة معهم. كما راقبت أقمار الصين الصناعية المنطقة باستمرار وتتبع كل تحركاتها. ومن خلال هذا الانخراط العميق، "أصبح واضحًا أن العلاقة بين الصين ودول آسيا الوسطى لم تقتصر على المستوى الاقتصادي والبُنى التحتية، بل ترسخت كذلك على مستوى الأمن بحلول 2007-2008".

ويشير ديباك سين إلى أن نفس الفترة التي شهدت توسعًا صينيًا في آسيا الوسطى، شهدت أيضًا تسارعًا في عودة روسيا للبروز على الساحة الإقليمية. بعد سنوات من الفوضى السياسية الداخلية، استقرت روسيا بحلول 2009-2010 وظهرت على الساحة العالمية متجددة بقيادة شابة ونشيطة تحت رئاسة فلاديمير بوتين. ويرى الباحث أن "روسيا المستقرة شعرت بالإزعاج من التأثير الأمني المتزايد للصين في فضائها الاستراتيجي التقليدي في جمهوريات آسيا الوسطى"، ومع نمو النفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة، ازدادت مخاوف موسكو من فقدان مجال نفوذها التاريخي في الجمهوريات السوفياتية السابقة.

وبدلاً من المواجهة المباشرة، اختارت روسيا "نهجًا منطقيًا وناضجًا" من خلال التفاعل مع الصين، وبناء الثقة، ودعم أهدافها في آسيا الوسطى، بالإضافة إلى المساعدة في حل القضايا السياسية. وبحلول 2014-2015، اقترحت موسكو على الصين توسيع منظمة شنغهاي للتعاون بإضافة أعضاء جدد لإنشاء جبهة قوية مضادة للولايات المتحدة، وطرحت فكرة وجود "حلف شمالي أطلنطي آسيوي".

في هذا السياق ،يشير الباحث إلى أن هذه التحركات تعكس "دوافع روسية معقدة"، إذ سعت موسكو لكسب الشرعية بعد تعرضها لعقوبات غربية بسبب الحرب في أوكرانيا، ورأت في منظمة شنغهاي آلية لتعزيز عالم متعدد الأقطاب جديد. ويتقاطع الخطاب السياسي الروسي مع نظيره الصيني في الدعوة إلى صوت موحد في القضايا الدولية، والدفع نحو تكامل أكبر داخل المنظمة، وربطها بمبادرات إقليمية أخرى مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) لتنسيق الرد على مبادرة الحزام والطريق الصينية.

ويرى الباحث أن استجابة الصين لهذه الدعوات بتليين موقفها تعكس رؤيتها للمنظمة كمنصة تمكنها من تحدي الهيمنة الأمريكية بشكل مباشر. ومع انضمام القوى النووية مثل الهند وباكستان، وكذلك إيران، تبدو منظمة شنغهاي للتعاون اليوم "قوة مرموقة على الخريطة السياسية العالمية". وتستخدم روسيا والصين المنصة لانتقاد الأحادية الأمريكية والترويج لعالم متعدد الأقطاب، كما تجسد التدريبات العسكرية المشتركة مثل "مهمة السلام" هذه الاستراتيجية، حيث تركز صراحة على مكافحة الإرهاب، وتعبّر في رمزيتها عن توجه نحو مقارعة التدريبات العسكرية واسعة النطاق التابعة لحلف شمال الأطلسي.

وعن التحالفات والتقارب بين أعضاء المنظمة، يشير الباحث إلى ما يسميه "أزمة هوية سياسية" للمنظمة. ويتحدث عن "لعبة سياسية روسية" تهدف إلى دفع قبول أعضاء جدد، في محاولة موسكو للتخلي عن صفة "التابع الضعيف لبكين" والبحث عن ثقل مضاد للصين، خشية أن تميل دول آسيا الوسطى، التابعة تاريخيًا لنفوذها، إلى الانضمام لمعسكر الصين.

كما يرى الباحث أن التقارب الهندي الروسي كان يهدف بالأساس إلى "كبح جماح الصين"، بحكم اعتماد القوة العسكرية الهندية بشكل كبير على المعدات الروسية؛ فالقوات البرية الهندية تقود دبابات "تي-90"، وقواتها الجوية تطير بطائرات "سوخوي"، في حين أن حاملة طائراتها الوحيدة "فيكراماديتيا" هي فائض من الحقبة السوفييتية. ومع ذلك، يشير سين إلى أن العقل الأمني الهندي يركز على أولويتين ثابتتين: المناوشات المستمرة مع باكستان، والتنافس الاستراتيجي مع الصين. ويذكّر في هذا السياق بأن الهند خاضت منذ استقلالها عام 1947 ست حروب، أربع منها مع باكستان واثنتان مع الصين، بينما تجمع بين بكين وإسلام آباد "صداقة قوية" تفوق حتى تعاون باكستان مع الولايات المتحدة.

لهذا، ما إن اقترحت روسيا انضمام الهند إلى منظمة شنغهاي للتعاون، حتى سارعت الصين إلى الرد بمقترح ضم باكستان، في خطوة اتسمت بالبراغماتية لحماية توازن القوى. وافقت موسكو بسهولة على إدخال العضوين معًا، وسجّل انضمامهما رسميًا في 9 يونيو 2017 خلال قمة أستانا في كازاخستان. ورغم أن هذا التوسع بدا ظاهريًا كخطوة لتعزيز التكتل، إلا أنه مثّل في العمق "تحركًا استراتيجيًا من روسيا" أضعف قدرة المنظمة على اتخاذ القرارات بالتوافق، من خلال إدخال خصمين إقليميين لدودين في آن واحد.

لا يرى الباحث أن انضمام باكستان أحدث تأثيرًا كبيرًا على توازن المنظمة، بحكم وجود أربع دول أخرى ذات أغلبية مسلمة داخلها. لكنه في المقابل يؤكد أن الهند من غير المرجح أن تلتزم بالقواعد السلطوية التي تحكم المنظمة، أو أن تنسجم مع سياساتها الأمنية التي تشكل أساس برنامجها. بل إن انضمام نيودلهي وإسلام آباد أسهم في إدخال توتر داخلي إلى المنظمة، بفعل صراعاتهما المتبادلة، ما جعل التكتل "يتزعزع من الداخل" وفق تعبيره.

ويذهب سين أبعد من ذلك بالقول إن هدف روسيا من هذا التوسع كان واضحًا للغاية: فهي أرادت أن تظل آسيا الوسطى تحت مظلتها الجيوسياسية باعتبارها الضامن الأمني "الوحيد" للمنطقة. وبذلك تحوّل التنافس الاستراتيجي بين الصين وروسيا، عبر الهند وباكستان كـ"دول وكيلة"، إلى عنصر مشوش على أجندة منظمة شنغهاي منذ 2017، ما حال دون تحقيق حلم إنشاء "ناتو آسيوي". ويرى الباحث أن الهند مرتاحة لهذا الوضع، لأنها سرًا لا ترغب في أن تتولى الصين دورًا قياديًا داخل المنظمة.

يقدّم الدكتور ديباك سين مثالًا واضحًا للتوترات داخل منظمة شنغهاي للتعاون، من خلال ما حدث في اجتماع وزراء الدفاع الـ22 للمنظمة في تشينغداو، الصين، في يونيو الماضي. حين طلب وزير الدفاع الهندي إدراج إدانة واضحة للهجوم الإرهابي في إقليم كشمير ضمن البيان المشترك، عرقلت باكستان بدعم من الصين هذا الطلب، ورفضت الهند توقيع الوثيقة لأنها لم تتضمن الإشارة إلى "الإرهاب العابر للحدود". ويعتبر الباحث أن هذا الحادث شكّل "عامل انهيار كل الآلية العملية للمنظمة"، وأبرز "طبيعة التوترات الثنائية العميقة التي تتجاوز في كثير من الأحيان أجندة المنظمة الجماعية".

ومؤخرًا، عندما زار رئيس وزراء الهند المنظمة، أعيد طرح المسألة نفسها: هل يجب تسمية باكستان كداعمة للإرهاب عبر الحدود أم لا؟ ويشير سين إلى أن بكين "غير قادرة على الوصول إلى توافق في هذا الشأن"، مما يعكس الصعوبة البالغة في إدارة النزاعات الثنائية داخل الإطار الجماعي للمنظمة.

في سياق آخر، يركّز الباحث على النهج الهندي المسمى بـ"الأعمدة الثلاثة" الذي يركز على الأمن والربط والفرص، ويشير إلى أن الهند تدفع بهذا النهج لإعادة تشكيل سردية المنظمة بعيدًا عن النظرة المركزة على الصين. ويضيف سين أن هذا الأسلوب أدى فعليًا إلى إحباط طموحات بكين داخل منظمة شنغهاي.

ويصف الباحث ما يجري داخل المنظمة بأنه "تجميع لمصالح مشتركة تحت يافطة منظمة مختلة"، موضحًا أن الصين تشعر بالاستياء لأنها لم تتمكن من تحويل المنظمة إلى "ناتو آسيوي"، بينما روسيا سعيدة لأنها تمكنت من الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي، والهند راضية لأنها أوقفت سياسات القوة الصينية. وتُظهر آسيا الوسطى رضاها بالحصول على الأمن من روسيا والفوائد الاقتصادية من الصين، مع تنويع الشركاء الاقتصاديين عبر التفاعل مع الهند، في حين تبقى باكستان "محبطة بشكل دائم لأنها، رغم عضويتها، لا تستطيع ممارسة أي نفوذ سياسي مؤثر".

بالتالي، تحولت منظمة شنغهاي للتعاون من "مجموعة منظمة وظيفيًا" إلى "منظمة مختلة وظيفيًا بالكامل"، ويصفها الباحث بأنها الآن "مؤسسة محجوزة تمامًا وفي حالة أزمة هوية، غير قادرة على تحديد ما إذا كان هدفها الاقتصاد، الأمن، أو مكافحة الإرهاب". ويضيف أن الانقسامات الداخلية العميقة، بما في ذلك النزاعات العرقية بين قيرغيزستان وأوزبكستان، نزاعات المياه بين طاجيكستان وأوزبكستان، والصراعات السياسية المستمرة بين رؤساء قيرغيزستان وكازاخستان، تزيد الطين بلة. ويخلص سين إلى أن "رحلة المنظمة، التي بدأت بحل النزاعات الحدودية، ثم تحولت إلى مزود صافي للأمن، ثم إلى النمو الاقتصادي، قد تعثرت".

يشير الباحث أيضًا إلى أن منظمة شنغهاي أصبحت "ساحة للصراع السياسي على مستوى أكبر"، حيث تتوافق مصالح روسيا والهند والولايات المتحدة بشكل غير مقصود ضد نجاح الصين في جعل المنظمة مؤسسة إقليمية قوية. ويضيف أن أي نجاح صيني في هذا الاتجاه قد يحوّل المنظمة إلى منصة لانطلاقها لاستهداف المؤسسات العالمية، لذلك "تكمن مصلحة موسكو ونيودلهي وواشنطن في كبح الصين عبر شنغهاي".

ختامًا، يخلص الدكتور سين إلى أن روسيا والصين وباكستان والهند لا تزال تفرض هيمنتها داخل المنظمة، ولهذا السبب "لن تحصل منظمة شنغهاي على هوية سياسية موحدة أبدًا". ويشير إلى أن المستفيد الأكبر من هذه الأزمة هي الولايات المتحدة، التي لم ترغب قط في صعود منظمة شنغهاي أو بروز الصين الجيوسياسي، وأن مستقبل المنظمة يبدو الآن "كمنصة دبلوماسية للحوار واستعراض السياسات القوية بين الأعضاء، بدلًا من أن تكون قوة جيوسياسية موحدة".