2025.09.30



مستقبل التحالفات \ ملفات الأيام

مستقبل التحالفات "الاستراتيجية" في الخليج.. هل انتهى زمن الحماية الأمريكية؟


طاهر مولود
28 سبتمبر 2025

هل ما زالت الحماية الأمريكية ضمانة مطلقة لدول الخليج؟ الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على قطر، رغم استضافتها لأكبر قاعدة جوية أمريكية، طرحت تساؤلات صادمة: من هو العدو الحقيقي لدول الخليج؟ وهل التحالفات الاستراتيجية التي اعتُبرت خط الدفاع الأول تكفي لحماية السيادة والأمن؟ في وسط هذا الواقع المعقد، تتشابك المصالح الأمريكية مع السياسات الصهيونية، لتعيد رسم خريطة التهديدات في المنطقة، وتفرض على الخليج مواجهة حقيقة صادمة: الأمن التقليدي لم يعد مطمئنًا، والتحالفات الكبرى ليست بالضرورة حصنا ضد المفاجآت الاستراتيجية التي قد تهز استقرار المنطقة بأكملها.

في إحدى مقاطع الفيديو المنتشرة على الشبكات الاجتماعية، يظهر تسجيل صوتي لضابط أمن قطري يأمر جنوده خلف شاشات التحكم لرادارات الدفاع الجوي بـ"التصدي" لصواريخ يُفترض أنها قادمة من إيران، باتجاه قادة أمريكيين، في يونيو الماضي. في تعليقاتهم الساخرة، يقول رواد الشبكات: "حين يتعلق الأمر بصواريخ إيران التي تدك معاقل الصهيونية، يكون الأمر بالتصدي 'ديستروي'، ولكن حين يكون الصاروخ إسرائيلي نحو الدوحة، فإن الأمر هو 'إنجوي' (تمتع)"...

سقطت الصواريخ في حي هادئ في الدوحة، على مقربة من قصر زاره دونالد ترامب خلال جولته في المنطقة في مايو الماضي، والتي تضمنت زيارة إلى قاعدة العديد الجوية الأمريكية في قطر، التي تبعد نحو ثلاثين كيلومترًا عن مكان وقوع الصواريخ. بالنسبة لحكام الخليج، تمثل هذه الرسالة تحديًا لافتراضهم القديم بأن العلاقات مع الولايات المتحدة وقواعدها العسكرية ستوفر لهم الحماية المطلقة من أي هجوم محتمل.

بنفس اللهجة التي تحدث بها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بعد عمليات المقاومة في غزة، اتهم بنيامين نتنياهو، في 7 أكتوبر 2023، قطر بتمويل حركة حماس، معتبرًا أن الضربة التي استهدفت قادة الحركة في الدوحة كانت "مبررة تمامًا". وأضاف نتنياهو أن قطر ترتبط بحماس بشكل وثيق، فهي تقدم لها الدعم والإيواء وتمول نشاطاتها، وتمتلك أدوات ضغط قوية لكنها اختارت عدم استخدامها، ما دفع "إسرائيل" للتحرك بكل حزم.

وسائل الإعلام كشفت أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان على علم مسبق بالضربة الإسرائيلية التي استهدفت مجمعًا سكنيًا في الدوحة خلال اجتماع لقادة حماس، وأبدى موافقته عليها، رغم حساسية العلاقة مع قطر كحليف استراتيجي للولايات المتحدة. وفي المقابل، زعمت إدارة ترامب في البيت الأبيض أنها لم تكن على علم بالهجوم إلا بعد بدء إطلاق الصواريخ، وبالتالي لم تُتح للرئيس فرصة معارضة العملية، رغم أن ترامب نفسه أعلن لاحقًا استنكاره للهجوم، معتبرًا قطر حليفًا استراتيجيًا.

هذا الواقع يطرح تساؤلات عميقة: سواء علمت الإدارة الأمريكية بخطوات نتنياهو أو جهلتها، فإن الحليفين الاستراتيجيين – الولايات المتحدة و"إسرائيل" – يعملان يداً بيد على إعادة رسم الخارطة السياسية للشرق الأوسط، في إطار ما وصفته مراكز الاستخبارات بعملية "بناء هندسة الأنظمة السياسية من المحيط إلى الخليج"، أو ما يعرف بمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد.

السؤال الملح الذي يطرحه هذا المشهد: هل تدرك دول الخليج الآن أن العدو الوجودي الحقيقي لأمنها وأمن شعوبها ليس إيران، بل "إسرائيل"؟ ربما تكون الضربات العدائية التي شنها صقور الكيان الغاصب شكلًا من أشكال الدبلوماسية الواقعية، إذا سلمنا أن الحرب هي امتداد للسياسة بطريقة أخرى. لا يختلف اثنان على إدانة إرهاب الدولة الذي يمارسه الكيان الصهيوني في استراتيجية زرع الفوضى في الشرق الأوسط، ولكن الأمر الآخر الذي لا يختلف عليه اثنان هو انهيار مقولة السلام الإبراهيمي التي دعا إليها نتنياهو، حين حاول رفع خريطة "إسرائيل" أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم جرّ دول الخليج نحو التطبيع "مقابل السلام"، في حين أن السلام الذي تحميه القواعد الأجنبية على أراضي دول الخليج، ليس إلا شكلاً من أشكال الاحتلال أو الاحتواء، مرتبط دوماً بانتزاع السيادة وفرض الجزية، حتى لو تغيرت مصطلحات التعبير عنها في لغة الدبلوماسية إلى "صفقات تجارية"، "شراكة استراتيجية" أو "تكامل اقتصادي".

التاريخ يذكرنا بأن جيوش العالم انطلقت من قواعد الخليج نحو العراق في 1991-1992، ثم بعد عقدين من الزمن شنت الولايات المتحدة الحرب الثانية ضد العراق عام 2003، حيث كانت البيانات الصحفية التي يتلوها وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، دونالد رامسفيلد، تبث مباشرة من قاعدة العديد القطرية، التي تعتبر أكبر قاعدة أمريكية على الإطلاق في الشرق الأوسط. وحتى لا تغيب عن القارئ الصورة الكاملة، يجدر التذكير بأن قاعدة "إنجرليك" الجوية في تركيا كانت المحطة التي انطلقت منها الطائرات الأمريكية لتغطية الأجواء ومنع الطيران العسكري العراقي من ضرب معاقل "داعش" في سوريا والعراق. إذن، للقواعد العسكرية الأمريكية في الخليج دور استراتيجي في هذا الإطار، لا يمكن إنكاره.

صُدمت قطر، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة، بالهجوم الإسرائيلي على الدوحة الذي أسفر عن استشهاد أعضاء حماس وضابط أمني قطري، على الرغم من استضافتها لأكبر قاعدة جوية أمريكية وترحيبها بالرئيس ترامب. وقد وصف رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني الهجوم بأنه "إرهاب دولة"، ودمر الآمال في وقف إطلاق النار وتحقيق السلام في المنطقة.

يمكن القول إن قطر هي واحدة من أكثر الدول أمانًا في العالم. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: كيف يمكن للمنطقة أن تشعر بالأمان إذا كانت "إسرائيل"، كما قال المبعوث الأمريكي توم باراك مؤخرًا، "تستطيع الذهاب إلى أي مكان تريده"؟ الحقيقة المرة أن لا أحد ولا مكان في المنطقة آمن في ظل حكومة نتنياهو الحالية، وهذه ليست المرة الأولى التي يأمر فيها نتنياهو بشن هجوم على دولة ذات سيادة.

لقد أثار هذا الهجوم شكوكًا واسعة بين دول الخليج حول الاعتماد على الضمانات الأمنية الأمريكية، على الرغم من العلاقات الاقتصادية الضخمة والصفقات الأخيرة مع الولايات المتحدة بقيمة 3 تريليونات دولار. ويشير الخبراء إلى أن هذه الدول قد تضطر في المستقبل إلى تعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية، في ظل ضعف الثقة في الحماية الأمريكية.

رد السعودية بعد الهجمة كان مثيرًا للاهتمام، فقد أعلنت عن استعدادها لإرسال الموارد لمساعدة قطر بأي طريقة ممكنة. دعم الرياض، أكبر دول الخليج وأكثرها تأثيرًا، لقطر بهذه الطريقة، يعتبر إشارة قوية إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي قد تتخذ موقفًا أكثر توحدًا مستقبلاً، خصوصًا في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية.

وفيما يتعلق بجهود الوساطة حول غزة، فقد أصبحت هذه الجهود غير مؤكدة بعد، مع إحجام أوسع إقليميًا عن المشاركة في محادثات السلام، وسط شكوك في النفوذ الأمريكي، وتواصل دول الخليج الأخرى دورها الوسيط، لكنها تنتظر رد الرئيس الأمريكي الذي يمكن أن يشكل مصير المفاوضات المقبلة، إذا ما تمت أصلاً، في ظل تهديدات إسرائيلية بفتح "أبواب جحيم" ضد الغزاويين.

السؤال الملح الآخر: إذا استمرت "إسرائيل" في محاولة اغتيال المفاوضين، فهل كانت جادة في المفاوضات منذ البداية؟ خلال العامين الماضيين، سجلت العديد من الحوادث التي انسحب فيها نتنياهو من المفاوضات أو عرقلها في كل مناسبة. فالواقع أن نتنياهو مهدد باستقالة حكومته أو السجن إذا لم يوازن بين مصالحه الداخلية والمتطرفين في حكومته، وهذا ما يجعله غير قادر على السماح بتحقيق أي اتفاق حقيقي للسلام.

في النهاية، تكشف هذه الأحداث عن حقيقة مؤلمة لدول الخليج: الاعتماد على الحماية الأمريكية لم يعد كافيًا لضمان الأمن. فالتحالفات الاستراتيجية، مهما بدت قوية على الورق، تصبح هشّة أمام تحركات "إسرائيل" غير المتوقعة والاعتبارات الداخلية للولايات المتحدة. وعليه، ترتفع كلفة الحماية الأمريكية ليس فقط ماديًا، بل سياسيًا وأمنيًا، ما يضع دول الخليج أمام معادلات صعبة تحتاج إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الدفاعية والسياسية والديبلوماسية في المنطقة.

الخليج بعد هجوم "إسرائيل".. هل بدأت لحظة المساومة؟

ليث حماد مستشار في الشؤون الاقتصادية (قطر)

يشكّل الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، حسب قراءة الباحث والمستشار في الشؤون الاقتصادية، ليث حماد، “انقطاعًا تاريخيًا في أمن الخليج”. فلأول مرة، تشنّ "إسرائيل" عملية عسكرية مباشرة ضد دولة من دول مجلس التعاون الخليجي، “محطّمة بذلك الافتراض السائد منذ زمن طويل بأن عواصم الخليج محميّة من أي هجوم مباشر بفضل الوجود الأمني الأمريكي”. ومما يثير القلق بشكل خاص، في تحليل الباحث، هو “ادعاء واشنطن عدم علمها بالأمر”. فالولايات المتحدة “تمتلك واحدة من أكثر شبكات الرادارات وطائرات (أواكس) والأصول العسكرية المنتشرة في الشرق الأوسط تطوّرًا”.

يقول الباحث: “مع وجود ثماني قواعد دائمة في المنطقة، فإن فرضية أن الولايات المتحدة لم تكن على علم بمثل هذه العملية، تفتقر إلى المصداقية”. فبالنسبة لصانعي السياسة في المنطقة، “هذا أكثر من مجرد قلق تكتيكي، بل أيضًا إشارة إلى تغيّر الواقع الأمني”. فقد تم تنفيذ الهجوم بواسطة نظام حربي أمريكي، ومن ضمن صلاحيات صانعي السياسة الأمريكية “فرض قيود على "إسرائيل" لمنع استخدام الأسلحة الأمريكية ضد حلفاء المنطقة”.

من منظور استراتيجي، فإن تصوير "إسرائيل" للضربة على أنها عملية محدودة ضد حماس “هو أمر متعمد وفعّال”. يحلّل السيد حماد بالتأكيد أن “تصوير "إسرائيل" للعملية على أنها إجراء لمكافحة الإرهاب، هو محاولة سعى من خلالها نتنياهو إلى استباق أي رد فعل إقليمي موحّد وعزل قطر سياسيًا”. وحسب الباحث، “تتماشى هذه التكتيكات مع ما يصفه علماء العلاقات الدولية باستراتيجية "فرق تسد"، حيث تقوم الدول الأقوى بتفتيت الردود الإقليمية من خلال تشكيل روايات متعددة، لتقليل فعالية العمل الجماعي”. مضيفًا: “إذا قبلت دول مجلس التعاون الخليجي هذا الإطار السردي، فإنها تخاطر بتعزيز حرية "إسرائيل" في التصرف مع إضعاف تماسكها الداخلي”.

لذا، “فإن المهمة الأولى هي إعادة صياغة الرواية”. يشير الباحث إلى أن “دول مجلس التعاون الخليجي اتفقت على وصف هذا الحدث علنًا، وبشكل متسق، بأنه ليس ضربة ضد حماس، بل هجوم مباشر على سيادة دولة”. والسيادة، في التقاليد السياسية، هي أساس أمن الدولة، وبمجرد انتهاكها، “فإنها تقوّض شرعية النظام الأمني الإقليمي نفسه”. ومن خلال رفع مستوى الحادث إلى انتهاك للسيادة، “يمكن لمجلس التعاون الخليجي تحويل الخطاب من مكافحة الإرهاب إلى الدفاع الجماعي، وهو مجال يصعب فيه تجاهل القانون الدولي والتضامن السياسي”.

من خلال تصنيف الضربة الإسرائيلية “على أنها تهديد لسيادة دول مجلس التعاون الخليجي، يمكن للقادة الخليجيين تبرير اتخاذ تدابير عسكرية ودبلوماسية واقتصادية جديدة”. والأهم من ذلك، حسب الباحث حماد، “أن إعادة صياغة سردية هذه القضية لا توحّد دول الخليج فحسب، بل تضغط أيضًا على الأطراف الخارجية - ولا سيما الولايات المتحدة - لتوضيح التزاماتها تجاه أمن المنطقة”.

إذا سمح مجلس التعاون الخليجي لـ"إسرائيل" بالسيطرة على الرواية الإعلامية للاعتداء، فسوف يتحوّل الحادث إلى حلقة أخرى في الصراع بين "إسرائيل" وحماس. ولكن “إذا استغلت قطر وجيرانها الفرصة لتقديمه على أنه انتهاك للسيادة - وهو ما حدث خلال جلسة مجلس الأمن والقمة الطارئة -، فيمكن، كما يقول الباحث، أن يكون الهجوم حافزًا لإعادة ضبط سياسة الأمن الخليجية”. والمهمة الآن، حسبه، “هي الانتقال من الإطار إلى العمل”، أي “الاستفادة من الحدث للحصول على التوضيحات اللازمة من قبل الإدارة الأمريكية، وحتى الضغط للحصول على تنازلات استراتيجية من واشنطن، رغم ما يبدو من تعقيدات حالية”.

إذا أراد مجلس التعاون الخليجي تحويل الضربة الإسرائيلية على الدوحة إلى “متغيّر استراتيجي طويل الأمد”، فإن الخطوة العملية الأولى، حسب الباحث، “يجب أن تكون موجهة نحو واشنطن”. لعقود من الزمن، استند الوجود العسكري الأمريكي في الخليج إلى صفقة ضمنية: بحيث “تستضيف دول الخليج القواعد العسكرية وتضمن سهولة الوصول إليها، بينما تقدم الولايات المتحدة ضمانات أمنية”. لكن الاعتداء على قطر كشف، حسب الباحث، “هشاشة هذا الافتراض”.

انهيار مقولة الحضور الأمني مقابل الدفاع عن أمن الخليج يدفع السيد حماد إلى اعتبار أنه "يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تطالب الولايات المتحدة بشكل جماعي بالكشف الكامل عن المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالهجوم". ويشمل ذلك:

·      مسار طيران الطائرات الإسرائيلية.

·      أنظمة الأسلحة المستخدمة، بما في ذلك نوعها ومداها ودقتها.

·      إحداثيات نقاط الإطلاق والتزود بالوقود.

·      بيانات الرادار والكشف عبر الأقمار الصناعية المتاحة للقوات الأمريكية قبل الهجوم وأثناءه وبعده.

من الناحية النظرية، حسبه، “يندرج هذا تحت ما يسميه منظّرو التحالفات "المساومة داخل التحالف". بحيث غالبًا ما تقبل الدول الصغيرة تحالفات غير متكافئة مع القوى العظمى، ولكن عندما يتم التشكيك في مصداقيتها، فإنها تستغل لحظات الأزمة للحصول على ضمانات”. لهذا، “تكمن قوة مجلس التعاون الخليجي حاليًا بالضبط في التناقض الذي كشفته الضربة: فإذا كانت القواعد الأمريكية على أراضي مجلس التعاون الخليجي لا تستطيع منع - أو حتى اكتشاف - هجوم من حليف للولايات المتحدة، فإن قيمة تواجد تلك القواعد يجب إعادة تقييمها”.

وهنا تتجلّى، كما يضيف الباحث، “معضلة المصداقية والالتزام في سياسة التحالفات”. فالولايات المتحدة تريد الحفاظ على وجودها الأمامي دون الانخراط في صراعات لا تتوافق مع مصالحها، بينما تتوقع الدول المضيفة الردع والحماية. ومن خلال الضغط على واشنطن الآن، يمكن لقادة الخليج إجبار الولايات المتحدة إما على إعادة الالتزام – من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية وتعديل التنسيق العملياتي – أو المخاطرة بتقويض وجودها الاستراتيجي في المنطقة.

المطلب الاستراتيجي الثاني “يتعلق بسياسة التفوق العسكري النوعي”. فمنذ أواخر الستينيات، قامت الولايات المتحدة بمأسسة التفوق العسكري لـ"إسرائيل" من خلال القانون والممارسة، مما حدّ من وصول دول الخليج إلى الأنظمة المتطورة. وقد سمحت هذه السياسة لـ"إسرائيل" بالتحرك دون عقاب. وتؤكد هجمات الدوحة، حسب الباحث، “على الحاجة الملحّة لإعادة ضبط هذا الخلل”. يقول السيد حماد: “يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تطالب بشكل جماعي بالمساواة – أو على الأقل بقدرات ردع تقلّص تفوق "إسرائيل". ويمكن أن يشمل ذلك أنظمة ضربات دقيقة بعيدة المدى، ودفاعات صاروخية متطورة، وموارد مراقبة محسّنة”.

إذا رفضت واشنطن – وهو المتوقع – “يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تتحول إلى ما يسميه الباحث "التحوّط الاستراتيجي". وهذا ينطوي، حسبه، “على تنويع الشراكات الأمنية خارج الولايات المتحدة، مع الصين وكوريا الجنوبية، والدول الأوروبية التي تقدّم بدائل أخرى”. ويصف الباحث هذا الاتجاه بـ”السلوك المتوازن”، ويرى أنه “تصحيح ضروري عندما يؤدي الاعتماد على راعٍ أمني واحد إلى الضعف”. والأهم من ذلك، كما يرى، “أن هذا التنويع لا يعني قطع العلاقات مع واشنطن؛ بل إنه يشير إلى أن دول الخليج لن تضمن وجود الولايات المتحدة دون ضمانات متبادلة”.

في جوهر ما حدث في قطر، يرى الباحث “فرصة فريدة” لدول الخليج من خلال المطالبة بالشفافية الاستخباراتية والمساواة في شراء الأسلحة، بما يمكّن مجلس التعاون الخليجي من إعادة تعريف علاقته مع واشنطن. ويصرّح: “إذا امتثلت الولايات المتحدة، ستستعيد دول الخليج ثقتها في مظلّتها الأمنية، وإذا رفضت، فإن الطريق واضح: تنويع التحالفات وتقليل الاعتماد على التنسيق الأمني مع الأمريكيين”. أي من النتيجتين، حسبه، “تعزّزان الاستقلالية الاستراتيجية للمنطقة”، وهي خطوة يراها “حاسمة نحو إعادة تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط”.

بناء موازين إقليمية.. من الضعف إلى العمق الاستراتيجي

في حين أن “الضغط على واشنطن هو خطوة أولى ضرورية”، يعتقد السيد حماد أنه “لا يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تربط أمنها الإقليمي بالاستجابات الأمريكية وحدها”. في رأي الباحث، “إعادة التوازن الاستراتيجي الحقيقي تتطلّب بناء موازين إقليمية تقلّل من الاعتماد على الولايات المتحدة وتوسّع نفوذ دول الخليج”. وفي تقديره، تمثل “الأردن وتركيا” بديلين مناسبين.

يذكر الباحث أن الولايات المتحدة "تضمن حاليًا استقرار الأردن من خلال حزمة مساعدات سنوية بقيمة 1.45 مليار دولار بموجب مذكرة تفاهم". وتوفّر هذه المساعدة لواشنطن ليس فقط نفوذًا على سياسات عمّان الخارجية، بل أيضًا حقوقًا في استخدام القواعد العسكرية، بما في ذلك قاعدة موفق سلطي الجوية. “بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، هذه فرصة واضحة، وبتكاليف مالية متواضعة، بحوالي 2 مليار دولار سنويًا”، وهو "جزء بسيط" من الإنفاق الدفاعي الخليجي. ويرى الباحث أنه "يمكن لمجلس التعاون الخليجي أن يتدخّل لتعزيز أو استبدال المساعدات الأمريكية، وإعادة تموضع نفسه كراعٍ أمني رئيسي للأردن".

في منظور الباحث، يمكن لهذا التحوّل الاستراتيجي أن يحقق مجموعة من الأهداف تتعلق خاصة بالعمق الاستراتيجي، بحيث “توفر جغرافية الأردن خطًا أماميًا في مواجهة "إسرائيل"”. ومن جهة أخرى، ستمكّن هذه الخطوة دول الخليج من إبراز نفوذها من خلال استبدال النفوذ الأمريكي. وهكذا “يثبت مجلس التعاون الخليجي أن الاستقرار الإقليمي يمكن تأمينه من قبل الجهات الفاعلة الإقليمية”. أما الهدف الآخر، فهو إرسال “إشارة رادعة، من خلال إنشاء أنظمة رادار ومراكز لوجستية وقواعد أمامية في الأردن، يؤكد قادة الخليج أنهم مستعدّون لتوسيع نطاق دفاعاتهم”.

هذا التحوّل يمثل، حسب الباحث حماد، “تطبيقًا فعليًا لنظرية توازن القوى”. فمن خلال ترسيخ وجودها في الأردن، “تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على مواجهة العمق الاستراتيجي لـ"إسرائيل" وتقليل احتكار واشنطن للنفوذ الأمني في المنطقة”. ويأتي ذلك أيضًا في وقت حرج لمنع تنفيذ خطة "إسرائيل" الكبرى التي تسعى الحكومة اليمينية إلى تطبيقها، والتي من شأنها زعزعة استقرار الأردن.

من جهة أخرى، تبرز تركيا، العضو في حلف الناتو ذات القدرات الصناعية الدفاعية الكبيرة، كدولة “ضعيفة ومحورية في آن واحد”. فاقتصاد أنقرة يعاني من عجز في الموازنة والتضخم، “لكن قطاع الدفاع والصناعات العسكرية في هذا البلد يتقدّم بسرعة، خاصة في إنتاج الطائرات بدون طيار وأنظمة الصواريخ وحتى مقاتلات الجيل التالي”. ومن خلال اقتراح أسعار تفضيلية على مبيعات النفط من الطاقة الإنتاجية الفائضة، وزيادة تدفقات السياحة الخليجية، والاستثمار في مشاريع الدفاع التركية، “يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي تخفيف القيود الاقتصادية على تركيا مع تعميق التعاون العسكري الصناعي”.

تعكس هذه الاستراتيجية “مفهوم الترابط المعقّد في العلاقات الدولية”. ففي نظر الباحث، “يمكن الاستفادة من الأدوات الاقتصادية (التجارة، الاستثمار، تسعير الطاقة) لتشكيل نتائج أمنية”. ويضيف أن “تركيا المستقرة ماليًا أكثر قدرة على بسط نفوذها وموازنة "إسرائيل" إقليميًا”. وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، “فإنها تخلق شريكًا موثوقًا به خارج إطار الولايات المتحدة”.

يوضح هذا التحوّل الاستراتيجي “مبدأ التوازن الخارجي”. فعندما تهدد "إسرائيل" النظام الإقليمي، “تعوّض دول المنطقة ذلك عن طريق إنشاء أو دعم قوى موازنة”. ومن خلال السعي لتحقيق هذه التوازنات في وقت واحد، “ينتقل مجلس التعاون الخليجي من موقف الضعف إلى موقف عمق استراتيجي استباقي”. وبدلًا من الاعتماد حصريًا على ضمانات واشنطن “الغامضة”، يبدأ الخليج في “بناء شبكة متنوعة من التحالفات التي تجعل أي هجمات أحادية الجانب على سيادته في المستقبل أكثر خطورة”.

خيارات التحالف والتوقعات على المدى الطويل.. من رد الفعل إلى البنية الإقليمية

يكمن الركن الثالث لتحويل الضربة الإسرائيلية على الدوحة إلى “مكسب استراتيجي” في بناء التحالفات. يذكر الباحث أن الخليج كان، لعقود طويلة، يُعتبر “مستهلكًا” للاستراتيجيات الأمنية، معتمدًا على الولايات المتحدة وقوى خارجية أخرى لحفظ الأمن في المنطقة. ويضيف: “حان الوقت لكي يقلب مجلس التعاون الخليجي هذا السيناريو رأسًا على عقب، من خلال تصميم وقيادة تحالفات تعيد تعريف ميزان القوى الإقليمي”.

ويرى الباحث أن أحد المجالات الملحّة الدافعة إلى إعادة تعريف ميزان القوى الإقليمي، هو نتائج الحرب الإجرامية ضد العُزّل في غزة. فقد أدّى الحصار الحالي والكارثة الإنسانية إلى تآكل شرعية "إسرائيل"، حتى بين شركائها الغربيين. ولهذا، حسب الباحث، “يجب على دول مجلس التعاون الخليجي اغتنام الفرصة لتنظيم تحالف الراغبين في المساعدة، الذي يضم الأردن ومصر وتركيا وإسبانيا، ودول مجلس التعاون الخليجي، لتقديم المساعدات الإنسانية عن طريق البحر. وعلى عكس الأساطيل السابقة، يجب أن يكون هذا التحالف مستعدًا عسكريًا لردع أي اعتراض”.

لن يتم تصوير مثل هذا التحالف على أنه تحالف عسكري معادٍ لـ"إسرائيل"، بل كمهمة إنسانية لفرض القانون، تستند إلى القانون الدولي ومبدأ المسؤولية عن الحماية. وإذا ترافق ذلك مع نشر قوات مصرية في سيناء وتدريب قوات الخليج إلى جانب شركاء أردنيين وأتراك، فستواجه "إسرائيل" معضلات عملياتية غير مسبوقة. وهذا وحده كفيل بإجبار تل أبيب على إعادة تقييم موقفها، وتقويض شرعية حكومة نتنياهو، وإضعاف زخم مشروع "إسرائيل الكبرى".

من الناحية الاستراتيجية، سيمثل هذا التحالف “الخطوة الأولى نحو إقامة نظام أمني في الخليج بعد انسحاب الولايات المتحدة”. فقد تحوّل تركيز واشنطن بالفعل نحو آسيا والمنافسة مع الصين على سلاسل التوريد العالمية، مما أدّى إلى تراجع رغبتها في إنفاق الموارد في الشرق الأوسط. ومن خلال إظهار قدرتها على بناء تحالف مستقل، “تبعث دول مجلس التعاون الخليجي برسالة إلى كل من واشنطن وبكين مفادها أنها قادرة على التصرف بشكل مستقل”. وهذا يخلق نفوذًا تفاوضيًا في التحالفات المستقبلية.

باستشراف المستقبل، يرى الباحث أن “الشرق الأوسط يمرّ بفترة مضطربة بشكل فريد”، حيث “يتآكل الدعم السياسي الأمريكي لـ"إسرائيل" على الهامش، في الوقت الذي ترى فيه الحكومة اليمينية الإسرائيلية أن فرصة إعادة تشكيل المنطقة وفق شروطها تقترب من نهايتها”. وفي الوقت نفسه، يواصل الباحث، “تتصاعد المواجهة بين إيران و"إسرائيل" نحو ما يمكن وصفه بـ"الجزء الثاني" — وهذه المرة، يتحرّك كلا الجانبين استراتيجيًا بشكل مدروس لمنع الطرف الآخر من إلحاق الضرر”. ويضيف أن لدى "إسرائيل" فرصة للتحرّك في عمليات عسكرية ضد طهران حتى نهاية يناير، وهو ما يمثل تهديدًا حقيقيًا لأمن دول مجلس التعاون الخليجي.

ولهذا، فبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، “الدرس واضح: النموذج القديم المتمثل في الاعتماد على القواعد الأمريكية والتفاهمات الثنائية لم يعد كافيًا”. فقد رمزت ضربة الدوحة إلى “نهاية عقلية الأمن الخليجي بعد عام 1991، التي كانت تعامل الوجود الأمريكي كضمانة رادعة”. وتتطلّب الحقبة الجديدة، حسب السيد حماد، “استراتيجية متعددة المحاور: الاستفادة من دعم واشنطن عندما يكون ذلك ممكنًا، وتحقيق التوازن من خلال الصين وتركيا عند الضرورة، وترسيخ الردع من خلال التحالفات الإقليمية”.

لم يكن هجوم "إسرائيل" على الدوحة مجرد هجوم تكتيكي؛ بل كان في جوهره “إنذارًا استراتيجيًا”. وهنا يبرز “جوهر التكيّف الاستراتيجي” من خلال “تحويل الضعف إلى فرصة عبر إعادة صياغة قواعد المشاركة”. ورغم ما حدث “لقطر ودول مجلس التعاون الخليجي”، فإن الاعتداء “يوفّر أيضًا فرصة تاريخية لتشكيل نظام إقليمي أكثر توازنًا واستقلالية ومرونة”. وإذا لم يتم اتخاذ أي إجراء، “فإن الاستقرار الإقليمي الذي يدعم ازدهار دول مجلس التعاون الخليجي سيكون في خطر، في وقت لن يكون فيه النفط هو الرافعة التي كان عليها في السابق”.

سنام وكيل - باحثة في المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" (بريطانيا)

قصف الدوحة وصراع النفوذ.. هل تواجه واشنطن أزمة ثقة في تحالفاتها الاستراتيجية؟

اغتيال "إسرائيل" لمفاوضين من حركة حماس في الدوحة لم يكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل خطوة اعتُبرت من قبل محللين "تجاوزًا لا يمكن حتى لأقرب شركاء تل أبيب تجاهله". الباحثة سنام وكيل، نائبة مدير "برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" ببريطانيا، ترى أن العملية لم تندرج في إطار ما اعتادت عليه "إسرائيل" من ضربات موجهة، بل مثّلت تحوّلًا جوهريًا، حيث لم تعد الدول العربية ترى في إيران وحدها العامل المهدد للاستقرار، بل باتت "إسرائيل" أيضًا جزءا من المعادلة المزعزعة.

توضح وكيل أن "تل أبيب" لطالما بررت ما تسميه "الضربات الوقائية والخارجية" باعتبارها ضرورية لحماية أمنها. وعلى مدار العامين الماضيين، ومنذ عمليات حماس في 7 أكتوبر، شنّت إسرائيل ضربات على ست دول في المنطقة، من فلسطين ولبنان إلى سوريا واليمن وإيران. الهدف المعلن كان القضاء على كل تهديد محتمل. لكن ضرب الدوحة، عاصمة دولة خليجية غنية وشريك أمني للولايات المتحدة ومقر للمفاوضات المضنية التي دعت إليها واشنطن نفسها، لا يمكن اعتباره مجرد عملية أخرى، بل حدثًا ذا دلالات سياسية وأمنية بعيدة المدى.

وتذكّر الباحثة بأن "إسرائيل" كثيرًا ما استهدفت خصومها بينما كانت الجهود الدبلوماسية جارية. ففي لبنان، نفذت اغتيالات ضد حزب الله، وفي سوريا صعّدت ضرباتها ضد النظام الجديد، وفي اليمن استهدفت الحوثيين. وخلال حرب يونيو التي استمرت 12 يومًا، شنّت عمليات داخل إيران بالتزامن مع المفاوضات بين طهران وواشنطن. هذه السياسة تعكس، برأي وكيل، إصرار إسرائيل على الربط بين الدبلوماسية والإكراه، بل واستخدام الضربات لإفشال أي محادثات. ومن ثم، فإن استهداف الدوحة ينسجم مع هذا النمط، لكن رمزيته تختلف، إذ سيترك أثرًا طويل الأمد على الحسابات الإقليمية.

أما عن العلاقة مع قطر، فتشير الباحثة إلى أن تل أبيب احتفظت دومًا بضغينة تجاه الدوحة. فبناءً على اتفاق رعته الولايات المتحدة وإسرائيل، أرسلت قطر أموالًا إلى غزة سنوات طويلة في محاولة لاحتواء التوتر. لكن بعد 7 أكتوبر، أعادت إسرائيل توصيف هذه المساعدات باعتبارها تمكّن حماس من شن هجماتها. ثم جاءت فضيحة مزاعم تلقي مقربين من نتنياهو أموالًا قطرية للضغط لصالحها لتزيد في وضوح الإحباط الإسرائيلي من الدوحة.

غير أن الموقف الأمريكي بدا مختلفًا. فقطر تستضيف قاعدة العديد الجوية التي تُعد حجر الزاوية في الاستراتيجية الأمريكية بالمنطقة، ومنها أدارت القوات الأمريكية عملياتها في أفغانستان والعراق وسوريا. وفي عام 2022، منحها الرئيس جو بايدن صفة "حليف رئيسي من خارج الناتو". لكن هذا الموقع لم يمنع تعرض الدوحة لهجوم إيراني خلال حرب يونيو، حين أطلقت طهران صواريخ على القاعدة الأمريكية ردًا على ضربات إسرائيلية استهدفت مواقع نووية إيرانية. وكان ذلك الهجوم الثاني في غضون أشهر قليلة، ما أثار تساؤلات خطيرة حول مدى الحماية الأمريكية لحلفائها.

تضيف وكيل أن دول الخليج، على مدى عقود، حدّدت أمنها من منظور التهديد الإيراني، سواء تعلق الأمر ببرنامج طهران النووي أو برعايتها لمجموعات "محور المقاومة" أو بقدرتها على شن هجمات عابرة للحدود، كما حدث في استهداف منشآت أرامكو عام 2019. غير أن الواقع تغيّر اليوم. فالحملات الإسرائيلية المفتوحة في غزة، وتصعيد العمليات في الضفة الغربية، والضربات في لبنان وسوريا، وصولًا إلى استهداف الدوحة، كلها عوامل أعادت صياغة الحوار الأمني مع واشنطن. ومن الطبيعي، وفق الباحثة، أن تخلص العواصم الخليجية إلى أن إسرائيل نفسها باتت أكبر تهديد للاستقرار الإقليمي.

وتشدد الباحثة على أن ذلك لا يعني تبرئة سلوك إيران، فغالبًا ما جرى المبالغة في تقدير نفوذها. لكن المقارنة تكشف أن تصرفات إسرائيل أصبحت أكثر جرأة، بل أكثر انفلاتًا، على حساب المعايير الأمنية والسياسية التي افترض القادة العرب أنها لا تزال تحكم المنطقة. وهنا يظهر تقاعس الولايات المتحدة عاملًا مضاعفًا للأزمة. فقد امتنعت إدارتا ترامب وبايدن عن كبح إسرائيل، ما رسّخ الشعور بأن واشنطن غير راغبة، أو عاجزة، عن ضبط حليفها الأقرب.

وتذكّر وكيل بأن هذه المخاوف ليست جديدة على الخليج. فقد ظل الحكام قلقين من احتمال تحول الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي نحو آسيا، وتذكروا بوضوح عجز الدفاعات الأمريكية عن منع الهجوم الإيراني على السعودية عام 2019. واليوم يرون تقاعس واشنطن عن كبح إسرائيل. النتيجة المباشرة هي تآكل الثقة في الضمانات الأمنية الأمريكية، وتراجع جدوى المشاريع التي رُوّج لها في السنوات الأخيرة مثل "اتفاقيات أبراهام" وخطط التطبيع، والتي لم تعد قابلة للتطبيق في ظل المأساة المستمرة في غزة.

في هذا السياق، من المرجح ـ حسب وكيل ـ أن تتجه دول الخليج إلى تعميق التعاون فيما بينها، وتكثيف الجهود لتنويع شراكاتها الأمنية والاقتصادية. العلاقات مع الصين مرشحة لمزيد من النمو، والتعاون الدفاعي مع تركيا سيأخذ بعدًا أوضح، بينما ستخضع آفاق التطبيع مع إسرائيل لإعادة تقييم صارمة. فالمعادلة التي حاولت الممالك الخليجية إدارتها طويلاً، بين الانفتاح على تل أبيب والحفاظ على التحالف مع واشنطن من جهة، ومراعاة الرأي العام المحلي من جهة أخرى، صارت أصعب بكثير بعد استهداف الدوحة.

وتختم الباحثة تحليلها بالقول إن دول الخليج تواصل السعي إلى تحقيق استقلالية استراتيجية أكبر، وتزداد قناعة بضرورة التحوط ضد مخاطر الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة. وقد يشكل الهجوم على قطر نقطة تحوّل فارقة، حيث يتبلور الشعور بأن النظام الإقليمي التقليدي يتداعى، وأن سيادة الشركاء غالبًا ما تُضحى بها باسم أمن إسرائيل. وهو ما يدفع المنطقة إلى مرحلة جديدة من إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات.

أندرياس كريغ - محلل بكلية الدراسات الأمنية بجامعة كينغز كوليج (بريطانيا)

عصر الاستقلال الاستراتيجي الخليجي.. من الاعتماد على واشنطن إلى بناء قوة ذاتية

يرى أندرياس كريغ، الباحث في المخاطر الأمنية والمهتم بشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، "أن الخليج لطالما كان منطقة حدودية جيوستراتيجية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب العالميين". فالمنطقة تقع عند "مفترق طرق إمدادات الطاقة الحيوية، والتجارة البحرية والمواجهة الأيديولوجية". ومنذ اندلاع احتجاجات الربيع العربي عام 2011، "تطور الخليج ليصبح محور اهتمام دولي".

تشير التطورات الأخيرة إلى تغير في الأجواء السياسية. فالهجمات على قطر – أولاً من قبل إيران في يونيو الماضي ثم من قبل "إسرائيل" هذا الشهر – "تكشف عن تحول عميق في البيئة الأمنية للمنطقة". وقد هزّت هذه الهجمات، حسب كريغ، "الافتراضات الاستراتيجية الأساسية التي بنت عليها دول الخليج العربية مبادئها الأمنية على مدى نصف قرن". وهو ما "يدفع إلى إعادة النظر في وقت حرج بالنسبة للمنطقة ككل، مع تداعيات يصعب التنبؤ بها – بما في ذلك اختلاف التصورات حول إيران و"إسرائيل"."

لعقود طويلة، يؤكد كريغ أن "الافتراض الاستراتيجي الأساسي في الخليج هو أن الولايات المتحدة هي الضامن النهائي". فقد نُظر إلى واشنطن على أنها "لا غنى عنها لأمن الخليج". ولهذا فالوجود العسكري الأمريكي، خصوصًا منذ حرب الخليج 1990-1991، "اعتُبر الرادع النهائي ضد العدوان الخارجي وضمانة لبقاء الأنظمة".

كما أن "استضافة القواعد الأمريكية، وشراء المعدات الأمريكية ومواءمة السياسة الخارجية مع مصالح الولايات المتحدة، كان يُنظر إليه كافياً لتأمين الحماية". لكن الضربات الإيرانية و"الإسرائيلية" على الأراضي القطرية، تضع حسب كريغ، "هذا الاعتقاد موضع تساؤل". ففي كل من يونيو وسبتمبر، "لم تردع الولايات المتحدة الأعمال العدائية ضد أقرب شريك أمني لها في الخليج العربي، وخاصة قطر المصنفة كحليف رئيسي خارج الناتو". ويضيف كريغ أن "الصمت والتقاعس من واشنطن لم يُفسرا كإغفال، بل كنوع من التواطؤ".

كان الافتراض الثاني لدول الخليج العربية "أن الاندماج العميق في الهياكل الغربية، وخاصة الأمريكية، كفيل بضمان الأهمية وتقليل الاعتماد الأمني". ففي السابق، "كانت أسواق النفط والغاز هي الأداة الرئيسية لهذا التداخل"، لكن منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، "بدأت السعودية وقطر والإمارات تضع نفسها بشكل متزايد كبدائل عن القوة الأمريكية".

يشير أندرياس كريغ من جانب آخر إلى "تحول دول الخليج من (مستهلك) للأمن الأمريكي إلى (مساهم) في صناعة القوة الأمريكية". فقد "شكلت اتفاقيات أبراهام عام 2020، التي كانت البحرين والإمارات أول دولتين عربيتين توقعان بموجبها علاقات رسمية مع "إسرائيل"، طبقة إضافية من هذا التداخل". ورأت أبوظبي والمنامة في التطبيع مع "إسرائيل" بمثابة "عربون للبقاء في صدارة أولويات واشنطن". لكن الاعتداء في الدوحة يكشف "محدودية هذا المنطق، إذ لم يضمن التداخل الأمن، ولم يضمن ضبط النفس الأمريكي تجاه "إسرائيل."

وعلى مدى العقد الماضي، "استند التفكير الأمني لدول الخليج إلى افتراض أن "إسرائيل"، رغم أنها تمثل تهديدًا تاريخيًا، يمكن استمالتها بهدوء لضمان احتواء عدائها". وفي الوقت نفسه، "ظلت إيران العدو الرئيسي في التصورات الأمنية الخليجية، مع الاعتماد على البنية الدفاعية الأمريكية باعتبارها الحصن الأساسي ضد طهران". لكن يبدو، وفق كريغ، "أن هذا التوازن قد تغير الآن".

فـ"إسرائيل"، التي اعتُبرت سابقًا شريكًا محتملاً تحت إشراف واشنطن، "أصبحت اليوم طرفًا حرًا قادرًا على بسط نفوذه في الخليج بلا عقاب". أما إيران فلا تزال تهديدًا، "لكن الغرب تمكن تاريخيًا من كبح جماحه، بينما "إسرائيل" تبدو متمتعة بحصانة استراتيجية دون قيود من حليفها الرئيسي".

والأهم، كما يضيف كريغ، "أن تراجع الولايات المتحدة اعتُبر لفترة طويلة أمرًا مؤقتًا". فقد كانت نخب الخليج "تأمل أن يؤدي تغيير الإدارة أو إعادة التوازن الاستراتيجي إلى استعادة دور واشنطن كضامن للأمن". لكن هذا الاعتقاد "تلاشى"، إذ ترى دول الخليج أن "انسحاب الولايات المتحدة أصبح واقعًا"، وأن واشنطن "المسَيَّرة بالمصالح المتغيرة لا بالتحالفات الراسخة، لم تعد تقدم ضمانات". ويُستدل على ذلك بضعف دونالد ترامب الواضح في مواجهة المغامرات "الإسرائيلية"، حيث فشل في حماية أهم وسيط في المنطقة، حتى في الوقت الذي تعهدت فيه دول الخليج باستثمار نحو 3.6 تريليون دولار في الاقتصاد الأمريكي. وبالنهاية، يقول كريغ، "الخليج هو الذي يضمن قوة الولايات المتحدة، بينما تفشل واشنطن في ضمان أمنه".

ويؤكد كريغ أن "الهجمات الإيرانية و"الإسرائيلية" على الأراضي القطرية هذا العام ليست أحداثًا معزولة، بل محطات جيوسياسية فارقة". فهي تستند إلى الصدمة التي خلفها "هجوم بقيق" عام 2019؛ ورغم إعلان أنصار الله اليمنية مسؤوليتها عنه، إلا أنه اعتُبر ضربة إيرانية للبنية النفطية السعودية، ولم ترد واشنطن إلا بخطوات خجولة. وكان ذلك بمثابة "صحوة قاسية" للرياض.

وبالنسبة لدول الخليج، "فإن هذه التطورات تؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد توفر ضمانات أمنية موثوقة". والأسوأ، يضيف كريغ، أن عواصم الخليج "ترى أن صمت واشنطن يبارك الاستراتيجية الكبرى الجديدة لـ"إسرائيل": تجاوز سياسة جز العشب في غزة نحو حرث المنطقة بأكملها – بما فيها الدول العربية الصديقة – خدمةً لمصالحها الأمنية القصيرة الأجل".

من منظور خليجي، باتت "إسرائيل" دولة منبوذة أخرى – أكثر خطورة من إيران، لأنها تتحرك تحت غطاء غربي. فإيران محاصرة بالعقوبات والمراقبة، بينما "إسرائيل" غير مقيدة وتتمتع بحرية الحركة، متجاوزة كل الأعراف والقوانين الدولية. لذلك، "فإن الشعور بالخيانة عميق". فالدول الخليجية التي رأت نفسها يومًا "مساهمة صافية في القوة الأمريكية"، تستنتج اليوم أن "واشنطن مستفيد مجاني، ينهب خزائنها ويستغل نشاطها الدبلوماسي دون أن يقدم شيئًا حقيقيًا في المقابل".

تدفع هذه الوقائع، كما يوضح كريغ، دول الخليج، خاصة قطر، إلى "إعادة النظر في استراتيجياتها الكبرى". فقد تبنت قطر لعقود سياسة الحياد الاستباقي؛ فاستضافت قواعد أمريكية وحافظت على الحوار مع إيران، وتوسطت بين "إسرائيل" وحماس، مع البقاء على تواصل مع واشنطن. غير أن هذه المقاربة "خضعت لاختبار قاسٍ، والدرس المستفاد اليوم هو أن الحياد وحده لا يضمن الحماية".

لذلك، يرى كريغ أن على دول الخليج أن تتجه نحو استقلالية استراتيجية أكبر. وهذا يستدعي "تطوير قدرات ردع محلية، تشمل الدفاع الصاروخي وخيارات الردع الانتقامي، بحيث لا يبقى العدوان بلا تكلفة". ويستدعي أيضًا "تعزيز التعاون الأمني داخل الخليج وإحياء مجلس التعاون كترتيب دفاعي جماعي حقيقي، لا مجرد منتدى للحوار". إضافة إلى "تنويع الشراكات الدولية، عبر إشراك أوروبا وتركيا والهند، لضمان ألا يترك الانسحاب الأمريكي فراغًا خطيرًا". كما يشدد على أن "الحياد ينبغي أن يُؤطر ضمن مقاربة متعددة الأطراف، بحيث تستند الوساطة الخليجية إلى دعم مؤسسات دولية ودول نافذة، لا إلى النوايا الحسنة الأمريكية فقط".

ويخلص أندرياس كريغ إلى أن "الخليج يجد نفسه اليوم محاصرًا بين إيران و"إسرائيل" كقوتين إقليميتين كبيرتين لديهما الإرادة والقدرة على ضرب دوله، بينما لم تعد الولايات المتحدة درعًا موثوقًا". لذا، فإن التحدي المقبل، بحسبه، "هو بناء بنية أمنية تقودها دول الخليج وتشكل قطبًا ثالثًا للاستقرار".

ويجب أن يقوم هذا الترتيب الجديد على "الاعتماد على الذات، والدفاع الجماعي، وشراكات استراتيجية تتجاوز واشنطن". وعندها فقط يمكن لدول الخليج أن تحافظ على سيادتها ودورها كمركز عالمي للطاقة ومفترق طرق حيوي بين الشرق والغرب.

شون ماثيوز - صحفي مهتم بالشؤون السياسية والأمنية للشرق الأوسط (بريطانيا)

الهجوم الإسرائيلي والخليج.. نحو تحالفات جديدة مع إيران والصين؟

يُشكّل الهجوم الإسرائيلي على قطر "خطرًا جديًا على الركيزة التي استندت إليها القوة الأمريكية، في الخليج الغني بالطاقة لعقود طويلة، وهي دورها كضامن أمن موثوق في المنطقة". فعلى الرغم من استمرار النزاعات في الدول المجاورة الفقيرة نسبيًا مثل لبنان وسوريا والعراق، "استطاعت دول الخليج الثرية التركيز على بناء ناطحات سحاب فاخرة، واستضافة الفعاليات الرياضية الكبرى، مستفيدة من انتشار قواعد عسكرية أمريكية واستمرار تدفقات الصفقات التجارية التي تدعم التنسيق الدبلوماسي". كما واجه الخليج أحيانًا تهديدات من صواريخ وطائرات مسيرة أطلقها المسلحون في اليمن، "لكن الولايات المتحدة لم تلجأ قط إلى دعم هذه الهجمات أو التورط فيها بأي حيلة، خاصة إذا جاءت من دول أخرى".

في الواقع، يرى الصحفي أن "الولايات المتحدة سعت إلى تعزيز تحالف بين إسرائيل ودول الخليج، في مواجهة ما تعتبره تمددًا إيرانيًا في المنطقة". ويرى أن "الهجوم الإسرائيلي لم ينجح في تحقيق أهدافه الرئيسية، المتمثلة في استهداف كبار قادة حركة حماس، إذ قُصف مبنى قريب من موقع اجتماع قادة الحركة الذي كان مخفيًا لأسباب أمنية".

ذكر الإعلام الإسرائيلي أن القصف جاء بواسطة طائرات مقاتلة، وأفاد الأردن بأن "إسرائيل" لم تستخدم أجواءه في الهجوم، بينما استُخدمت أجواء سوريا والعراق في هجمات سابقة على أهداف إيرانية. ويشير الصحفي إلى أن "قطر تعتبر حليفًا رئيسيًا لأمريكا خارج حلف شمال الأطلسي، في الوقت الذي تتوتر فيه العلاقات بين إيران والولايات المتحدة"، وذكر في السياق ذاته أن "مقر القاعدة العسكرية الأمريكية يقع على بعد نحو 30 كيلومترًا فقط من المبنى الذي تعرض للقصف، وفي نفس الحي الذي يوجد فيه مقر إقامة السفير الأمريكي".

ويقول الصحفي إن الكثير من وسائل الإعلام أشارت إلى "أمر مهم"، وهو أن "مركز العمليات الأمريكي في الدوحة، المسؤول عن مراقبة الرادارات، لم يصدر أي تحذيرات أثناء الهجوم". ولهذا فإن الولايات المتحدة تواجه الآن تحديًا في التوفيق بين تسامحها مع التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق، والتزامها بسيادة قطر.

ويشير إلى أن الدوحة لعبت دورًا مهمًا كوسيط في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، ووافقت على استضافة قيادة حركة حماس السياسية بعد خروجها من سوريا، بناءً على طلب من أوباما عام 2011. ويرى الصحفي أن إدارة ترامب "بعدم معارضتها الهجوم الإسرائيلي داخل بلد يمتلك أنظمة دفاع جوي متقدمة، أرسلت رسالة مفادها أنها لن تقف في وجه "إسرائيل" التي تسعى للهيمنة على الشرق الأوسط من البحر المتوسط إلى الخليج الفارسي". وقد يكون لذلك آثار عميقة على نظرة دول المنطقة تجاه الضمانات الأمنية الأمريكية.

للإشارة، تعتمد قطر، مثل بقية دول الخليج، على مزيج من القوة العسكرية والثروة الهائلة للحفاظ على تحالفها مع الولايات المتحدة لأسباب أمنية. الجنود الأمريكيون يديرون أنظمة الدفاع الجوي في قطر، التي تضم قاعدة العُديد، وهي أكبر منشأة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط. كما التزمت قطر باستثمارات ضخمة في الاقتصاد الأمريكي، منها ما يقارب 100 مليار دولار في شركة بوينغ وحدها في مايو الماضي.

وينبه الصحفي إلى أن "قطر ودول أخرى في بلاد الشام والخليج تقوم بالكثير لتعزيز مصالح الولايات المتحدة، وفي المقابل تتوقع توفير ضمانات أمنية قوية". ويضيف أن هذا "الهجوم يهز الثقة في هذا الترتيب كله"، ويطرح التساؤل: "هل تُعد هذه الاستثمارات الضخمة التي تقدمها دول الخليج مجدية لحماية أمنها؟"، مشيرًا إلى أن علاقات دول الخليج مع "إسرائيل" تدهورت "بسبب العنف المتزايد في قطاع غزة".

من جهة أخرى، بعد عمليات حماس في 7 أكتوبر 2023، وسيطرة "إسرائيل" على أجزاء من جنوب لبنان وسوريا، فضلاً عن الضغوط على الفلسطينيين في غزة، "تفاقمت المخاوف الأمنية لجيران" إسرائيل" مثل مصر والأردن". كما منعت السعودية محاولات إدارة ترامب لإبرام اتفاق تطبيع مع "إسرائيل" ، وفشلت جهود تعزيز التعاون العسكري بين الكيان ودول الخليج، "حيث رفضت الرياض دعم "إسرائيل" بصواريخ اعتراضية وضغطت على الولايات المتحدة للحد من تحركات "إسرائيل" في سوريا".

ويشير الصحفي إلى "امتعاض الإمارات، الدولة العربية الأقرب لـ"إسرائيل" ، التي أظهرت استياءها وحذرت من تجاوز الخط الأحمر بشأن خطط ضم الضفة الغربية المحتلة". ويرى أغلب قادة الخليج أن "إسرائيل تحولت إلى قوة جالوت تسعى إلى الهيمنة الإقليمية".

ويتوقع الصحفي أن يتسبب الهجوم "بنتائج عكسية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو"، بحيث من المرجح، حسبه، "أن يدفع هذا الاستهتار الأمني دول الخليج نحو التقارب مع إيران والصين".

الدكتور باسم لعرج - مختص في القانون الدولي العام (فرنسا)

قمة الدوحة بين التضامن والتشرذم.. متى تتحول الإدانات إلى إجراءات ضد الهيمنة الإسرائيلية؟

توجهت الأنظار مؤخرًا نحو الدوحة، التي احتضنت قمة عربية إسلامية أعلنت هدفها الرسمي تعزيز الوحدة بين الدول المشاركة وإعلان إجراءات مشتركة للرد على ما وصفته بـ"العدوان الإسرائيلي". غير أن التساؤل الذي يطرحه الخبراء، بقيادة الدكتور باسم لعرج، المحلل الأمني والاستراتيجي المختص في القانون الدولي العام، يتركز حول مدى قدرة هذه القمة على تحويل لغة الإدانات إلى خطوات عملية فعلية.

يقول الدكتور لعرج إن السؤال الرئيس هو: هل شمل البيان الختامي للقمة خطوات واضحة تستهدف "تل أبيب" بشكل فعلي، أم اقتصر على إدانات لفظية قوية دون إجراءات ملموسة؟ ويضيف أن هذا يطرح أمام المجتمعين تحديًا جوهريًا: أدوات الرد السياسي المتاحة لمواجهة هجوم عسكري تجاوز كل القوانين الدولية.

ويشير الخبير إلى أن الدعم الأمريكي المستمر لـ"إسرائيل" في حربها على غزة، وفي هجماتها المتكررة على دول مثل لبنان وسوريا واليمن وإيران، بالإضافة إلى الانتهاكات المتكررة للقانون الدولي، قد أزال جميع الحواجز السياسية والقانونية التي كانت تحد من نفوذ "تل أبيب"، مما يعزز شعورها بالإفلات من العقاب.

في المقابل، يرى الدكتور لعرج أن الدول المشاركة في القمة تمتلك قدرات دبلوماسية واقتصادية واسعة يمكن أن تُترجم إلى ضغوط حقيقية على "إسرائيل". يمكن للكتلة العربية الإسلامية، وفق تحليله، اتخاذ خطوات دبلوماسية مثل استدعاء السفراء، تعليق أو قطع العلاقات، وحتى إعلان إنهاء "اتفاقيات أبراهام" الموقعة بين بعض الدول العربية و"تل أبيب". وعلى الصعيد الاقتصادي، ثمة إمكانيات لقطع العلاقات التجارية والبحرية والجوية، على غرار ما قامت به تركيا أو ما أُعلن عنه مؤخرًا.

غير أن الخبير يؤكد أن الواقع السياسي يضع قيودًا كبيرة: الدول العربية والإسلامية ليست كتلة موحدة، بل تواجه انقسامات عميقة تتعلق بمصالحها وعلاقاتها مع "إسرائيل". الإمارات والمغرب مثالان على ذلك، إذ يواصلان تعزيز علاقاتهما الاقتصادية والأمنية مع "تل أبيب"، مدعومة بضغط أمريكي مباشر وغير معلن، كما في حالة دعم واشنطن لسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل إقامة علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل".

هذا التشرذم الداخلي يجعل من الصعب للغاية التوصل إلى مواقف موحدة وقوية تُترجم إلى إجراءات عملية ضد إسرائيل، رغم الإمكانيات المتاحة لذلك، بحسب الدكتور لعرج. وفي هذا الإطار، يبقى السؤال الأكبر: هل ستتمكن القمة في الأسابيع المقبلة من تجاوز الانقسامات، وتحويل لغة التنديد إلى خطوات عملية تحد من الهيمنة الإسرائيلية وتدافع عن حقوق الشعوب العربية والإسلامية؟

تباينت مواقف الدول المشاركة بشكل واضح داخل القمة، ما يعكس عمق الانقسام الذي يعيق اتخاذ قرار موحد وحازم. فرغم وجود إرادة عامة لإظهار التضامن، فإن المصالح الاقتصادية والأمنية لبعض الدول، إلى جانب الضغوط الأمريكية المستمرة، تمنع ترجمة التصريحات إلى إجراءات ملموسة.

في النهاية، يرى الدكتور باسم لعرج أن التشرذم هو العائق الأكبر أمام القدرة العربية والإسلامية على مواجهة التمدد الإسرائيلي، ويطرح تساؤلات جوهرية حول جدوى الاستراتيجيات الجماعية في فرض احترام السيادة والحقوق في المنطقة.

خالد القاسمي - أستاذ بالجامعة الأمريكية في دبي (الإمارات)

الخليج بعد الغارة على الدوحة.. أمن بلا واشنطن!

يرى الدكتور خالد القاسمي، أستاذ علم الاجتماع السياسي والعلاقات الدولية وفلسفة الفقه القانوني في الجامعة الأمريكية بالإمارات، أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة على الدوحة لم تُترجم إلى انتصار ردعي بقدر ما كشفت عجزًا بنيويًا في القدرة الاستخباراتية والعسكرية لـ"إسرائيل"، سواء على صعيد جمع المعلومات الدقيقة أو إصابة الأهداف البعيدة المدى.

ويؤكد القاسمي أن هذه التجربة ستترك أثرًا مباشرًا على الحسابات الخليجية، إذ تدفعها إلى إعادة رسم منظومتها الأمنية بعيدًا عن المظلة الأميركية التقليدية، والاتجاه نحو بناء إطار أمني متعدد الأقطاب يمنحها هامش قرار مستقل.

ويلفت إلى أن هذا التحول لا يقتصر على الجانب الدفاعي، بل يعكس أولوية مقصودة في الوعي السياسي الخليجي لتحقيق شكل من أشكال تقرير المصير العربي، يقوم على تنويع الشراكات الاستراتيجية والانفتاح على قوى دولية بديلة، بما يضعف منطق التبعية لواشنطن ويؤسس لمعادلة أمنية جديدة في المنطقة.

الأيام نيوز: في رأيكم ما كانت الأهداف التي توخاها نتنياهو، عبر استهداف قادة حركة "حماس" في العاصمة القطرية، وإلى أي مدى نجحت هذه الغارات في تحقيق أهدافها؟

خالد القاسمي: استهدفت الغارة الجوية الإسرائيلية غير المسبوقة في الدوحة، قيادة حماس لأجل تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية مترابطة. أولاً، سعت "إسرائيل" إلى توسيع استراتيجية الردع الخاص بها، لتشمل ما وراء حدود غزة، مما يُوضح أنه "لا وجود لملاذ آمن - حتى في قلب عاصمة خليجية تحت حماية الولايات المتحدة" (وهذا تصريح لنتنياهو).

 ثانياً، من خلال استهداف وفد "حماس"، الذي اجتمع تحت رعاية قطر للتفاوض حول هدنة لمدة 60 يوماً، وتبادل الرهائن، أرادت "إسرائيل" إحباط الجهود الدبلوماسية الناشئة، وإرسال رسالة للوسطاء الآخرين، من أن التعامل مع حماس ينطوي على مخاطر شخصية.

 ثالثاً، في ظل تحالف حكومي داخلي "على شفا الانهيار"، يراهن رئيس الوزراء نتنياهو على نجاح عسكري بارز لتحفيز المشاعر القومية داخلياً وإظهار القوة خارجيًا. على المستوى التكتيكي، أدت الغارة إلى مقتل عدة مساعدين من المستويات الدنيا وضابط أمني قطري، مما جمد محادثات وقف إطلاق النار على الفور، أما على المستوى الاستراتيجي، فقد أخفقت الغارة في تحقيق هدفها الأساسي، إذ نجا المفاوضون الكبار مثل "خليل الحية" دون أذى. أدانت الدوحة وشركاؤها العرب العملية بأقوى العبارات، إذ أعلن رئيس وزراء قطر: "لا يمكن وصف هذا العمل إلا بأنه إرهاب دولة" (تصريح آل ثاني)، ولّاح الاتحاد العربي إلى أنها "عمل جبان وإرهاب دولة".

 بدلاً من تعزيز الردع، أظهرت الضربة حدود قدرة "إسرائيل" على جمع المعلومات الدقيقة، وضرب الأهداف بعيدة المدى، كما ستدفع حتما، دول الخليج لتقوية علاقاتها الأمنية بشكل مستقل عن واشنطن.

الأيام نيوز: ما الذي يترتب، حسبكم، من اعتبارات قانونية متعلقة بالسيادة، بعد الضربات التي قامت بها "إسرائيل" ضد دولة عضو في "مجلس التعاون الخليجي"؟

خالد القاسمي: إن تنفيذ "إسرائيل" لغارة عسكرية مباشرة داخل دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، يشكل انتهاكًا لـ"المبدأ الأساسي لسلامة الأراضي" المنصوص عليه في المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة، ويكسر القاعدة التي تعتبر الحدود الخليجية غير قابلة للاعتداء تحت الضمان الأنجلو-أمريكي.

 بعد الهجوم، تساءل الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني قائلًا: "إذا كانت (إسرائيل) تريد اغتيال القيادة السياسية لحماس، فلماذا تتفاوض معها؟". قطر تستعد الآن لاتخاذ الإجراءات القانونية في المحاكم الدولية، في حين أن قمة مجلس التعاون الطارئة، تعهدت بإصلاح نموذج الدفاع الجماعي.

 من جهة أخرى، يمثل الاتفاق الأمني الجديد بين السعودية وباكستان، تحولاً نحو تحالفات قائمة على التعاون الواقعي، والحوار، والتفاعل الحضاري بدلاً من الاعتماد على ضامنين بعيدين. كما كشفت القمة العربية-الإسلامية الطارئة في الدوحة عن انقسام حاد بين دول الخليج وواشنطن، حين أعلن السيناتور ماركو روبيو "التزام الولايات المتحدة الثابت بأمن إسرائيل"، بينما شارك "مايك هوكابي" ورئيس الوزراء نتنياهو في افتتاح موقع مدينة داوود.

 أعلن نتنياهو أيضا، أن القدس "العاصمة الأبدية للشعب اليهودي"، وهو ما يحجب عمليًا المطالبات الدينية الإسلامية والمسيحية، ويؤكد لقادة الخليج أن السياسة الخارجية الأمريكية، ما زالت تفضل السردية الإسرائيلية بشأن المواقع المقدسة المتنازع عليها. في الواقع، أكد مجلس التعاون الخليجي استقلاليته من خلال إقامة تبادل استخباراتي فوري وتمارين مشتركة للرصد الصاروخي تعمل خارج إشراف الولايات المتحدة. مع تعميق السعودية تحالفها مع باكستان وتشكيل شراكات دفاعية جديدة مع الصين وروسيا، تتجه دول الخليج بوضوح نحو إطار أمني متعدد الأقطاب. يشير هذا التحول إلى أولوية مقصودة لتحقيق تقرير المصير العربي وتنمية شراكات عملية ومتنوعة.

الأيام نيوز: هل يمكن القول إن الهجمات الإسرائيلية، قد تحدث اهتزازا في ميزان القوى في الخليج، خاصة فيما يتعلق بثقة دول مجلس التعاون الخليجي في الولايات المتحدة كشريك أمني؟

خالد القاسمي: كشف القمة العربية-الإسلامية الطارئة في الدوحة، عن انقسام عميق بين دول الخليج وواشنطن، عندما أعلن السيناتور ماركو روبيو "التزام الولايات المتحدة الثابت بأمن إسرائيل"، خلال مشاركته مع مايك هوكابي ورئيس الوزراء نتنياهو في افتتاح موقع مدينة داوود في الأسبوع نفسه، الذي جرت فيه الضربة في الدوحة. أعلن نتنياهو أن القدس "العاصمة الأبدية للشعب اليهودي"، متجاهلاً مطالب الإرث الإسلامي والمسيحي، ومؤكداً لقادة الخليج أن السياسة الأميركية لا تزال تفضل الروايات الإسرائيلية بشأن المواقع المقدسة المتنازع عليها.

رداً على ذلك، قرر مجلس التعاون الخليجي تبادل المعلومات الاستخباراتية في الوقت الحقيقي وتنظيم تمارين مشتركة لرصد الصواريخ، تكون مستقلة بشكل صريح عن قيادة الولايات المتحدة. مدعومة بتحالف السعودية وباكستان وبناء شراكات دفاعية جديدة مع الصين وروسيا، تتسارع العواصم الخليجية نحو نظام أمني متعدد الأقطاب يركز على تقرير المصير العربي وشراكات عملية.

من خلال الجمع بين الحدثين: الضربة الخارجية في الدوحة، وإعلان مدينة داوود، وجهت "إسرائيل" ضربة قوية للثقة الهشة في اتفاقات أبراهام. المطالب المحتملة، خصوصاً من السعودية، أصبحت تُصر على "ضمانات إسرائيلية ملزمة قانونياً ضد الضربات الخارجية" (حسبما أكده رئيس الوزراء السابق أولمرت) بالإضافة إلى فرض التزامات ملموسة بحق إقامة دولة فلسطينية، قبل أي تطبيع إضافي.

داخلياً، حذر رؤساء وزراء سابقون مثل "إيهود أولمرت" و "إيهود باراك"، إلى جانب وزير الخارجية السابق "يائير لابيد"، من أن "الاستخدام الأحادي للقوة يقوض أي مكاسب دبلوماسية". شهدت تل أبيب والقدس ومدن حدود غزة احتجاجات حاشدة، حيث يقول قادة الاحتجاجات: "يشبه الأمر ملابس الإمبراطور الجديدة؛ الجميع يرى الطموح العاري لنتنياهو".

ولهذا يمكن القول، إنه مع تآكل الدعم الشعبي وارتفاع العقبات القانونية، بات من المرجح أن هذا الائتلاف الحكومي لن يستمر طويلاً، ويقدر المحللون انهياره خلال أسابيع. وإذا حدث ذلك، فسيحتاج أي اندماج إقليمي حقيقي، إلى قيادة من الدول العربية، تعمل من خلال إطار متعدد الأطراف قائم على التعاون الاقتصادي والاحترام المتبادل. المستقبل، بعبارة أخرى، قد يرتكز على استراتيجيات تعاونية بدلاً من جهود مجزأة.

الأيام نيوز: إلى أي مدى تؤثر العمليات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة، إلى مناطق بعيدة، في التأثير على العزلة الديبلوماسية لهذا الكيان، و "إمكانية" الحديث عن مسار سلام في المنطقة يشمل "إسرائيل"، خاصة بعد اتفاقيات أبراهام"؟

خالد القاسمي: في أعقاب الضربة، رفع القيادة المركزية الأمريكية مستوى التأهب في قاعدة العُديد، ونشرت أصولًا حيوية، كما عززت الدفاعات حول المحيط، وأصدرت تحذيرات بعدم الطيران لمواجهة التهديدات الجوية. وأكد متحدثون باسم البنتاغون أن "الأزمات المستقبلية تتطلب شبكات إنذار مبكر متعددة الأطراف حقًا"، مما أدى إلى تسريع نشر بطاريات "ثاد" ودمج بيانات الرادارات الخليجية والباكستانية في مركز العمليات الجوية الموحد. وحذرت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت قائلة: "هذه الضربة جاءت مخالفة لهدفنا المعلن لتحقيق السلام في غزة".

مع تعزيز دول الخليج شراكات أمنية مستقلة، تواجه واشنطن خيارًا صعبا، إما بالاندماج في هذا الهيكل الجديد الذي يضم العرب وباكستان والصين وروسيا، أو التنازل عن نفوذها في منطقة، لم تعد تتقبل فرضيات واقعية تهدف إلى تحقيق المصالح على حساب القيم والأخلاقيات.

 من أجل تحقيق دمج حقيقي في عملية السلام بالشرق الأوسط، يجب على "إسرائيل" أن تتخلى عن المغامرات العسكرية الأحادية الجانب إلى هيكل أمني متعدد الأطراف بقيادة عربية، كما نوقش ذلك في مؤتمر الجمعية العامة للأمم المتحدة برعاية فرنسا والسعودية في يوليو 2025.

هذا يعني التزامًا قانونيًا ملزمًا بإقامة دولة فلسطينية، وضمانات واضحة ضد الضربات خارج الحدود، وإدارة مشتركة للمناطق المتنازع عليها. فقط من خلال الانخراط في إطار من الحوار المتبادل، والتعاون الاقتصادي، واحترام السيادة، يمكن "لإسرائيل" تحويل وضعها الحالي من العزلة الدبلوماسية إلى اندماج إقليمي ذي معنى في إطار اتفاقات أبراهام، وهو المقترح الذي اعتمدته جامعة الدول العربية في بيروت عام 2002 والمعروف بمبادرة السلام العربية.

علي أصغر بيرهادي - محلل سياسي، جامعة طهران (إيران)

"إسرائيل" لم تعد بحاجة لاتفاقيات أبراهام

يشير علي أصغر بيرهادي، المحلل السياسي في جامعة طهران (إيران) والمشرف على مركز مهرنوفين للغات، إلى أن التسريبات الصادرة من داخل المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيلية تكشف عن انقسام واضح بشأن العملية التي اندفع إليها بنيامين نتنياهو ضد قطر، وهو ما يعكس حجم الجدل والارتباك في دوائر القرار الإسرائيلية نفسها. ويرى بيرهادي أن هذه الضربة تفتح الباب أمام أكثر من قراءة؛ لعل أبرزها أن "إسرائيل" باتت تتصرف وكأنها تجاوزت الحاجة إلى اتفاقيات أبراهام، بعدما أقنعت نفسها بأنها نجحت في تحييد معظم تهديداتها الوجودية، وباتت قادرة على فرض معادلاتها الإقليمية بالقوة المباشرة، حتى لو أدى ذلك إلى زعزعة أسس التحالفات التي روجت لها واشنطن.

الأيام نيوز: لا شك أن الضربة الإسرائيلية في قطر أحدثت اهتزازا ما في شكل التوازن الجيوسياسي في الخليج، خاصة فيما يتعلق بثقة دول الخليج في الولايات المتحدة كشريك أمني؟

بيرهادي: يبدو لي أن الهجوم الإسرائيلي على قطر جدير بالملاحظة من منظورين. أولاً، على الرغم من الوجود النشط للولايات المتحدة في قطر ووعيها بالعملية العسكرية، إلا أن واشنطن لم تحاول وقفها فحسب، بل لم تبلغ المسؤولين القطريين أيضاً بنطاق العملية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن بلدان المنطقة، التي كانت مستعدة، خلال الصراع بين إيران و "إسرائيل"، لاعتراض الطائرات بدون طيار والصواريخ، التابعة لجمهورية إيران الإسلامية، بسبب روح "اتفاقات إبراهام"، كانت لها أقل قدرة على القيام بدور في هذه العملية العسكرية.

 واستنادا لهذا، فإن هذا النهج المزدوج المعايير، لواشنطن في المنطقة، يؤدي إلى نوع من عدم الثقة في النظام الأمني المقترح بموجب اتفاقيات "أبراهام"، ومن الممكن التنبؤ بأن الجهات الفاعلة الإقليمية، سوف تسعى إلى خلق أنماط أمنية مختلفة. يمكن تلخيص النهج الدفاعي الجديد، بعوامل مثل زيادة ميزانيات الدفاع الوطني لدول الخليج العربي، والتعاون العسكري مع الدول المجاورة، وفي نهاية المطاف ضرورة زيادة التقارب الإقليمي. وبغض النظر عن الدعم المعلن من جانب جميع دول الخليج، لمواقف قطر بعد الهجوم، فإن الاتفاق الدفاعي بين المملكة العربية السعودية وباكستان قد يمثل نوعاً من آلية الدفاع الإقليمية.

الأيام نيوز: كيف سيمتد تأثير الهجوم، مستقبلا على علاقات قطر مع القوى الإقليمية، مثل السعودية وإيران وتركيا، وهل لنا أن نقول إن ما حدث قد يؤدي إلى تسريع إعادة تشكيل التحالفات؟

بيرهادي: إن مشروع إضعاف إيران من قبل "إسرائيل"، له تاريخ يمتد لعدة عقود، وفي السنوات الأخيرة كانت اتفاقيات إبراهام التي اقترحتها الولايات المتحدة بمثابة محاولة لعزل إيران بشكل أكبر. وقد تكثف هذا النهج بشكل كبير، خاصة بعد الهجوم على محطة "أرامكو" في السعودية، واختارت دول جنوب الخليج، بناء على رؤيتها الإستراتيجية الخاصة، التعاون مع "إسرائيل" وقبول هذا النهج، رغم أن الرأي العام في هذه الدول، يعارض دائما هذا التقارب العبري العربي، بسبب المواجهة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

 لقد أدى الهجوم الحالي الذي تشنه "إسرائيل"، وهي كيان يمثل الأولوية الإقليمية الأساسية للولايات المتحدة، على قطر إلى دفع القوى الإقليمية الكبرى، مثل تركيا والسعودية، التي تؤيد بشكل أكبر التنمية الاقتصادية المستدامة القائمة على نظام دفاعي إقليمي، إلى بذل جهود أكبر لتعزيز روايتها للنظام الأمني.

 إن إيران، التي قدمت نفسها دائماً على أنها ضحية لاتفاقيات أبراهام، تدعم تشكيل شكل جديد من النظام الدفاعي الإسلامي الجماعي. وتتمتع قطر، استناداً إلى سمعتها في التوسط في الأنشطة الدبلوماسية في المنطقة، بالقدرة على المساعدة بشكل كبير في تسريع تطوير نظام دفاعي إقليمي، من خلال التوسط بين القوى الإقليمية الكبرى، مع السعي إلى الحد من التوترات في المنطقة..

الأيام نيوز: من المنطقي بعد الهجمات ضد قدر أن يكون للتوسع العسكري الإسرائيلي في دول الخليج أثر سلبي على عزل الكيان الدبلوماسية، أو اندماجها في عملية السلام في الشرق الأوسط (وخاصة تململ بنود اتفاقيات أبراهام؟)

بيرهادي: من المؤكد أن اتفاقيات أبراهام هي "الضحية" الأكبر للهجوم الإسرائيلي الأخير على قطر. ينبغي الإشارة في هذا الصدد أن هناك أحاديث تشير إلى عدم وجود توافق داخل القطاعين العسكري والأمني الإسرائيلي، بشأن سير هذه العملية، وهذا يعني أن هذا الهجوم كان هدفاً معقداً ومثيراً للجدل بالنسبة للجانب الإسرائيلي، وهو ما يمكن أن يحيلنا لتفسيرات مختلفة. السيناريو الأول، هو أن "إسرائيل" لم تعد بحاجة إلى اتفاقيات أبراهام لأنها "قمعت" تهديداتها الخارجية الوجودية بالقدر الذي تراه ضروريا.

 السيناريو الثاني هو أن الولايات المتحدة سوف تكون قادرة، باعتبارها القوة الوسيطة، على تبرير هذا التدخل العسكري في الأمد المتوسط، وسوف يكون من الممكن تحقيق "اتفاقيات أبراهام" على مدى فترة أطول قليلا. السيناريو الثالث هو أن يتشكل إجماع إقليمي، مما يجعل الانضمام إلى تلك الاتفاقيات أو الالتزام بها مكلفًا للغاية، وستصبح "إسرائيل" أكثر عزلة في المنطقة.

الأيام نيوز: كيف يمكن أن يؤثر هذا الهجوم لاحقا على البروتوكولات الأمنية والعملياتية للأصول العسكرية الأمريكية المتمركزة في قاعدة العديد الجوية القطرية، باعتبارها أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة؟

بيرهادي: تعرضت الأراضي القطرية، هذه السنة، للهجوم مرتين. في إحدى المرات، كان الأميركيون أنفسهم مستهدفين، وفي مرة أخرى، لم يمنع التقاعس الأميركي العملية الإسرائيلية. وبالتالي فإن الوضع الحالي قد يؤدي، منطقيا، إلى انعدام الثقة في التغطية الدفاعية الأميركية، لأن هذا الوجود المكلف لا يكون مفيداً إلا في حالة وجود تضارب في المصالح مع المعتدي. إن المعايير المتعددة، بالنظر لجيوسياسية المنطقة، تمنع الاعتماد الدفاعي الكامل على الولايات المتحدة، وربما ترغب الدول الإقليمية في فرض بعض القيود على طريقة وحجم عمليات هذه القواعد العسكرية. ويرجع ذلك إلى أن أي انعدام للأمن سيترتب عليه تكاليف كبيرة، وفقاً للأهداف التنموية لدول الخليج.

 وفي الوقت نفسه، فإن القواعد العسكرية الأميركية، مثل أوراق اللعب بالنسبة لواشنطن، التي تتصرف بشكل انتقائي، وفي كل الظروف فإن البلد المضيف هو الذي يواجه العواقب، وليس الولايات المتحدة.

الأيام نيوز: على هذا الأساس، ما هي العواقب المحتملة على المدى الطويل على الاستقرار الإقليمي، ومفاوضات وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" وحماس في ضوء تعليق قطر لجهود الوساطة؟

بيرهادي: من خلال مهاجمة قادة حماس، تكون "إسرائيل" قد أعلنت صراحة، أنها لم تعد ملتزمة بحل الدولتين ولا تريد على الإطلاق أن يكون لحماس أي دور في مستقبل غزة. ورغم أن تدمير أيديولوجية المقاومة أمر مستحيل، خاصة مع ظهور أنظمة الرقابة الاجتماعية المستخدمة في الصين وكوريا الشمالية، فضلاً عن الأسلحة الحديثة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، تأمل "إسرائيل" أنه من خلال الاستخدام الهجين للتكنولوجيات المذكورة، أنها ستتمكن من القضاء على عناصر حركة المقاومة لحماس، في غزة لفترة غير محدودة، على الرغم وعي القادة العسكريين من أن الخطة تتطلب تكاليف مالية وسياسية كبيرة.

الأيام نيوز: هل ستفهم دول الخليج الآن، أن "إسرائيل" في الحقيقة هي العدو الوجودي وليس إيران؟

بيرهادي: إن رفض "إسرائيل" القاطع لحل الدولتين لأجل إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، (وهو المقترح الذي أيدته في السابق)، والنمط العدواني المعتمد في العمليات العسكرية، فضلا عن إعادة تعريف قادة الكيان للتهديدات والأهداف، قد أثار قلقا واسع النطاق في العالم الإسلامي. وتتناقض هذه القضية مع ما سبق أن قدمته الولايات المتحدة على أنه تهديد للنظام العالمي والإقليمي السائد من قبل إيران. لا يمكن الإجابة بالقطع، ولكن ما يمكن تأكيده، هو أن حالة عدم اليقين التي نشأت في المنطقة قد تكون فرصة لإيران لإعادة تعريف دورها الإيجابي في دعم السلام الدائم.

الدكتور لقاء مكي - باحث في الإعلام والدعاية

ما بعد القمة الطارئة.. هل تقود قطر مسار التحوّل في المعادلة العربية–الإسلامية؟

حوار خاص من إعداد الصحفية اللبنانية أورنيلا سكر

في أعقاب القمة العربية–الإسلامية التي عقدت في الدوحة، عاد النقاش مجددًا حول جدوى مثل هذه اللقاءات: هل هي مجرد منصات لإلقاء الخطابات والتصريحات التضامنية، أم يمكن أن تتحول فعلًا إلى آليات حماية وسيادة ومشروع حضاري متكامل؟

الدكتور لقاء مكي يرى أن قمة الدوحة عكست تضامنًا مهمًا مع قطر، لكنه "تضامن رمزي أكثر منه عملي، لأن المصالح والانقسامات بين الدول العربية–الإسلامية تمنع اتخاذ قرارات حاسمة وموحّدة".

في حوار خاص، اعتبر الدكتور لقاء مكي، الباحث الأول في قناة الجزيرة، أنّ القمة رغم رمزيتها لا تزال أسيرة المصالح المتناقضة والانقسامات الداخلية، وأن الطريق نحو مشروع عربي–إسلامي متكامل ما زال طويلًا، يتجاوز اللحظة السياسية إلى إرادة حضارية شاملة.

كيف يمكن للقمة أن تحول التضامن العربي–الإسلامي الرمزي إلى آليات حماية فعلية ضد أي تهديد سيادي خارجي؟

 القمة قادرة على الانتقال من مستوى الخطابات إلى مستوى الأفعال، لكن هذا مرهون باعتبارات ومصالح متشابكة تجعل من الصعب توقع إجراءات حقيقية وفعّالة في المدى القريب. من المرجح أن يبقى الموقف في إطار التضامن السياسي مع قطر، بينما تُتخذ بعض الخطوات السيادية ذات الطابع الرمزي أكثر من كونها عملية.

هل هناك خطة موحدة لمواجهة أي تهديدات إسرائيلية أو تدخلات خارجية، تشمل التنسيق العسكري والاستخباراتي بين الدول العربية والإسلامية؟

ما يمكن أن يحدث هو تنسيق وإجراءات غير معلنة، قد تصل تدريجيًا إلى مستوى تنسيق أشمل. لكن من الصعب أن نشهد قمة بهذا الحجم تخرج بخطة موحدة متكاملة. التجربة الأوروبية مثال واضح: الاتحاد الأوروبي لم يذهب أبعد من حدود معينة في مواجهة حرب أوكرانيا، بسبب تضارب المصالح بين دول مثل تشيكيا والمجر. وهذا ينطبق أيضًا على العالم العربي.

هل يمكن للقمة أن تحدد خطوات عملية لتحويل العدوان على قطر إلى فرصة لإطلاق مشروع عربي–إسلامي متكامل (سياسي، اقتصادي، ثقافي)؟

التأسيس لمشروع تكامل عربي–إسلامي يحتاج إلى إجراءات طويلة المدى، ولا يمكن أن يُختزل في حدث واحد. ما جرى في الدوحة هو تعبير عن تضامن مع قطر، لكنه ليس مشروعًا متكاملًا بعد

ما هي آليات متابعة القرارات بعد القمة لضمان تحويل التصريحات إلى خطوات ملموسة على الأرض؟

من المتوقع أن يتم تشكيل لجان متابعة بالتنسيق بين بعض وزراء الخارجية، تعمل على دراسة الملفات وتقديم نتائج لاحقة، لكن قدرتها على إحداث تأثير ملموس تبقى رهينة الإرادات السياسية للدول الكبرى المؤثرة.

 هل هناك رؤية لتفعيل دور المؤسسات العربية والإسلامية القائمة (جامعة الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامي) بحيث تصبح قادرة على التدخل في الأزمات الحقيقية؟

الفعاليات والجمعيات العربية ما زالت ضعيفة، ولم تقم بدور فعّال حتى في الحرب على غزة. لا أتوقع منها أن تذهب بعيدًا عن هذا المستوى، لأنها في الغالب تابعة لإرادات الدول الأقوى سياسيًا واقتصاديًا، وما لم تتوافر إرادة حقيقية فلن تتحول هذه المؤسسات إلى قوة فاعلة.

كيف يمكن ضمان مشاركة فعالة لجميع الأطراف، بما يشمل دول الخليج، والشمال الإفريقي، والشرق الأوسط، في صياغة استراتيجية مشتركة؟

 مجلس التعاون الخليجي بطبيعة الحال يقف إلى جانب قطر وربما يتبنى مواقف أكثر حدة. لكن في المقابل، هناك عوائق كبيرة: فالمغرب العربي مثلًا يعيش شللًا في اتحاده بسبب الصراع المغربي–الجزائري، إضافة إلى الانقسامات الداخلية بين الدول، وهو ما يصعّب بناء رؤية عربية–إسلامية موحدة.

هل هناك خطة لاستثمار الإعلام القطري والمراكز الفكرية والثقافية في تعزيز مشروع الوحدة والنهضة؟

التنسيق الإعلامي والفكري أمر طبيعي ومتوقع، لكن ما حدث في قطر كان عدوانًا سافرًا وخطيرًا يهدد استقرار الخليج وأمنه، ومن المرجح أن يستمر هذا التهديد إعلاميًا وسياسيًا في المستقبل. أما الولايات المتحدة، فهي ماضية في سياستها العدوانية في المنطقة، ومن غير المتوقع أن تتراجع بل ربما تزيد من ضغوطها.

كيف يمكن للقمة أن تحول التضامن السياسي إلى تضامن اقتصادي فعلي يربط الدول العربية والإسلامية ببعضها؟

لا يمكن لقطر وحدها أن تطلق مشروعًا تكامليًا من هذا النوع؛ فالمسألة تحتاج إلى تفاعل شامل ورؤية حضارية متكاملة، سياسية واقتصادية وفكرية وثقافية. ما شهدناه كان أشبه بتجربة سابقة انهارت لكنها تركت جذورًا قائمة. غير أن إعادة إحيائها يتطلب أكثر من قرار لحظي؛ إنه يحتاج إلى إرادة عميقة ومشروع حضاري متكامل.

هل تستطيع قطر أن تحول هذه الأزمة إلى لحظة تاريخية تقود الأمة العربية والإسلامية إلى مشروع نهضوي حقيقي سيادي مستقل عن التبعية الغربية؟

قطر ليست وحدها صاحبة قرار بهذا الحجم؛ المشروع النهضوي لا يمكن أن يكون وليد إرادة دولة منفردة، بل هو تفاعل حضاري شامل تشارك فيه دول كبرى، ويفترض أن يكون قادرًا على الدفاع عن نفسه وعلى بلورة رؤية تنموية متكاملة. لكن حتى الآن لا يبدو أن هذه المقومات قد اكتمل.