"هزمناهم ليس حين غزوناهم، بل حين أنسيناهم تاريخهم"، مقولة توارثتها الإنسانية منذ قالها الشاعر اليوناني "سيمونيدس" (468 - 556 ق.م)، تعليقا على السقوط السريع لمدينة "إسبرطة" التي حكمت العالم، وقيل في كتب الأساطير بأن أبناء "الإله زيوس" (أب الآلهة والبشر) هم الذين أسّسوها. ولا تزال المقولة صالحة في معناها حتى الآن، فما بُني على الخرافة لا بدّ أن يحترق ويصير مجرّد خرافة من ضمن الخرافات التي بُني عليها. وواهمٌ مَن يعتقد بأن القوة الشيطانية - مهما طغت وتجبّرت وهيمنت على العالم – تظل صامدة إلى الأبد، بل مآلها السقوط الحتميُّ، وقد يكون ذلك بطريقة مريعة لا يكاد يتخيّلها العقل!
لقد أدّى الشعب الفلسطيني في غزّة - وعموم فلسطين - ما عليه، وقدّم التضحيات الكبرى، ووقف صامدًا بكل يقين وإيمان وثبات أمام التحالف الشيطاني الدولي.. وسلّم الواهمون بأن حرب الإبادة المُعلنة عليه ستدفعه إلى الاستسلام، ولكنهم أهملوا حقيقة يقينية لا ريب فيها وهي أن المؤمن إذا أدّى ما عليه فإن الإرادة الإلهية تحسم الأمر في النهاية وتحكم بالسقوط السريع على التحالف الشيطاني الدولي.
قد يبدو الأمر غيبيًّا لا يُمكن للعقل "العلماني أو الشيطاني" أن يستوعبه أو يتقبّله، ولكن الكيان الصهيوني ذاته أحسّ بلدغات العقارب في ساعة زواله، وهو يسابق الزمن ليُطيل في عمره، ولعل القوى الشيطانية التي أوجدته تعمل على تخليق كيانات صهيونية من دمٍ عربيٍّ لتعوّض زوال الكيان الصهيوني.
لقد بات جليًّا للقوى الغربية أن كيانا صهيونيًّا واحدًا لن يكفي لإبقاء يد هيمنتها مبسوطةً على بعض البلدان العربيّة، وحرب الإبادة المُعلنة على غزّة ستنتهي بحدوث أمرٍ عظيم يُعجّل بالسقوط السريع للكيان الصهيوني وربما لدول غربيّة - مثل أمريكا - يعتقد الواهمون بأن سقوطها هو المستحيل السابع!
لنعُد إلى مقولة "سيمونيدس": "هزمناهم ليس حين غزوناهم ، بل حين أنسيناهم تاريخهم"، إنها ليس مجرّد مقولة بل هي خلاصة تاريخيّة يجب الغوص فيها وتحليلها وفهمها الفهم الصحيح لنُدرك بأن الكيانات الصهيونية التي يُراد تخليقها من دمٍ عربيٍّ هي في الأصل لا تاريخ لها إلا في إطار التاريخ الشامل لـ "الأمة العربية"، وقد تمّ فعليًّا عزلها عن هذا التاريخ، وهدمها من الداخل، وهو الأمر الذي عجز عنه الكيان الصهيوني - ومن خلفه القوى الاستعمارية الغربية - أن يفعله مع الشعب الفلسطيني الذي ظل عصيًّا ومنيعًا لأنه يمتلك تاريخه الخاص في إطار جغرافيّته، ويمتلك تاريخه في إطار التاريخ الشامل للأمة العربية. ويُخشى على بلدان عربية لها تاريخها الخاص أن تفقد حصانتها المعنوية في هذه الظروف الدولية بالغة الخطورة والحرج.. فلا يُمكن تدمير شعبٍ بالأدوات الوسائل المادية وحدها، بل يُمكن تدميره من خلال التغلغل إلى داخله، وزرع الفتنة فيه، والحَجر على قواه الكامنة وتعطيلها..
وإذا أردنا مثالاً حيًّا عن الحصانة المعنوية والروحية، فالأمّة الجزائرية أبلغ مثال على ذلك، فهي مرتبطة بالتاريخ الشامل لـ "الأمّة العربية"، وفي الوقت نفسه هي تتغذى من تاريخها الثوري الخاص، وتستثمر في موروثه الذي حافظ ويُحافظ على شخصيتها الثوريّة التي لا يُمكن للقوى الشيطانية أن تؤثّر فيها..
من المؤسف أن الكيان الصهيوني، ومن خلفه القوى الغربية الداعمة له، عمل ويعمل على تأسيس "دولة" استنادًا إلى الخرافات والأساطير إلى حدٍّ جعل من كتابه "المقدّس" مرجعًا للتاريخ والجغرافيا، بينما الأمة التي لها تاريخٌ غيّر مجرى الحياة البشرية في مجالات العلوم والأفكار.. تسعى بعض نُخبها إلى إثبات المُسلّمات والبديهيات التي لا تحتاج إلى إثبات، بل يُمكن اعتبار كل محاولة إثباتٍ لبديهيّة أنها غباءٌ لمحامٍ فاشل يدافع عن قضية عادلة!
هكذا يبدو الأمر، كيانٌ صهيونيٌّ يحاول تأسيس دولة على "الفلكلور"، ونُخب عربية تخاطب الشعوب العربية بلغة عربية لتُثبت بأن فلسطين عربية! نعم، الكيان الصهيوني لا يمتلك أدلّة أثريّة ومادية ملموسة ويستند إلى كتابٍ يُمكن اعتباره من "الفلكلور".. بينما النّخب العربية تمتلك ما لا يُحصى من الأدلة والبراهين الأثرية والعلمية، وتبدو عاجزة عن مخاطبة العالم، ربّما لأنها تخاطبه باللغة العربية التي لا يفهمها!
"هزمناهم ليس حين غزوناهم ، بل حين أنسيناهم تاريخهم"، مقولة من القرن الخامس قبل الميلاد لم تستوعبها النُّخب العربية حتى الآن، ولكن الكيان الصهيوني والغرب الاستعماري استوعبوها وعملوا بها... فمتى يستفيق العقل العربي، ويُدرك بأن التأثير في العالم لا يكون بلغة المغلوب بل يكون بلغات الغالب (مع الاعتذار للعلاّمة ابن خلدون على هذا التحريف في نظريّته).
كنّا نودّ أن ننطلق في هذا المقال من مقولة أخرى للكاتب والمفكر الفلسطيني "عيسى قراقع"، أوردها الكاتب "حسام معروف" في معرض قراءته لكتاب "الكتابة بين الجثث: قبلة على جبين غزة" للكاتب "عيسى قراقع"، وردَ في المقولة: "الحرية إذًا ليست تحرّرًا من الاحتلال فقط، بل أيضا تحرّرًا للعدو من عاهته التاريخية. من دون شفاء العدو من مرضه، لا يمكن للحرية الفلسطينية أن تولد". ونترك للقارئ مهمة الغوص في هذه المقولة المفتاحية، كما نتركه يغوص في الكتابات الأخرى التي تضمّنها هذا الملحق الثقافي الفلسطيني.. ونؤكد بأن فلسطين القادمةُ من عُمق الأزل وماضيةٌ إلى الأبد لن يُوقف مسيرتها السّرمدية استيطان عارض لكيان صهيوني مصيره إلى الزوال.
بقلم: بن معمر الحاج عيسى
"حسن حميد".. أديب فلسطيني يحمل المنافي في دمه!
في المشهد الثقافي العربي، حيث تتشابك الخيوط بين التاريخ والسياسة والأدب، يظل اسم "حسن حميد" واحدًا من تلك الأسماء التي لا يمكن أن تمرّ مرورا عابرا، فهو ليس مجرد روائي أو قاص أو شاعر، بل هو ذاكرة فلسطين وضميرها الأدبي الذي حمل جراح النكبة على كتفيه منذ أن وُلد في صفد عام 1955 ليجد نفسه في قلب لجوء متكرر، طرد أول مرة من قريته "كراد البقارة" عام 1948، وبعد عودة مؤقتة طرد من جديد بعد أعوام قليلة، ومنفى آخر في الجولان، ثم في دمشق، ثم حياة كاملة في الخيام التي تحولت إلى مدرسة وفضاء للتعلم وصناعة الوعي.
هذه التجارب المُرّة صنعت رؤية روائية شديدة الخصوصية، رؤية لا تنقل المأساة الفلسطينية بوصفها خبرا أو سردا محليا، بل بوصفها ملحمة إنسانية لها جذور في التاريخ والرمز والأسطورة، ولها امتداد في الجمال الكوني الذي يلامس أيّ قارئ في أي مكان. إن قوة حسن "حميد" تكمن في أنه لم يتعامل مع الأدب بوصفه مجرد وسيلة للتنفيس أو للتوثيق البارد، بل جعله مسرحا لصراع الحق والباطل، وفضاء لصياغة الأسئلة الكبرى التي تطرحها التجربة الفلسطينية: لماذا طُردنا؟ لماذا صار المخيم بديلا عن البيت؟ لماذا أصبحت مقابرنا أوسع من قُرانا؟ لماذا ظلّ الفرح غريبا عن بيوتنا؟ أسئلة ينقلها الكاتب من حدود الذاكرة الشخصية إلى رحاب الوجدان الجمعي، ويحوّلها في رواياته إلى كائنات نابضة بالحياة، تتكلم وتمشي وتبكي وتفرح وتُقاوم، حتى يصبح المكان الفلسطيني بطلا بحد ذاته، سواء كان غزة أو القدس أو المخيم أو الجليل أو صفد أو نهر الأردن أو حتى شجرة زيتون أو مفتاح بيت.
الذي يقرأ سيرة "حسن حميد" يدرك أن المأساة لم تكن حدثا عابرا بل سلسلة طرد متكررة: طرد عام 1948، ثم طرد عام 1952 مع تحويل مياه نهر الأردن، ثم طرد جديد عام 1956 بسبب رفع صور "جمال عبد الناصر"، ثم طرد آخر عام 1967 بعد حرب الأيام الستة، حتى صار اللجوء قدرا متكررا مثل نغمة حزينة في سيمفونية طويلة. هذه التجارب تراكمت لتصوغ وعيه الأدبي، فجعلت من الألم وقودا للإبداع، ومن المنفى مختبرا للذاكرة، ومن الخيمة مدرسة كبرى، ليس فقط لتعليم الأبجدية بل لتشكيل وعي جماعي يرى في كل معاناة بذرة مقاومة، وفي كل خيبة مشروع حلم جديد.
ومن هنا تحوّل أدب "حميد" إلى شهادة فنية تحمل وجع الفرد وصرخة الجماعة في آن واحد، حتى غدا المخيم في نصوصه رمزا للمعاناة ولكنه أيضا رمز للوحدة، فهو المكان الذي جمع قرى ومدن فلسطين في فضاء واحد، وحوّل الخيمة إلى بيت وإلى معمل للأطباء والمهندسين والفنانين والفدائيين، فصار المخيم بالنسبة له معادلا موضوعيا للقاعدة الفدائية، كما صار المعادل الموضوعي للمدرسة بوصفها طريقا للوعي والتحصيل مثلما هي طريق للعملية الفدائية.
انتقل "حسن حميد" من الشعر إلى الرواية، وهذا الانتقال لم يكن مجرد تحوّل فني بل كان ضرورة وجودية. فقد بدأ بكتابة الشعر العمودي ليرثي الشهداء ويقرأ القصائد على قبورهم في المقابر، حيث كان الحزن خيمة تغطي المكان كله، لكن سرعان ما اكتشف أن الناس لم يكونوا بحاجة إلى الإيقاع بقدر حاجتهم إلى السرد، وأن الرواية وحدها قادرة على استيعاب هذا الكم الهائل من الألم والفقد والغياب. فالرواية بطبيعتها ديمقراطية، تقبل تعدد الأصوات والأمكنة والأزمنة، وتفتح الباب للتأمل الفلسفي والسوسيولوجي والتاريخي، ولذلك وجد فيها "حميد" المساحة الأوسع لتحويل التراجيديا الفلسطينية إلى فن أدبي راقٍ يضاهي الملاحم الكبرى. هكذا كتب "جسر بنات يعقوب" و"بلاد.. اسمها جباليا" و"مدينة الله" و"تعالي نطير أوراق الخريف"، فجعل من النص الأدبي لوحة كبيرة مُرصّعة بالرموز: البحر لا يكون إلا حيفا ويافا، والشجر لا يكون إلا الزيتون والبرتقال والخروب، والمفاتيح دلالة البيوت المسلوبة، والسجون علامة الوجود الفلسطيني المحاصر، والمأكل والمشرب والملبس تفاصيل يومية تتحول إلى رموز وطنية. هذه الرموز لم تُفرض فرضا بل جاءت من صلب الحياة اليومية في المخيمات، من أحاديث الناس ودموع الأمهات وأغاني الأعراس وأطعمة الشتات، حتى باتت الرواية الفلسطينية عنده ساحة كبرى للاحتفاظ بالذاكرة الجمعية.
لكن تجربة "حسن حميد" لم تتوقف عند حدود التوثيق أو تسجيل الشهادة، بل ارتقت إلى مستوى جعل النص الفلسطيني نصا إنسانيا عالميا، يتقاطع مع تجارب الشعوب الأخرى التي عانت من الاستعمار أو الحروب أو المجاعات. فهو يرى أن الرواية ليست سجلا للحوادث، وليست كتاب أخبار، بل هي فن يحمل الجمال العالمي، ولهذا فهو يوازن بين المحلي والإنساني، بحيث يكتب عن غزة أو صفد أو جنين، ولكنه يقدّم نصوصا يمكن أن يقرأها الروسي أو الصيني أو الفرنسي أو الجنوب أفريقي فيجد فيها ما يلامس وجدانه. هذا التوازن هو الذي يجعل رواياته قادرة على العبور من المخيم إلى القارئ العالمي، حتى لو حاولت الدعاية الإسرائيلية طمس السردية الفلسطينية في الغرب. ولعل أكثر ما يثبت ذلك تلك اللحظة التي فوجئ فيها في الصين بترجمة روايته "جسر بنات يعقوب" وقراءتها من قبل طلاب الجامعات، وهو ما منحه فرحة أدبية مضاعفة: فرحة بترجمة نص فلسطيني، وفرحة بأن القارئ البعيد يستطيع أن يتلمس روح فلسطين من خلال الرواية.
لقد حاز "حسن حميد" على جوائز أدبية مرموقة، بينها جائزة "نجيب محفوظ" مرتين، لكنه لا ينظر إليها كأوسمة شخصية بقدر ما يراها تربيتة يد على كتف فلسطين المنفية. فهذه الجوائز منحته طاقة إيجابية كي يواصل الكتابة عن الحلم الفلسطيني، لكنها أيضا كانت بمثابة رسالة إلى العالم بأن الأدب الفلسطيني جدير بالاعتراف، حتى لو تعرض لحرب طمس في أوروبا وأمريكا. وفي هذا السياق، يذكّر "حميد" بمظلومية كتّاب فلسطينيين كبار مثل جبرا إبراهيم جبرا ومحمود درويش الذين لم تُترجم أعمالهم كما تستحق بسبب القيود السياسية. غير أن "حميد" ظل يرى في الإبداع الأدبي والفني خلاصا روحيا، فالكتابة بالنسبة له ليست ترفا بل مسألة حياة أو موت، ولولاها لمات ألف مرة تحت وطأة صبرا وشاتيلا ودمار المخيمات.
ما يميّز شخصية "حسن حميد" أنه لا يكتفي بأن يكون شاهدا على الألم، بل يحاول أن يحوّل الألم إلى نور داخلي، إلى قوة تضيء الدروب. فالألم عنده ليس مجرد ندبة بل طاقة للمقاومة، وهو الذي أبقى المكان الفلسطيني حيًّا في وجدان الفلسطينيين رغم سبعة عقود من الاحتلال. لذلك فإن قصص الألم التي كتبها لم تكن نهايات مسدودة، بل كانت إشارات إلى الدروب التي سلكها الفدائيون، وإلى الكرامة التي ارتضاها الشهداء، وإلى الإصرار الذي جعل الفلسطينيين يقولون "بيهمش" في مواجهة الجوع والدمار والخذلان، مؤمنين بأن الليل لا بد أن ينقشع عن نهار عريض.
في رواياته، تتحوّل غزة إلى شخصية حيّة، القدس إلى مدينة حلمية نابضة، المخيم إلى بطل جماعي، والمكان الفلسطيني إلى قيمة روحية عليا. وهو بارع في استخدام التراسل بين الأدب والفنون، خاصة السينما، إذ يعتمد على المشهدية واللغة البصرية التي تجعل القارئ يعيش تفاصيل المكان وكأنه حاضر فيه، حتى أن من قرأ روايته "مدينة الله" ظن أنه من أبناء القدس، مع أنه لم يرها بعينيه قط. هذه القدرة على الإيهام الواقعي، وعلى بناء مشاهد نابضة بالحياة، تجعل من القارئ شريكا لا مجرد شاهد، وتجعل من النص الفلسطيني نصا حيا يتنفس ويقاوم.
رسالته للشباب الفلسطيني واضحة: اعرفوا لماذا ترافقكم العذابات، لماذا اختفى الفرح، لماذا كبرت المقابر أكثر من القرى، لماذا نبكي عند الحدود وعند رؤية أعلام الآخرين، ولماذا لا بد أن نحلم رغم كل شيء؟ وهو يؤمن بأن كل جيل يجب أن يحمل الشعلة، وأن الأدب يمكن أن يكون سلاحا موازيا للبندقية، لأنه يحفظ الوعي، ويحمي الهوية، ويعزز الحلم بالعودة.
في نهاية المطاف، يظهر "حسن حميد" كاتبا صاحب أسلوب فريد، حتى أنه يؤكد أن أسلوبه صار اسمه، وأن نصوصه يمكن أن تُنسب إليه ولو لم يوقّعها. وهو بذلك يحقق ما قاله النقاد يوما: "الكاتب هو الأسلوب". لغته العربية القوية، وقراءته للمعاجم، وتبحّره في التراكيب والاشتقاقات، جعلت نصوصه تتميز بخصوصية نادرة. وهو أيضا يرى أن المنابر الثقافية مثل "منبر أدباء بلاد الشام" وجريدة "الأيام نيوز" تلعب دورا حيويًّا في تعزيز الوحدة الثقافية وتجاوز إرث التقسيم الاستعماري، لأنها تمنح مساحة للأصوات الحرة، وتجمع الأدباء على أرضية مشتركة من الهمّ الإنساني.
هكذا يبدو "حسن حميد": رجل حمل المنفى في دمه، وحوّل الخيمة إلى مدرسة، والمقبرة إلى منبر، والمأساة إلى رواية، والذاكرة إلى ضمير. لم يترك الألم يبتلعه بل جعله شعلة تنير الطريق، ولم يكتفِ بأن يكون شاهدا بل صار صانعا للمعنى. ومن يقرأ أعماله يدرك أن فلسطين لا تُختصر في حدود الجغرافيا المحتلة، بل هي حاضرة في النصوص، في المخيلة، في الرموز، في الأمل، وفي الجمال الإنساني الذي لا يُقهر. إن تجربته ليست مجرد مسيرة كاتب، بل هي مسيرة شعب يُصرّ على أن يحيا رغم كل محاولات الطمس، وأن يحفظ ذاكرته رغم كل محاولات المحو، وأن يكتب اسمه على صفحة الأدب العالمي بحروف من نور ودمع ومقاومة.

جثتي تُلقي خطابا في الأمم المتحدة
بقلم: عيسى قراقع
حضرات السادة والسيدات:
لا أعرف إن كنتم تسمعونني الآن، لكنني سأتحدث، ولو بصوت جثتي، أنا لست وفدا دبلوماسيا، ولا ممثلا لدولةٍ مستقلة، أنا جسد هشّ، مُتصدّع من القصف، متيبّس تحت الأنقاض، أنا ضحية أُخرجت من تحت الركام قبل يومين، أو ربما قبل أسبوع… لم أعد أذكر.
أقف أمامكم اليوم جثة، لأن الحيّ في بلادي لا يُسمع، ولأن الميت، حين لا يبقى من العالم سواه، يُمنح أخيرا منصة.
هل هذا هو ثمن الاعتراف؟ أن نموت أولا، ثم يُسمح لنا بالكلام؟
أقف اليوم امامكم، لأتحدث باسم كل الجثث التي هرستها الإبادة المستمرة منذ النكبة حتى الآن، باسم إنسانية تنزف، وشهداء تتطاير أرواحهم في الغبار.
هذا المؤتمر لا يُعقد من فراغ، بل يعقد فوق خارطة ملطخة بالدماء، وتاريخ مثقل بالمجازر، وطوال هذه السنوات الدامية، وأنتم تجتمعون، تتخذون القرارات، ومع كل قرار تزداد اعدادنا تحت التراب، أتمنى هذه المرة أن تسمعوا من الضحايا الاموات وليس الاحياء.
تسألون عن الدولة الفلسطينية؟ ها هي بكل وضوح:
في كل بيت قُصف، في كل ذكرى مُحيت، في كل شجرة زيتون اقتلعتها الجرافات، في كل طفل مات قبل أن يتعلم نطق اسمه، وفي كل أمٍّ دفنت أبناءها بلا أكفان، في كل عائلة مُسحت من الوجود، واجتمعت في السماء، في كل خيمة نحملها على الظهر، نغرسها في البحر او في الرمل ولا نرحل، في كل زنزانة توحّشت بالتعذيب والاعدامات، في مطلع كل فجر، يؤذن للصلاة، ويقرع الاجراس.
تتحدثون عن الاعتراف، لكن، عن أيّ شيء تعترفون الآن؟ أتعترفون بشعب يُباد؟ أم بدولة تُنحر كل يوم، ثم يُقترح الاعتراف بها كـ "حل وسط"؟ أو كـ "موت مُؤجّل".
أتعرفون ما يُرعب؟ أن القاتل لا يخاف من إدانتكم، لكنه يخشى كاميرا هاتف صغيرة بيد طفل يلفظ أنفاسه، لأنها تفضح أكثر مما تفعل خطاباتكم الطويلة.
أقولها الآن، من جثتي هذه، التي لا تطلب شيئا إلا أن تتوقفوا عن تصدير الأسلحة، وعن إرسال صواريخكم مع بيانات التعاطف. لسنا بحاجة إلى مؤتمرات تُخفّف من غضب شعوبكم، بل لحياة لا تحتاج إلى إذنٍ من أحد.
لا أريد دولة تولد على جثتي، ولا علمًا يُرفع فوق مقبرة جماعية ويُقال: "ها قد تحقق الحلم". لسنا ورقة في دفاتر السياسة، ولسنا مادة تفاوضية، ولا مختبرا لفحص قدرتنا على تحمّل قنابلكم الذكية، ولا ظلالا تبحثون عن وجوده في القانون الدولي، والذي مازال يصرخ منذ الحرب العالمية الثانية.
نحن شعب، كنتم تسمّونه "القضية"، لكنه صار، في موتنا الجماعي، مرآة لإنسانيتكم المتصدعة.
أيتها السيدات والسادة:
كيف تتحدثون عن قيم إنسانية، وتصدرون بيانات الإدانة في النهار، والقذائف في الليل؟ ايّ عدالة هذه التي تقاس بلون العيون؟ وأي شرعية دولية هذه التي تعجز عن ادخال كيس طحين إلى غزة التي تحولت الى هيكل عظمي، من لا يستطيع ادخال رغيف خبز إلى غزة، هل يستطيع أن يعطيني دولة؟
هل تسمعون صوتي الآن، هل تسمعني جثتي وأنتم تنظرون إلى السقف؟ أم تنتظرون أن يُترجم هذا الخطاب كي تفهموه؟ انا ميت، والفرق بيني وبينكم أنني أتكلم بلسان الموت، وأنتم تتكلمون بلسان الصمت.
أيها العالم:
في كل وقت تأخر، ثمة حياة تزهق، وثمة بيت يمحى من الوجود، فهل تنتظرون حتى لا يبقى هناك من يمثل فلسطين كي تعترفوا بها؟
جثتي تقول لكم:
لا نريد دولة مُقيّدة بالحواجز والمستوطنات والمعسكرات، تولد على ورق الخطب والبيانات، بينما يذبح شعبها أمام شاشات العالم.
نريد دولة لا تكون مجرد تعزية أممية في جنازة صاخبة، نريد دولة حقيقية من لحم ودم وسيادة وتراب، دولة لا تمنح مقابل سجن كبير بقيود غير مرئية.
دولة تفكك الاستعمار، ولا تقايض بحق العودة، أن يكون لفلسطين أرض لا تقصف، وسماء لا تخترق، ومستقبل لا يقبر، فلا دولة حقيقية بدون حرية.
لو أردتم أن يكون لنا دولة، تعالوا انتشلوني من تحت الطمم والجدران، افتحوا القبر، واخرجوني من النسيان.
يا أصحاب القرار:
لا نريد "اعترافا" يُغطّي القتل، ويكون قناعا للجلاد، ولا دولة تُمنح كرشوة أخلاقية، لا نريد اعترافا يجرم الضحية، ويمنح القاتل شرعية، نريد فقط ما لا يُمنح لجثث: الحق في الحياة.
انا جثة، ولكنني أرى جثثا كثيرة أمامي، جثثا بملابس جميلة، تعيش في غيبوبة، تحمل الحياة بدون فعالية، تموت ألف مرّة دون أن تموت، نحن هنا لا لنشهد ميلاد دولة، بل لنوثق جنازة مفتوحة.
حضرات السادة:
أصحاب المعاطف الرمادية والربطات الرسمية، أحيّيكم، لا لأجل دوركم، بل لأجل الغائب في حضوركم: العدل.
فلسطين تلك التي تتحدثون عنها كما لو كانت فكرة في دفتر، هي جسد حي، يُقصف الآن.
في اللحظة التي نتبادل فيها الخطابات، تُحرق غزّة وتُطحن، ويعاد تدويرها وصهرها بتبريرات تفوح منها رائحة لحم بشري.
هل جربتهم أن تتحدثوا عن الحق بينما البارود يملأ فم الكلمات؟ تعترفون بدولة، لكنكم لا تحمونها، تقرّون بالحق، لكنكم لا تمنحونه القوة، تذرفون الدموع، ثم تبيعون السلاح، أليست هذه هي السخرية السوداء، حين يتلبس الظلم هيئة العدالة؟
جثتي تقول لكم: لو سكت العالم، وأكمل الفاشيون دفننا عميقا في الغياب، ستبقى فلسطين تتكلم في الحياة والممات، حتى لوكان لسانها من حجر.
جثتي المتفحمة تقول لكم: فلسطين ليست بندا في الأجندة، بل جرحا في قلب العالم، والاعتراف بها هو اعترافا متأخرا بعارنا الجماعي، اعترافا بأننا فشلنا كحضارة، كأمم، كأفراد، في أن نكون بشرا قبل أن نكون ممثلين.
أقولها: لا معنى لأيّ اعتراف من قبلكم إن لم يكن أول واجباتكم وقف الإبادة، ولا قيمة لأيّ شرعية دولية، إن كانت تمنح للقاتل، وتناقش الضحية.
في الختام:
لا نطلب منكم كلمات جديدة، بل وجوها لا تنكسر حين تنظر في المرآة، نطلب منكم لا الاعتراف فقط، وإنما أن تجعلوا لهذا الاعتراف سقفا يحمي، وأرضا تُبنى، وعدالة تُسترد. شكرا لكم، من تحت الركام، من هذا الجسد المنكوب، من جثتي التي تُلقي عليكم السلام، ولي العزاء.
بقلم: قمر عبد الرحمن
الفرح يُقــتل قبل أن يولد.. حتى القدر يريد لغــزة قدرا آخر!
محمد وأسيل دخلا الحياة الزوجية تحت ظلال الحـرب، فكان نصيبهما زفاف من نــار ودخان بدل الزغاريد. لم يُمهل القدر محمد ليُكمل دور العريس، فصار عريسا للشهادة، بينما زوجته معلّقة بين الحياة والمـوت، في عنايةٍ تختلط فيها الأجهزة بأنينها. هناك... أهل غــزة يعرفون أنّ كلّ حلمٍ صغيرٍ قد يُذبح على أعتاب القصـف، وأنّ كلّ قصة حبّ موعودة تُكتب بحبر الدم قبل أن تُكتب بحبر الفرح. ومع ذلك... ينهضون من تحت الركـام حاملين ما تبقى من قلوبهم، كأنّهم يصرخون للعالم: نحن أحياء رغم كلّ ما سُلب منا.

شعر: سائد أَبو عبيد
حلمان في النسيان
سَأَزيدُ قلبي نبضَها، الشَّوقَ الذي فيها إِلى ما حَنَّكتْهُ مَشَاعِلُ اللَّهفَاتِ
حينَ رَأَيتُ ما يَنمُو على شَغَفٍ لدَيْها..
قُلتُ هَلَّا تَسكُني صَوتا لِحَنْجَرةٍ تَنَدَّى الشِّعرُ فيها؟
سَوفَ يَنهَلُ مِنْ يَنابيعِ الكُرومِ النَّاضِحاتِ عَليكِ!
في أَثْوابِ ضَوئِكِ تَشبَهينَ حَدِيقة سَكَنتْ إِلى رُؤيا بِحُلمْ
كانتِ الأَهدَابُ تَستَدعي الطُّيُورَ، رَأَيتُني هَذي الطُّيُورْ!
قَدْ كُنتِ مُدهِشَة!
رَأَيتُكِ جَوقَة عَزَفَتْ إِلى هَذا المُعَلَّلِ بِالجِرَاحْ
سَأُطَبِّبُ الصَّوتَ الذي يَأْسَى وحِيدا
أُحسِنُ الإِصغَاءَ
فاسْتلقَى بِصَوتيَ نُوتَةُ الجِيتَارِ عَنْ صَدرٍ يُزاحِمُهُ الفَرَاشْ
أَسْتَمْلِحُ الماءَ الذي يَنسَابُ عَنْ كفَّيكِ
سُقيَاكِ الوحِيدَةُ أَبْجَدِيَّةُ رَغبَةٍ عَطشَى بِجَوفيَ
كُلَّما رَجْرَجْتِ إِبرِيقَ التَّشَوُّقِ
تَسْكُنُ الأَصدَاءُ عَنْ مَاءٍ تَرَقْرَقَ في النَّواعِيرِ الَّتي سَكَنتْكِ مِنْ أَزَلٍ بَعِيدٍ
حَيثُ صَدرِيَ!
تَنهَبِينَ يَبَابَ هذا القَلبِ مِنْ فَخَّارَةٍ يَبِسَتْ بِلا مَاءٍ طَوِيلا
عُلِّلَتْ عَطَشا!
تَعَاليْ ليسَ غَيْرَكِ مَنْ يدانيَنِي!
أَنا القَدَحُ الذي أُبْهِمْتُ فِيمَا كانَ مُلتَبِسا عَليَّ!
كأَنَّهُ مَاءٌ فإِذْ رُؤْيَايَ تُبصِرُهُ سَرَابا!
إِنَّها الصَّحرَاءُ قَبْلَكِ!
فَافْلِتِ اليَنْبُوعَ أَنْهُرَ كَالقَرَابِينِ الَّتي يَحتَاجُهَا رَبٌّ هُلَامِيٌّ لِيَبعَثَ لِلَّذينَ تَوثَّقوا بِالتِّيهِ نَاصِعَةَ الحَيَاةْ!
جَسَدِي تَلَقَّمَهُ الوَبُاءُ!
مَرِضْتُ بِاليَبَسِ الذي يَجتَاحُني!
أَحتَاجُ مَاءَ فُراتِنَا والنِّيلْ
أَحتَاجُ أُنثى كيْ تُرطِّبَ جَبهَتِي
أَهذِي بِها!
لكَأَنَّني أَبصَرتُها!
أَسْتَشعِرُ المَندِيلَ فوقَ مَتاهَتي
وكأَنَّها القِندِيلُ في لَيلٍ طَويلْ
عُصفُورُ قلبيَ مُتعَبٌ مِنْ قَفرِهِ
غَنِّي لهُ وِتْرا على صَمتٍ ثَقِيلٍ في الجِهَاتِ يَهِدُّني الصَّمتُ الثَّقيلْ!
قُومي نُقلِّبُ وجهَ مَنْ نَهبتْ مشاعرَنا بعيدا في التَّحرُّقِ والتَّعبْ
ودَعِي سُلالةَ ما تأَمَّلنَاهُ في جِيدِ القَصِيدَةِ واللَّهبْ
ودَعِي فُؤَاديَ أَنْ يُقَلِّبَ دفترَ الوَقتِ العَبُوسِ
فربَّما تَخضَرُّ قُبلةُ ثَغرِكِ المَوسُومِ بالعُنَّابِ، في أَجرانِهِ انْسابَ العَسَلْ
فيَّ اسْتِقَامَتيَ الَّتي عَلَّمتُها يَوما كأَنْ تأْتي الحبيبةُ بينَ أَحضَانِ اللِّقاءِ
هي النَّوافِلُ للتَّأَمُّلِ عَنْ كَثَبْ
قَلَمي ورِيشَتِيَ المُغَمغَمةُ، الضَّريرَةُ تَستَعِيدُ الرُّؤْيةَ النَّشوى إِذا غُمِسَتْ بِكُحلِ الطَّرفِ في عَيْنَينِ نَاعِسَتَينِ تَبتَسِمُ الحياةُ بِها
وتَستَلقي السَّماءُ على مَرَايَاها، على حَدَقٍ سَحابٌ لا يفيءُ سِوى بِعَيْنَيها
وأَقمارٌ تُضِيءُ تَجيءُ حتى الشَّمسُ تَسكُنُ في مَحاجِرِها
أَنا قَلمٌ سَيُهدَى حينَ يَأْنُسهَا
كأَنِّي مِثلُ مَنْ أَنِسَ النِّداءَ على تَلاويحِ اللَّهَبْ!
سَلمى حُشُودٌ مِنْ نِسَاءٍ أَو قَوافِلُ مِنْ حِسَانٍ
كُنتُ أُبصِرُها على حُلْمٍ عَتِيقٍ
لمْ يمَسَّ الرُّؤْيَةَ المُثلى سِواهَا!
كيفَ تَرفعُني أَيَا حُلْمي إِليها؟
إِنَّها هذَا المَدَارُ المُستَضَاءُ على الشِّغَافِ المُثخَنَاتِ مِنَ الوَصَبْ
وهيَ البَنَفسَجَةُ الوحِيدَةُ في مَدَارِيَ
أَشْتَهي لمسَ البَنَفسَجَةِ المُضَاءةِ
ثَمَّةَ المعنى يُنادي، عِطرُهَا شَغَفٌ وهَفْهَفَ في إِزَارِيَ
غلَّقي الأَبوابَ، يُوسُفُ مُثقَلٌ بالحُزنِ رُدِّي صَوتَهُ
سَلَبَتْهُ منهُ الرِّيحُ والذِّئبُ الصَّريحُ يَشُقُّهُ نَزفا ولا يَخبُو بِجُبٍّ غَامِضٍ
بِمَجَازِ عَيْنَيكِ اللَّتَيْنِ سَلبنَني حَبلٌ تّمَسَّد لي على مِنوالِكِ الأَنقى ولقَّفَني النَّجَاةْ
أَحتاجُ رَغبَةَ عَندَلِيبٍ في مُكَاشَفةِ الحَنينِ على شُجَيرَاتِ الحَدِيقَةِ في الصَّباحْ
يا ربُّ سَلمَى بينَ رِيشِ الحُلْمِ تَسكُنُ مثلَ هَفْهَفَةِ الحَنِينِ
سَأَلتُ أَنْ تَلِجَ الصَّحاريَ بَينَنا
سَلمَى لَيالٍ مِنْ حَنينٍ والقَصِيدةُ نَكبَتِي الأَزليَّةُ!
انْتَصَبَ الشُّرُودُ عَليَّ وسَّعَ عَرشَهُ!
نَهرانِ يا سَلمَى أَنامِلُنا وتسعى للتلاقيَ
إِنَّ هذا الوقتَ يَحكُمُهُ أَباطِرةٌ عُصَاةٌ يَقتُلونَ نَبيَّ هذا الحبِّ في زَمنٍ أَثِيمٍ بِالفِراقْ!
شَيءٌ على الخَدِّ اشْتعالٌ بانَ يَلمَسُني عَمِيقا
إِنَّهُ شِبْهُ الحَبِيبةِ، وسْمُ صُورتِهَا على رَملٍ سَيَخطُفُهُ بِلا شَكٍّ صُعُودُ المَوجِ
شَيءٌ لَستُ أُبصِرُهُ تَماما..
كادَ يَخطِفُنا إِليهِ النَّايُ بَحَّاتٍ سَيكشِفُهَا القَصَبْ
يا ربُّ مَنْ سَلمَى؟
ومَنْ هذا الفَتى؟
حُلمانَ مُفتَرِقانِ، مجتمعان، مُحتَرِقانِ، مُحتَرِقان، مُشتَعِلانِ في لَهَبٍ وَثَبْ!
حُلْمانِ مَطوِيَّانِ في النِّسيَانِ يَوما ثُمَّ يرجِعُها الحَنينُ فَلا عَجَبْ!
حُلْمانِ مُكتظَّانِ بالإِيقاعِ في هذا المَخاضِ
فقرِّبي النَّخلَ المَضاءَ وقَطِّفي منهُ الرُّطَبْ
بقلم: نهى عودة (ياسمينة عكا)
قميص لا يشفي من العمى
أضواءُ المدينةِ ليستْ خافِتة
كانتْ تَعُجُّ بِنورِ الأطْفالِ
الذين يُمسِكون مَصابيحَ قُلوبِهم
يَجوبون المكانَ بحْثا عن مُتَّسَعٍ لِمَوْطِئِ قَدَمٍ
يُواري شَغَفَهم المُنَتشِر هناك
كنتُ أنا
حين نظرتُ إلى وَجْه أبِي في السَّماء
لا سعيدةٌ ولا حزينةٌ
فليس بعْدَ ما نُعانِيه خوْفٌ مَن الموْتِ
بلْ لرُبَّما النَّصْرُ المُؤَزَّرُ
لمْ تكنْ غَرابة مُعلَنة
بلْ هي اضْطِراباتي الكثيرة
وقلَمِي الذي كان مُتردِّدا
في إعلان الشِّفاءِ التَّامِ
مِن وَحْلِ الخِذْلان
هي اضْطِراباتي
مِن قَمِيصٍ يَجوبُ البِلادَ ولا يُشْفِي
العَمَى الذي احْتلَّ فُؤادا
بلْ زادَ البُعْدَ إنْصافا
هو الغريبُ الذي جَهِلْتُ مَلامِحَهُ
رغم أنَّ الضَّوءَ كان قَريبا
في ذُبولِ كلِّ تلك الوُرود
سألتُ
فأجابتْنِي الرِّيحُ
لم تَسْكُنْكَ لَعْنَةُ الأماكِنِ
لمْ تَقْضِم قُصاصات الوَرَقِ خاصَّتَكَ
بلْ أنتَ نُورٌ يُزِيلُ عَوائِقَ العَتَمَةِ
يَمْحِي أسْئلةَ الوَقْتِ
دُون انْتظارِ الإجابةِ
دونَ وَضْعِ أحْمَرِ الشِّفاهِ
لإخْفاءِ عَطبٍ في تَرْتيبِ الكلماتِ
خُذوا عنِّي الكثيرَ مِن القِصص التي تُرْوَى
واتْرُكوا ذلك النُّور الذي أسْتحَقَّ
فكيْفَ لِياسمين بِلادي
أنْ يَنْبُتَ إنْ لمْ يكن دوما
وُجْهَةَ قلْبِه فلسطين
بقلم: سامي عوض الله البيتجالي
في انتظار المجيء الثاني
كأوراقِ أيلول في الرّيحِ
وأيلول غَصَّةُ روحي
تطيرُ الحِجارةُ ثمّ تسقطُ
جَمَرا يُشعِلُ البحرَ
حطاما في رُكام الجُروحِ
إلى أين تذهبُ؟
تلكَ القيامةُ بابُ النّزوحِ
وصيحةُ طفلكَ َأعلى
من دويَّ القنابلِ
في الوضوحِ
(إلى أينَ تأخذني يا أبي؟)
هذا سؤالُ الصّدى
منذُ سبعٍ وسبعين زفْرَةٍ
في مُدن الصّفيحِ
تعبتُ من المشيِ
إلى جِهَةِ الرّيحِ
تعبتُ من النهاياتِ
تعبت من الانتظار
تعبتُ...
فَعَجِّلْ في قدومِ المسيحِ!
مستشفى المعمدان
بقلم: بشرى أبو شرار
هناك تركت مطارح أقدامي، هناك حيث بيت جدتي القريب منها، يوم وضعت كف يدي الصغير في كف امرأة خالي "فايزة"؛ أخذتني إلى طريق يصل بنا "مستشفى المعمدان"، أخذتنا تلة رملية وانبسطت أمامنا ساحة "غزة" يستدير من حولها سور المعمدان، يتوسطها بابها الخشبي الأخضر. عبرت الساحة، يدي في يدها، وقفنا من أمام البوابة، تدق بيدها، يصلنا الصوت، يفتح الباب وأنا إلى جوارها، تقابلنا ساحات تناثرت الورود عليها. درجات تأخذنا إلى أعلى، هدوء وصمت، حتى وقفنا بباب حجرة أمي التي وضعت وليدها، وكان ميلاد الفرح في قلوبنا.
**
كيف لي أن أنسى يوم انسكب الماء الساخن على وجه أختي "سلافة"، كان مستشفى المعمدان يضمها، فقدنا الأمل في عودتها، هي لا تعرف مواقيت الألم الذي سكن دارنا، كم من الوقت عشنا فيه ودمعات أمي لم تجف، وصمت أبي وهواجسه من فقد قادم لن تحتمله قلوبنا، يوم ذهب إليها والدي، وصله همسه يناديه، هو مستشفى المعمدان الذي أعادها إلينا طفلة أحبتها قلوبنا.
**
يوم انتزعت أظافر يدي لحظة أغلق عليها الباب الحديدي، أخذت محمولة إلى مستشفى المعمدان، بكاء أمي ووجع يسكن قلبها أن أظافري لن تعود تسكن يدي، وصرت ما بين طريق بيتنا إلى ساحة السيارات حيث البوابة الخضراء، آخذ مكاني على مقاعد الاستقبال في المستشفى، يلتقط الطبيب يدي ويعالج جروحي النازفة، ثم آخذ طريقي مشيًا على الأقدام، أعود إلى بيتنا، وأمي على حالها وحديث لها لا يتغير أن أظافري لن تعود، وظل طريق المستشفى وقد اعتادت قدماي الذهاب إليه من بيتنا.. هي أظافر يدي التي عادت تنبت من جديد، هي فرحة أمي وفرحة قلبي كلما نظرت إلى كف يدي أن صار لي أظافر كما باقي أخواتي.
**
"مي مسعد"، وحافلة تقف بباب دارها التي تقابل دارنا، تأخذها إلى مستشفى المعمدان، تمضي إليه في عطلتها الصيفية، تتعلم من دروس وهوايات وألعاب، تقضي يوما كاملا هناك، كم من المرات كنت أنا وأخواتي في صحبتها، نلعب، نكتب، نعزف الموسيقى في قاعات جمعتنا هناك حيث مستشفى المعمدان.
اليوم اشتعلت النيران في قلب المعمدان من قذائف غدرهم، صوت "مي" يصلني باكيا عبر الأثير:
- رأيت ما حدث، مستشفى المعمدان وما حل بها، مدرستنا "إلهام فرح" يصلني صوت عزفها على البيانو، كأنها تعزف مرثيتها الأخيرة، خرجت من المستشفى فاصطادتها صليات مدافعهم، ظلت ملقاة نازفة أمام بوابة المستشفى إلى أن فارقت الحياة، لم يستطع أحد الاقتراب منها لإنقاذها، ظل جسدها يعانق تراب الأرض ليالٍ لم تغادرها العتمة، ويوم الهدنة ذهب الجميع يبحث عن أحبة لهم، فكان جسدها ملقى لم يبرح مكانه، جسد لم يتبق منه إلا حقيبة يدها التي دلتهم عليها، ذوت أنامل يدها التي كانت تعزف من روح مرثيتها الأخيرة...
يصلني بكاء "مي" ووجع قلبها، وأنا صرت هناك، وزوجة خالي "فايزة" رقدت في المقبرة التي تقابل بوابتها الخضراء، قلبي ذهب بعيدا، قد لا يعود.. لا يعود..
**
"ميرال" يصلني صوتها باكيا، ترنيمة من روح الوجع، قالت لي أن معزوفتها الأثيرة غادرت البيانو، لم تستطع الاقتراب منه، البيانو سكنت مساحاته الأتربة، كيف لها أن تزيح عنه التراب وتعزف "موطني" قد تصير هناك في البعد البعيد، وكيف لها أن تعود من جديد.
صهيل الدم على صخرة حطّين
بقلم: غدير حميدان الزبون - فلسطين
ها أنا أناديكَ يا جرحا ينزفُ قمحا ونارا،
أفتحُ حنجرتي على مدائنك،
أُفجِّرُ الحرفَ صاعقة،
وأسكبُ دمي في جرار البيارات،
فتورقُ عروقُ البرتقال على جدار الأسر.
أنا ابنُ ليلك الذي لم ينم،
أنجبتني المنافي من رحمِ الغضب،
فحملتُ في ضلوعي سيوفَ الطين،
وسرتُ على حجارةٍ تورثُ الصمودَ،
كأنها أناشيدُ أجدادٍ لم يغادروا.
أُشعلُ كلمتي في أفواه الفقراء،
أضعها سراجا في يدِ الجائعين،
وأفتحُ صدري للريح حتى تصيرَ طريقا،
وأفتحُ وريدي حتى يصيرَ نهرا.
أكسرُ القيدَ بحدّ القصيدة،
وأشقُّ الليلَ بنداء الأرض،
وأتركُ للعابرين دما معلَّقا على باب القدس،
ليعرفوا أنّني لم أمت.
إنْ سقطتُ، حملتني صخرةٌ من جبال حطين،
وإنْ انحنيتُ، رفعتني أغنيةٌ من حناجر المخيم،
وإنْ تفرّق جسدي، جمعه ترابُ الوطن في كفٍ واحدة.
فلسطينُ، خضرةُ أنفاسي،
وصهيلُ عمري،
وميزانُ القصاص بيني وبين مغتصبي.

"الكتابة بين الجثث: قبلة على جبين غزة" للكاتب "عيسى قراقع".. رصد بصري للإبادة..
بقلم: حسام معروف
الكتابة عن الألم في حد ذاتها تنمّ عن حوار ما. تكمن أهمية هذا الحوار في تخليق صيغة جديدة للألم، واستنفاد الصوت الداخلي في إعادة تعريف الأشياء، عبر إكسابها صوتها الجديد. في كتاب "الكتابة بين الجثث: قبلة على جبين غزة" للكاتب الفلسطيني "عيسى قراقع"، الصادر عن دار طباق للنشر والتوزيع، 2025، تتحقق تلك الآلية، اسم جديد للألم في كل لحظة، وصيغة مغايرة للإبادة كلما تقدم السرد. ففي الكتاب كل المفاهيم تتداعى، وتعيد تكييف نفسها مع واقع جديد، البيت، الهوية، الإنسان، الصور، الفكرة الوجودية ببركتها. الكتاب عبارة عن مقالات توثيقية حول إبادة الشعب الفلسطيني، ويمكن وصفها بلحظة محو، في قلب الإبادة ذاتها، كأن اللغة لم تعد أداة للتفسير وإنما وسيلة للبقاء. يكتب الكتاب ضد النسيان، ضد الترويض، ضد تلك الفكرة الساذجة بأن الأدب يستطيع "ترميم" الخراب. هنا، الأدب هو الخراب ذاته، لكن على نحو فني ولغوي يقترب من البلاغة السوداء التي تجعل القارئ يمشي على أعصابه، كما وصفت بدقة. خلال سرده يطرح الكاتب رموزا، يمكن الإمساك من خلالها بصوته السردي والفكر الذي ينادي إليه عبر 218 صفحة من القطع المتوسط.
رمزية الحرية
يضع "قراقع" الحرية في قلب جدلية مقلوبة: ليست حرية الفلسطينيين وحدهم، بل أيضا حرية الجلاد من تاريخه، من هتلره الداخلي، من محرقة تتكرر في صورة معكوسة. في مقطع لافت يكتب: "حريتنا أن ننقذكم من هتلر الذي يعيش في داخلكم، الخوف والرعب من كل شيء، ومهمتنا أن نطفئ الحريق الذي يشتعل في ذواتكم ومدارسكم وثقافتكم حتى لا نحترق معا. حريتنا أن نحرّركم من ثقافة السفاحين والقتلة، ومن عقدة المحرقة الاستحواذية…". هذا المقطع لا يكتفي بطرح معادلة أخلاقية، بل يعرّي المفارقة الوجودية: الضحية تُصبح هي المنقذ. الحرية هنا ليست شعارا وطنيا؛ بل عملية علاج نفسي جماعي لعدو يعيش على "وهم الإبادة الماضية" ليبرّر إبادة الحاضر.
إنه قلبٌ للأدوار: من يحتاج للنجاة ليس الفلسطيني وحده، بل أيضا الإسرائيلي، الذي يعيش مأزقا وجوديًّا داخل ذاكرته. وكأن الكاتب يقول: من دون شفاء العدو من مرضه، لا يمكن للحرية الفلسطينية أن تولد. الحرية إذًا ليست تحرّرا من الاحتلال فقط، بل أيضا تحرّرا للعدو من عاهته التاريخية.
الرقص الأسود
من الغرابة في كتاب "قراقع" أن توجد رمزية الرقص، وكأن الكتابة فعل حتى في العتمة، فعل كرنفالي. لكن ذلك ليس رقصا في الأعراس أو في الساحات الشعبية؛ بل رقص الأجساد حين تتناثر في الهواء. في أحد النصوص يكتب: "لماذا لا ترقص؟ الغارة المقبلة تجعلك ترقص، تطير أشلاء جسدك على شكل دائرة، ترتفع وتسقط، ترقص في الريح والغبار، مصحوبة بموسيقى الانفجار العظيم…". الرقص هنا ليس فعلا إراديًّا، بل نتيجة انفجار. إنه كوميديا سوداء بامتياز، مثلما قدم "كازانتزاكيس" الألم الوجودي إلى احتفال عبثي، عبر تقديم شخصية "زوربا" الفلسطيني.
في نص "قراقع" لا يُمنح خيار الرقص؛ بل يُدفع إليه بالقصف. يتحوّل جسده إلى راقص قسري، والجمهور المتلذذ يجلس في الكنيست أو في شوارع "تل أبيب"، أو في أي مكان في العالم. "الحرية إذا ليست تحرّرا من الاحتلال فقط، بل أيضا تحرّرا للعدو من عاهته التاريخية. من دون شفاء العدو من مرضه، لا يمكن للحرية الفلسطينية أن تولد".
هذا التحويل المروّع للرقص إلى حركة موت هو ذروة السخرية التراجيدية: الفلسطيني يرقص على إيقاع انفجاره، العالم يصفق، والجسد ينصهر. ومع ذلك، يبقى في الرقص معنى: إذ هو رفض للصمت، وحركة ضد الثبات، حتى لو كان الثمن أشلاء مبعثرة.
أسطورة
لا يغفل الكتاب عن تفكيك الأسطورة التي بُنيت عليها دولة الكيان. حيث يشير قراقع إلى أن التأسيس لم يكن على وقائع التاريخ، بل على "أوهام وأساطير" تُستعاد الآن لتبرير الإبادة. هنا يظهر الكاتب كمنقّب في جذور نشأ من خلالها الوعي: الاحتلال ليس آلة عسكرية فقط، بل سردية متخيلة، تقوم على أن الشعب الآخر غير موجود، أو أن وجوده خطر أسطوري يجب محوه. بهذا، يربط الكاتب بين الإبادة الجارية والخيال المؤسس للدولة العبرية، ليكشف أن الأسطورة لم تنته، بل تحوّلت إلى آلة موت.
السجن
في نص آخر يخاطب الكاتب الأسير الشهيد وليد دقة: "إلى أين يا وليد؟ كل شيء من حولك مرعب ومغلق، الغارات الجوية، القصف المتواصل… فلا مجال يا وليد من الخروج من الزنزانة المحاطة بالحراس وبكل أنواع الأسلحة". المشهد هنا ليس توصيفًا لسجن فقط، بل لكون كامل. وليد ليس أسيرا فرديًّا، لكنه استعارة عن الفلسطيني برمته. الزنزانة تحوطه من كل الجهات: جغرافية، سياسية، رمزية. إنها سيزيفية مطلقة: الأسير يُدفع لرفع صخرته كل يوم، ليجدها تسقط من جديد، بلا جدوى، بلا مخرج. يتحول السجن في خطاب قراقع إلى "غوانتانامو" آخر: مكان لتعطيل الزمن، لإلغاء المعنى، لجعل الإنسان كائنا بلا هوية. لكنه أيضا مسرح مقاومة: إذ مجرد أن يكتب وليد أو أن يُذكر اسمه، فهذا يعني أنه لا يزال يعرّف نفسه، يصرّ على الوجود.
الغناء والفولكلور
إلى جانب الرقص والسجن، يستحضر الكاتب رمزية الغناء والفولكلور الشعبي. الأغنية هنا ليست مجرد تراث، بل وسيلة لربط زمنين: نكبة 1948 ونكبة 2023. الفلسطيني يغنّي ليقول: أنا موجود. الأغنية كلذة جمالية، كجسر أو حلقة وصل بين موتين، بين إبادة وأخرى. في هذا المعنى، يتحوّل الشعب الفلسطيني إلى "كورال جماعي" يغني وجعه كي يُسمع العالم بعد أن يُمحى جسديا. الغناء هنا استمرار للحياة بعد الموت، محاولة لجعل الذاكرة تصمد حيث الجسد.
لغة مبسطة وموحية
لغة "قراقع" في الكتاب تُحاكي التوتر ذاته الذي يصفه: لغة بسيطة في ظاهرها، لكنها مشحونة ببلاغة تراجيدية. الجمل قصيرة، لكنها تحمل ثقلا تاريخيا وفلسفيا. القارئ يقرأ النص كما لو كان في قاعة محاكمة، حيث تُعرض الأدلة بالصوت والصورة والدم. لا يوجد في الكتاب فسحة للأمل أو الهدوء. اللغة تسير على أعصاب ملتهبة، كما لو أن الكاتب يتعمّد إبقاء القارئ في المحرقة. وهذه سمة أساسية: الأدب هنا لا يهدف إلى التخفيف، بل إلى الإشهاد. اللغة تصبح شاهدا، وثيقة، وصرخة في آن.
بين المقال والسينما الديستوبية
الكتاب يتألّف من مقالات تحليلية، لكن طبيعته أقرب إلى السينما الديستوبية. النصوص مليئة بالمشاهد البصرية: أجساد ترقص، زنزانات مغلقة، أفران موت، انفجارات، جثث، رؤوس مقطعة، أشلاء، تعذيب، سجون إبادة وتطهير عرقي. القارئ لا يقرأ فقط، بل يرى. وهذه السينمائية تجعل الكتاب يخرج من إطار المقال إلى فضاء أشمل: كأنه فيلم طويل من لقطات مرعبة، متتابعة، بلا انقطاع.
بهذا المعنى، يمحو الكتاب منتجات السينما العالمية التي غالبًا ما تجاهلت الإبادة الفلسطينية، ليؤسس سينماه الخاصة: سينما الجثث.
يمكن اعتبار "الكتابة بين الجثث" كتابا أدبيًّا، توثيقيا، ومن ثم هناك صمت طويل بعد قراءته، لكن لا يمكن إغفال كونه شهادة للتاريخ، وصراخا لن يتوقف في الذاكرة. كل صفحة فيه تضع القارئ في مواجهة نفسه: ماذا يعني أن تكون إنسانا بينما العالم يصفّق لموتك؟ ماذا يعني أن تكون اللغة آخر ما تبقى لك حين يختفي الجسد؟ لا يقدّم قراقع عزاء ولا أملا. لكنه يقدّم مشرحة بلاغية تبقى شاهدا على زمن الإبادة. الكتاب وثيقة للتاريخ، تضع المأساة الفلسطينية في قلب الفكر الإنساني، حيث الحرية يُعاد تعريفها، والرقص يصير موتا، والغناء يصير جسرا بين نكبتين.

شعر: فايز أبوعون
نزوحي ليس آخرتي
نزوحي ليس آخرتي
نزوحي موتي المُؤجل
أنا لست قويا
حين أرى الرحيل المُعجل
هذا يستخدم وسيلة
وذاك على الأقدام يرحل
نزوحي ليس آخرتي
نزوحي موتي المُؤجل
ومن لي بدنياي غير الله ابتهل
راجيا إياه يخفف عني ولغيره لم أتوسل
آهاتي وزفراتي تُذكرني بما قد مضى
ودمعة لم تسقط من عيني، ومازالت تعيش بالمقل
نزوحي ليس آخرتي
نزوحي موتي المُؤجل
رجوتها أن لا تسقط على حبيب
عشت معه، ولكنه عن صهوته ترجل
عاتبته حين سبقني بالرحيل
ولكن الله قد يؤخرني حين سؤالي قد يّحِل
نزوحي ليس آخرتي
نزوحي موتي المؤجل

بقلم: حيدر محمود
قصّةُ يوسف!
إلى "الفلسطيني الجديد"، الذي وُلِدَ بين النكبةِ، والنكسةِ، وسواهُما من "أسماء الهزائم"!!
(1)
حين سقَطْنا في قاعِ البِئْرِ..
صَرَخْنا.. لكنْ لم يَسْمعْنا أحدٌ
كانَ البئرُ عميقا جدّا..
ورجالُ وكالاتِ الأنباءْ
- قبلَ ظهورِ النفطِ -
قليلا ما كانوا يأتونَ إلى الصَّحراءْ!
(2)
حين رَكِبْنا صهواتِ الرّيحِ، وصِحْنا:
"هُبّي يا ريحَ الجنّة"،
والخيلُ، على مدِّ الساحاتِ، تصيح..
كُنّا أوّلَ رُوّادِ المَوْتِ،
حَفَرْنا كُلَّ مسالِكِهِ، بأظافرِنا
لم نَعْرِفْ -حتّى جَرَّبْنا-
أنَّ أظافرَنا تملكُ هذا السَّحْرَ،
وأَنّا نملكُ،
- نحنُ المقهورينَ، المذبوحينَ، بسكّينِ الخَيْبةِ -
أنْ نرفع أَيدينا
في وَجْهِ الرّيح!!
حين يتكلّم الصمت
بقلم: سماحه حسون
حدِّثيني...
عَنِ الحُقولِ التي أنجَبَت جُوعَها،
ولَم تُعَلِّمِ القَمحَ كيفَ يَشبَعُ جَسَدَ الفُقراء.
عَنِ المَرايا الّتي تَكسَّرَت في أعيُنِ النِّساء،
فصارَ الوَجهُ صَحراءَ تَعرِفُ كُلَّ أسماءِ الغُربَة.
حدِّثيني...
عَنِ الطُّفولَةِ التي تَتَسَوَّلُ الدَّفءَ في الأزِقَّة،
عَنِ الشُّموعِ الّتي تَذوُبُ بِلا أعياد،
عَن قُلوبٍ يَسكنُها الوَحْلُ كَما يَسكُنُ الطِّينُ في أقدامِ العَائدين.
حدِّثيني...
عَنِ الأوطانِ الّتي تُهَجِّرُ أبنائَها،
ثُمَّ تَبكي كَأُمٍّ فَقَدَت ثَديها،
ولا تَجِدُ طِفلا يَمنَحُها عُذرا لِلحَياة.
حدِّثيني...
عَنِ الرَّغبةِ حينَ تَتَحَوَّلُ إلى مِساحَةِ موت،
وعَنِ الحُلْمِ حينَ يُصبِحُ كَومةَ رَماد.
قُولي لي...
أيُّ شَمسٍ هذِهِ التي تَطلُعُ بِلا صَباح؟
أيُّ مَوجٍ هذا الّذي يَرجِعُ بِلا مِرفَأ؟
أيُّ قَلبٍ هذَا الّذي يَنبِضُ بِلا حُبّ؟
أنا أسألكِ...
لِكَي لا أموتَ صَمتا،
ولِكَي لا يُصبِحَ الكلامُ جُرحا
في حَلقِ الغَريب.
ما أيتم النور!
بقلم: عبد الله عيسى
(قصيدة من ديوان: مزامير ملكي صادق).
ما أيْتَمَ النُورَ في قَلْبي!
وأيْتَمَني!
مَا كَانَ لِي
لمْ يَعُدْ لِي.
يا إلَهِي!
كَأنّي صِرْتُ غَيْرِي.
أقُولُ لِلْغَريبِ:
تَكَلّمْ كَي تَرَانِي
وَإنْ رَأيْتَنِي يا غَرِيْبُ
لا تَقُصَّ عَلَيَّ مَا رَأيْتَ.
أنَا ذَبِيْحَةُ الغَوثِ فِي مَكَائِدِ الآلِهَةْ.
مَا أيْتَمَ الأرْضَ في صَوتِ المُغَنّي الّذِي كُنْتُ!
ومَا أيْتَمَ القَطَا الّتِي عَلَّمَتْنِي الرَقْصَ
بَيْنَ سِهَامِ صَائِديْ الْحَجَلِ البَرِيّ
فَوْقَ تِلالٍ لا تُجَاوِرُنا!
مَا أيْتَمَ الغَيْمَ، والبُيُوتَ، والمُنَشِدِيْنَ،
والمَراعِي الّتي تَأَلّمَتْ لِمَهَالِكِيْ!
وأيْتَمَني!
أنَا غَرِيْبُكَ يَا غَرِيْبُ
مُنْذُ أقَمْتَ فَوقَ سَرِيْرِي،
واتّخَذْت الّذي آتَاهُ لِيْ خَالِقِي وَلِيْمَة فَارِهَة.

امرأة على رصيف القهر
بقلم: د. منى أبو حمدية - فلسطين
هيَ امرأةٌ غزّية،
تنامُ على الطريق كأن الأرضَ قد صارت آخرَ حضنٍ لها.
تمدّ جسدَها المنهك فوقَ إسفلتٍ بارد،
وتسندُ رأسها إلى حقيبةٍ صغيرة
تختبئ فيها بقايا بيتٍ تهدّم،
وصورٌ تكسّرت في الذاكرة
كما تتكسّرُ المرايا حين تفقد وجهها.
تمدّد جسدها الهزيل كظلّ مهزوم،
وارتجفت أنفاسها بين ركام الروح،
فيما السماء الرمادية تصبغ عينيها بلون البؤس!
لم يكن نومها سوى سقوط،
سقوط ثقيل في حفرة من تعبٍ لا قرار لها!!
ليلُها قاسٍ،
نجومهُ بعيدةٌ كأنها لا ترى،
والريحُ تعبرُ بين ضلوعها مثل سكاكين،
فتضمّ أطفالها إليها،
أجسادا صغيرة ترتجف،
طيورا سقطت من أعشاشها
إلى فراغٍ لا يرحم.
نامت والسؤال معلق بين ضلوعها:
أيّ وطن هذا الذي يجعل من الطريق بيتا،
ومن العراء سريرا،
ومن الجرح هوية؟
كلُّ حجرٍ في الطريق يحفظ دمعة منها،
كلُّ زاويةٍ تسمع تنهيدة مكتومة.
المارةُ يمرّون سريعا،
بعضهم يشيح بوجهه،
وبعضهم يترك وراءه نظرة مرتجفة
تسقط عند قدميها
وتذوب مثل ملح.
أيُّ قهرٍ هذا الذي يجعل امرأة
تبدّل سريرها الناعم برصيفٍ بارد؟
أيُّ ظلمٍ يقتلعها من جدرانها،
ليجعل السماء سقفا،
والأرضَ فراشا،
والخوفَ وسادة؟
كانت يوما تُغنّي لأطفالها قبل النوم،
تُعدّ لهم خبزا ساخنا،
وتحلمُ بمساءٍ هادئ،
أما الآن فهي تُحصي أنفاسهم
خشية أن يخطفهم البرد
قبل أن يخطفهم القصف.
ومع ذلك،
في صدرها جمرةٌ لا تنطفئ،
تقاومُ الصقيع،
وتقول للعالم بصمتها:
"لن أكسر.
حتى لو افترشتُ الطريق،
حتى لو أكلني الجوع والبرد،
سأظلُّ أمشي على هذه الأرض
كقصيدةٍ لا تنتهي،
كرحى تدور على صبرها،
كشجرةٍ لا تنحني للريح".
هيَ لا تنام على الرصيف فقط،
بل تنامُ على قلب فلسطين،
على جرحٍ يتّسع،
على ذاكرةٍ تحفرُ في التاريخ:
امرأةٌ غزّية،
أمّ، صرخة، صمود،
ورمزٌ لكلِّ قهرٍ صار أغنية مُرة
تتردّد تحت سماءٍ باردة
وتكبر في العراء.

نشيدُ المِلح
بقلم: أحمد دخيل
إلى البحر:
يا أبي الأزرقَ..
كم بلَّلتُ جروحَكَ
لا كي أداويكَ… بل كي أموتْ
كنتُ ملحَ الخطايا
أُعانقُ أوجاعَكَ النافره
ثم أرجعُ…
بلا ساعدٍ
وبلا لغةٍ
وبلا سمكٍ يُصلّي
لموجٌ القيامةِ والآخره.
يا أبي البحرُ
حين انحنيتَ على ركبتيك
كنتَ أَملَحَ مَنْ خانَهُ الضوءُ في موجةٍ حائره.
إلى الصديق الخائن:
هل تَذوَّقَ المِلحُ طَعنَتَك الآن؟
كنتُ على وجهِكَ الأوَّلِ
أحملُ خبزي وذاكرتي
والنشيدَ الذي أكلتهُ الطبولْ،
فمضيتَ كسارقِ ظلّي،
لموجٍ
وجَرَّدتني من فمي إذ تنادي عليَّ
طبولُ الوصولْ.
لم أعدْ مثلَما كنتَ ظلّي
يا صديقي الذي لا يجيدُ الرحيلْ:
أنا الآنَ ملحُ خاتمة الطعنات
أنا الآنَ مِلْحُ المقاماتِ في سِفْرِ مَنْ خانَني وانحدرْ
سوف أُمسِكُ بالشَّوكِ حين تفرُّ
وأُعلِّقُ وجهي على غَدرِكَ المُنتَظرْ
إلى التُّراب:
أيّها التُّرابُ البعيدُ…
أنا مِلْحُكَ الطالعُ الآنَ من نَسْجِ آدمْ
خبّأتُ وجهي بماءِ العَجينةِ
لكنني خَلْوَةٌ من وجعْ.
كنتَ تُنبتُ فيّ السنابلَ
أو تنسجُ الأنبياءْ،
لكنني تائهٌ في يديكْ،
ولا أُعرفُ الأرضَ إلا إذا حَفَرتْني السماءْ.
إلى الحبيبة الضائعة:
يا ابنةَ الريحِ
يا مَنْ تركتِ على شفةِ الملحِ خاتمَكِ الفاطميّ
أنا الآنَ أُبصرُ طيفَكِ بين انكسارينْ:
دمعةٍ في المدى
وارتعاشةِ غيمٍ على الكَتِفِ الأوَّليّْ.
لم أعُدْ مِلْحَكِ اليوم
صرتُ نُدوبا على حائطٍ لا تراهُ المرايا
وأوشكُ أن أتكسرَ فيكِ…
كأنِّي صلاةٌ لنَسْي المآذنُ في سورةِ الناصريّْ.
إلى المقبرة:
مِنْ رحيقِ المِلحِ أَنزلُ
كدعاءِ الصلاةِ
يا مَهبطَ الأسرارِ في جسدِ الفراغْ
مِنكِ أبدأُ موتي...
وفيكِ يذوبُ النشيدْ.
كما يسقطُ الضوءُ في هُوَّةٍ
من صدى...
تسقطُ فيكِ اللغاتْ
أنا المِلحُ…
لا مِيتٌ
ولا عائدٌ للحياةْ
أنامُ على ساعدي،
وأُخبّئُ قلبي كأني نبيٌّ
مشى فوقَ نارِ التراتيلِ
وانكسرَ الآنَ فيَّ الهديلُ
وانطوتِ الأمنيات…
كم ستحملني؟
كم سأنحتُ وجهي على ساعدِ الصمتِ؟
كم سأنادي بلا اسمٍ ولا وطنٍ؟
كم سأحملُ فيكِ الحنينَ المُشبَّعَ بالأبدِ الملحميْ؟
كم…؟
ولم تبكِ بعد أنجمُنا الحائرات..
في انتظار طعنةٍ من الخلف
بقلم: أحمد بشير العيلة
دون أيّ محاولةٍ لقياس المسافة بين العشق والخيانة
وبلا أيّ قلقٍ قد يصيب الطائرَ المنفِي على كتفي
أتركُ الاحتمالات تعمل بأريحية مَن لا هموم له
لا أُتعِبُ نفسي كثيرا في محاولة رسم مسار الخنجر وهو يهوي على ظهري المليء بالصخور
لا أُرهِق عقلي في صياغة معادلةٍ تبحث عن العامل المشترك بين حقد الطاعن ومكان الطعنة
فقط
أتركُ نفسي ريشة في مهب رؤاي
أُدرِكُ من تحليلات الظلمة حولي أن الطعنةَ آتيةٌ لا ريب فيها
ظهري الآن
عارٍ تماما من كل مواعيد الطعنات
خذ الموعد الذي تشاء أيها الغادر
ولا تخبرني عن نيتكَ كي لا أكرهك قبل طعني
أريد أن أرحلَ وأنا أحبك
ولا أريد أن يخبرني الله عنكَ حين ألاقيه
من الآن أطمئنكَ
وأقول لله أن يحاسبك دون أن أعرف من أنت
وسأبلغ ظهري ألا يخبرني – حين تشهد الأعضاء – عن شكل عينيك الحاقدتين وأنت تطعنني
من الآن أقولها لك
اطعن بكل راحتك لأني لم ولن أعرف عنكَ شيئا
فقط
أريد أن أغادر وأنا متهمٌ بعشق مواعيد الصباح على هذه الأرض
وأنا في منتصف الطريق إلى قصيدة مدحٍ في وطنٍ لم يأتِ
اتركْ لي بعض الوقت لأنهي قراءة الكتب التي تنتظرني
وبعض الوقت لأكتب خمسة مقالاتٍ عن أحلامي الصغيرة
أريد أن أغادر بهدوءٍ كما اعتاد قلبي أن يعيش بهدوء بينكم
سأترك لك كل الكرة الأرضية التي لم أملك فيها غير مساحة جسدي
سأترك لكَ مكتبة من الوجع لتلقيها بعدي في البحر
أريدك أن تقرأ وصيتي قبل أن تنفذ طعنتك
ها أنا الآن
أجلسُ في سكينة صوفي أعدّ نبضات قلبي التي يأخذها أولادي كلَّ يومٍ مصروفا لسكينتهم
أجلس في انتظار نصلك القادم لا محالة
ووجهي دائما إلى الشمس
أعدك ألا أُدير وجهي أبدا كي لا أراك وأنت تستعد لكسر مداراتي كلها دفعة واحدة
لكني
سأظل أتبع قلبي الذاهب دوما إلى الأمام كشعاعٍ لا ينحني
وأتركك دوما خلفي
وخلف كل شيء
انظرْ
ها هي جبهتي تُحاربُ العاصفة
لا تخف منها، ولا تدع يديك ترتجف
كي لا تخيب وأكشفك
أعدك ألا أصرخ كي لا أفضحك
لأنك تعرف جيدا أن جسدي نخلةٌ في صحراء وجودي
ستظل واقفة كي لا أشي بك حين أسقط
اطعنْ
واتركني أصعد من هذه الأرض
وحيدا
كنبيّ.

البلدوزر
شعر: علي البتيري - القدس
يا أيها البلدوزرُ البشريُّ مهما
واصلتَ فوقَ رؤوسِنا قصفا وهدما
لن تبلغَ النصرَ الذي صورتَهُ
مهما بحبرِ دمائِنا أتقنتَ رسما
مهما أقمتَ مذابحا ومجازرا
لن تستطيعَ لحقّنا قضما وهضما
لسنا لأنياب الوحوشِ فريسة
مطلوبة لوحوشكم لحما وعظما
يا ويلَ من يسعى لنهش لحومِنا
أو يشتهي عندَ اغتيال الطفل لحما
يا أيّها البلدوزر البشريُّ مهلاّ
ستغوصُ في أنقاضنا لتنالَ ردما
اقصفْ ودمّرْ كلَّما هاجمتَنا
وظننتَ أنك قد حسمت الأمر حسما
لصراع أجيالٍ وحل قضيةٍ
لم تلقَ من أجيالِنا عزما وحزما
صمَّمتَ خارطة لشرِّ توسُّعٍ
وزعمتَ أنّكَ من لها وازددتَ زعما
يا انتَ هل وطنُ العروبةِ سلعةٌ
يبتاعُها من قلبُهُ بالحقد أعمى؟!
لا لم تَمُتْ رغمَ التخاذل أمةٌ
تاريخُها يحتاجُ من نيرونَ فهما
فالقدسُ ليست مثلما قدَّرتَ روما
وبلادُنا من قمَّةِ الأطماع أسمى
مهما تنمَّرَ طامعٌ في أرضنا
سنذيقُهُ طعمَ الردى روحا وجسما

المقامة الغيمية في مخاض الوطن
بقلم: غدير حميدان الزبون - فلسطين
حدّثني قلبي وما كذب،
عن مقامةٍ تُثير العجب،
عن غيمةٍ تعثّرت في المخاض،
فأبكى صراخُها زهرَ الرياض،
وتردّدت في الأفق جيئة وذهابا،
بين الصراخ والإنجاب.
فقالت: ويحكم أيّها الأعراب!
أألدُ مطرا يُنقذ الأرض من الخراب،
أم أُجهِضُ وطنا في دهاليز المساومة والعذاب؟
أأخطّ بالبرق وصيّة الشهداء،
أم أكتفي بدمعةٍ على خدّ السماء؟
في سوق التخاذل والانهزام،
شاهدتُ بأمّ عيني حكّاما نصبوا خيامَ الكلام،
وجلسوا على منصّات الوئام،
يثرثرون بقافيةٍ موزونة عن مفهوم السلام،
ويحشدون بكروشهم أطعمة ملغومة وخياما،
ويبعثون من عروشهم بأدعيةٍ وصلاةٍ وصيام،
يبيعون الأوطانَ في مزادٍ علنيّ،
ويشترون التصفيقَ بسعرٍ بخسٍ، دراهمِ معدوداتٍ، وليلٍ ورديٍّ.
وا أسفاه!
فقد سقط المحاربُ الشهمُ الأبيّ،
وصار التحريرُ بندا في الميزانية،
يُقدَّر بصواعِ الملك المفقود،
وبالدولارات الأمريكية،
وصارت فلسطينُ كراسة في دفاتر الاستثمارات البنكية،
يفاوض عليها سماسرةُ النفط والقمح وتجارُ القضية.
ناديتهم: ويحكم يا أبناء الأمة العربية!
الغيمةُ في المخاض تنتظر معجزة سحرية، وأنتم تتسابقون على الوصاية الأبدية:
من يملك حقَّ الحضانة الأبوية؟
ومن يوقّع على شهادة الميلاد العصرية؟
فقال كبيرُهم: لا عجلةَ في الأمر، فالمفاوضاتُ مستمرة، وللحديث بقية.
وقال أصغرهم: لا بأسَ إن طال المخاض ألفَ عامٍ شمسية؛
فالانتظارُ سياسة،
والتأجيلُ كياسة،
والمماطلةُ حنكةٌ وهمية.
فضحكتُ حتى بكيت،
وبكيتُ حتى ضحكت،
وقلتُ وأنا في حالةٍ هستيرية:
ويلٌ لقومٍ يبيعون الأملَ في قماقمَ نحاسية،
ويشربون الهزيمةَ نخبا على موائدِ السيادة الفخرية.
سمعتُ الغيمةَ تزمجر،
وتخطب ببلاغة الجاهلية:
يا قومي،
ما بالُكم تتركونني أُصارعُ بروقا ورعودا،
وأحملُ في رحمي وطنا موعودا؟
ويلٌ لكم! لقد جعلتم من الرعد نشرة إخبارية،
ومن البرق صورة في الصحف اليومية،
ومن المطر مشروعا قيد التنفيذ في المحافل الدولية.
أيّها النائمون نومة أبدية،
ما أدهى عقولَكم في التفريط،
وما أعجز أيديَكم في التثبيت!
وا عجباه!
صارت الحريةُ اقتراحا قيد الدراسة الإجرائية،
وصار الوطنُ مشروعا في خطةٍ احتياطية.
ثم صرخت الغيمةُ صرخة مدوية، وقالت:
أيها الصادقون، لا تيأسوا من طول الليل؛
فالفجرُ آتٍ ولو حجبوه بستائر سوداوية.
ولا تعجبوا من كثرة الخيانة؛
فالأرضُ تعرف أبناءها دون هوية.
سيولد الوطن،
ولو عجزت القابلاتُ عن الإغاثة الطبية.
سيولد الوطن،
وسيأتي المطر،
ولو جفّت الأزهار البرية.
فلسطينُ روحُ القضية،
والقدسُ العاصمة الأبدية،
ولو طال بها المخاض،
ألفَ مخاضٍ وشظية،
ستبقى حرّة عربية.

سنتان
كتب: كيفارا عمار
سنتان ونحن نرى أسطورة سيزيف المعروفة مرأى العين في كل لحظة،
لكنها هذه المرة ليست خرافة أو قصة خيالية تتوارثها الأجيال
سنتين والغزّاوي يُترك وحده ليواجه كل شرور الدنيا،
سنتين والصفحة منقسمة إلى قسمين
قسم لا توصفه الكلمات
وآخر قد ملأ أركان الدنيا بكل معاني الحرية والعدالة والنضال والكرامة والعِزّة
سنتين لا تمت قبل أن تكون نِدّا
سنتين وقد ظهرت الحقيقة الكاملة للعالم أجمع
على يقين أن كل هذا الدم أغلى وأطهر من الثمن...
لكني أرى كل يوم (فلسطنة العالم)
كل ما أتمناه... الحفاظ على أمن وسلامة واستقرار البقية الباقية من أهلنا الكرام... لأننا ليست لنا قيمة دون أهل غَزَّة.
Two years.
For two years we have witnessed the myth of Sisyphus with our own eyes at every moment.
But this time، it is not a myth or a fictional story passed down through generations.
For two years، the people of Gaza have been left alone to face all the evils of the world.
For two years، the page has been divided into two halves.
One part that words cannot describe.
And another that has filled every corner of the world with all the meanings of freedom، justice، struggle، dignity، and honor.
For two years، do not die before you are a worthy opponent.
For two years، the full truth has become clear to the entire world.
I am certain that all this blood is more precious and purer than the price.
But every day I see the (Palestine-ization of the world).
All I wish for is to preserve the security، safety، and stability of the remaining noble people... because we have no value without the people of Gaza.
My artwork

إحدى عشرة جنازة
بقلم: خالد جمعة
(1)
للولد الذي كان يلعبُ فوق شجرة الكينا
كأنّه في بيته [عشه]...
لم تعلّمه أمه الطيران
لكنه طار مع ذلك
[كان هناك صوت طائرة مفاجئ قبل طيرانه بقليل]
(2)
للشاعر الذي لم تحتمله الحقيقة
ولم يحتمل أن يسرقوا قلم رصاصه
كان ساذجا جدا
وفقيرا وجائعا
ويظنّ القصيدة تحميها عين الله
(3)
للخيول الخائفة
هي اعتادت الحرب
لكن ما أرعبها
أنها لم تثق بفرسانها الجدد
(4)
للحكّاء الذي لم يعد أحد يستمع إلى قصصه
وحين يذبلُ لسان الحكّاء
يموت
(5)
للنبتة الساحرة
في البيت المهجور
(6)
لأمٍّ وحدها
أمام حائطٍ عليه ست صور
زوج في السجن
ولدان في الثغر
بنتان شهيدتان
وأخ لا يعرف أحد أخباره
منذ سبعين عاما
(7)
لبيت مخلوع من جذوره
تفطس الذكريات على جدرانه
ولعبة البنت الصغيرة كذلك
(8)
لخيالات الأطفال النائمين دون كهرباء
يحلمون بإفطارٍ شهيٍّ
فقط، مجرد إفطار
يعوض نومهم دون عشاء
(9)
لوَحدةِ البلاد
وهي تمدّ يدها من تحت البحر
وتصرخُ
والبحرُ يضحكُ، والقادةُ أيضا
(10)
للمغني يبحث عن صوته
(11)
للعشائر المتناثرة
التي صارت بلادا
مصادفة
ونامت

قراءة في كتاب "غزة الصراخ والصمت" للأديبة "شوقية عروق منصور"
بقلم: عمر رمضان صبره
تعتبر الأدبية والكاتبة "شوقية عروق منصور" من الكاتبات المتميزات في فلسطين عامه وفلسطين 48 خاصة، فهي تكتب القصة القصيرة والمقالات النقدية والاجتماعية وقضايا المجتمع العربي، وهي زوجة المرحوم المعلم "تميم منصور" أحد قيادات المجتمع العربي في فلسطين 48، ولها مؤلفات عدة، وتتميز الكاتبة بمقالاتها النقدية والاجتماعية الهادفة، وهي قومية الهوى وناصرية الشغف، ولها عمود صحفي سابق بعنوان دبابيس، وتقول الكاتبة عبر إصدارها الجديد (غزة الصراخ والصمت): "ما بين 7 أكتوبر عام 2023 والسنوات التي هرولت بعدها كانت الحرب على عزة، تنزف وتقرأ صفحات التاريخ الذي سقط في أبجدية الثرثرة السياسية، وتنهدات الوجوه، والخوف، والجوع، والخيام، والدمار وأرقام الشهداء".
يعتبر هذا الكتاب صرخة إنسانية وصرخة وجع، وأنا اقرأ صفحات الكتاب تساقطت دموعي عشرات المرات من مرارات الوجع والحزن على غزة واهلها فهم اهلي وربعي، عشت مع الكتاب كما اعيش كل يوم كلماته اعيشها بروحي بكل الألم والمعاناة والقهر والعجز، اذكر من أصعب الأيام فترة انقطاع الاتصالات عن غزة كما كان القهر والعجز والخوف على الأهل لا يوصف.
كم حجم العجز الذي لا يمكن كتبته عن الطفولة المقهورة والموجعة في غزة فعجزنا لا يوصف وصرخاتنا لا تصل إلا إلى الله الواحد القهار وأنموذج "محمود عجور" أنموذج لكل اطفال غزة من أيتام ومقهورين ومطوعين كما في مقال محمود يصيح كيف سأعانقك (صفحة 107): "ولكن الطفل محمود عجور حالة قد تدفعك إلى بئر عميقة مظلمة، حين يقول لك هذا الطفل الذي بترت يداه، وبصوت حزين حزين صعقة ذهول اللحظة ودهشة الفراغ كيف سأعانق؟".
تقول الكاتبة في نص نثري آخر (صفحة 4): "تلك الحفر المستطيلة على مد النظر، قد تحسبها حفرا لزراعة الأشجار أو لإقامة أبنية، لكن تكتشف أنها قبور جماعية".
وتنتقل الكاتبة بنص نثري آخر (صفحة 9): "منظر يجعل الإنسان يقف أمام ذئاب التاريخ ويتساءل: ما علاقة الثأر بين الدبابة والدمي...؟".
وفي نص الحصان الذي يساوي الأمه العربية (صفحة 24) تقول الكاتبة: "صرح أحد ركاب (الكارة) أمام الشاشة الفضائية: والله هذا الحصان العجوز أفادنا أكثر من الأمّة العربية!".
وفي نص آخر حكايات من تحت الركام (صفحه 44) تعبّر الكاتبة عن شجون الوجع "وهناك الأم التي لم تعرف كيف تصف ابنها الذي وصل المستشفى، فأخذت تردد: (أبيض شعره كيرلي)، وهناك العروس التي وجدوا يدها وعرفها خطيبها من خاتمها، وهناك مدير المستشفى حسام ابو صفية الذي أصر على البقاء وبكى وهو يشيع ابنه، وهناك عشرات القصص التي تنتظر من يسجلها".
في غزة: يخرج من القهر الرقص والطناجر (صفحة 71) تقول: 'لقد أطلقت على تلك الطناجر طناجر القهر، وإذا ردد زياد الرحباني الجوع كافر، ففي غزة ورفح وخان يونس وباقي أجزاء القلب، الجوع تحول إلى خيانة إنسانية، وإلى قضية ستطارد التاريخ غدا، وكلنا نعلم أن التاريخ مهما كان قوادا، لا يستطيع إخفاء عهره طوال الوقت".
ختاما: يعتبر كتاب "غزة الصراخ والصمت" من الكتب التي كتبت وصدرت خلال حرب وإبادة غزة المستمرة حيث هو كتاب يتحدث عن معاناة غزة وشعبها وجرحها المفتوح، فغزة الكاشفة التي كشفت كذب العالم وإنسانية العالم الزائف، غزة القلب النابض التي تتحدى القهر وتتحدى المُجوَّعين، غزة القلب النابض وكاتبة التاريخ وكاشفة زيف المتآمرين والمتاجرين بدم غزة وأهلها.
رحم الله الشاعر النصراوي "فوزي الحكيم" الذي كلما تذمر وتأزم الوضع السياسي، يقول: "نحن في الزمن الترللي"!!.
صدر كتاب نصوص نثرية غزة الصراخ والصمت للأديب والكاتبة "شوقية عروق منصور" عن دار الوسط اليوم وشوقيات للإعلام والنشر طبعته الأولي 2025، وعدد صفحاته 115 صفحة.

"جبران خليل جبران".. شاعر الروح وفنان الكلمة الخالدة
بقلم: وسام زغبر (عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين)
يظل "جبران خليل جبران"، ذلك المبدع اللبناني الذي هاجر مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1895، رمزا خالدا للأدب العربي في المهجر، وأيقونة تجمع بين العمق الروحي والفن الراقي. منذ التحاقه بالمدارس المحلية، بدا واضحا أن جبران يحمل في داخله شغفا بالأدب والفنون، شغفا لم يزده الزمن إلا اتساعا وعمقا.
لقد استطاع "جبران" أن يترك بصمة لا تُمحى في مختلف المجالات التي أبدع فيها؛ فهو شاعر ورسام وكاتب وفيلسوف في آن واحد. أعماله الأدبية، التي تضم مؤلفات خالدة مثل "الموسيقى" و"التائه" و"النبي"، لم تقتصر على القراء العرب فحسب، بل تجاوزت الحدود واللغات، إذ تُرجمت أعماله إلى قرابة 110 لغة حول العالم، لتصل رسالته الروحية والفكرية إلى ملايين القراء من شتى الثقافات.
في "النبي"، يتجلى "جبران" كحكيم يسبر أغوار الإنسان، يقدم رؤى عن الحب، والحرية، والعدالة، والروحانية بأسلوب شاعري ينسج بين البساطة والعمق الفلسفي. أما في أعماله الأخرى مثل "التائه" و"الموسيقى"، فيستكشف الإنسان ومغامرات الروح في عالم معقد متشابك، ليطرح أسئلة حول الهوية، والمعنى، والجمال.
ما يجعل من "جبران" حالة فريدة في الأدب العربي والعالمي هو قدرته على الجمع بين التصوف والحداثة، بين الفن والروح، وبين الكلمة والصورة؛ فهو لم يكتب فحسب، بل رسم لوحات وكأن كل نص له لوحة، وكل لوحة لها قصة. إن إرثه الأدبي والفني يمثل جسرا بين الشرق والغرب، بين الماضي والحاضر، بين الفرد والمجتمع، ليظل مصدر إلهام لكل من يبحث عن المعنى والجمال في الحياة.
إن قراءة "جبران" اليوم ليست مجرد تجربة أدبية، بل رحلة روحية تثري النفس وتفتح آفاق الفكر، وتذكرنا بأن الفن والأدب قادران على تجاوز الزمان والمكان، وأن الكلمات حين تصنع بإحساس عميق وفكر متوقد، تصبح خالدة، كما كان "جبران"، خالدا بيننا.

رائحة الزينكو: نشأة المخيم الفلسطيني وأسباب القوة
بقلم: حسن حميد
تساءلت، وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من المجموعة القصصية الحديثة للأديب الفلسطيني "زياد أبو لبن"، الصادرة في عمان 2025، لماذا يعود الدكتور "زياد أبو لبن" إلى الوراء كثيرا ليرصد الحياة الفلسطينية في المنافي، وفي فترة تأسيس المخيمات تحديدا، والتحولات التي عرفتها، بعدما كرّت السنوات تباعا، وبعدما صارت الخيام الفلسطينية تراثا فلسطينيا؟ وبعدما صارت أحداث المخيمات، على اختلافها، حكايات تروى من أجل ذم الماضي الذي اتصف بقلة الحيلة، وضيق ذات اليد، والعجز الذي تعددت طبقاته، من العجز الجسدي، إلى العجز عن إيجاد الحلول والمخارج السريعة لأن حدث النكبة الفلسطينية عام 1948 كان فجائعيًّا وأليما وعاما لكل شيء.
عنوان المجموعة القصصية الجديدة للدكتور "زياد أبو لبن" هو (رائحة الزينكو)، وقصصها، تروي حياة الفلسطينيين في أحد مخيمات اللجوء الفلسطيني، هو مخيم (عين السلطان) الواقع في ضواحي مدينة أريحا، فتصور تفاصيل المغايرة التي عرفها الفلسطينيون المشردون من مدنهم وقراهم، ولجوئهم إلى أمكنة قفراء غير مسكونة من قبل، فالبيوت غدت خياما، والمدرسة غدت خيمة كبيرة، والمستوصف الطبي غدا خيمة، وإدارة المخيم غدت خيمة، ومركز توزيع الإعانات (الإعاشة) غدا خيمة، وقد ضاقت الحياة الاجتماعية على الناس، مثلما ضاقت الخيمة الواحدة على أفراد العائلة الواحدة، ومثلما ضاقت الدروب فغدت ممرات فاصلة وحسب بين الخيام، وقل كل شيء وضمر، حتى ألوان الخضرة قلت لأن الأشجار والنباتات غابت وفقدت، بعدما عاش بين الأشجار وداخل البيارات، وقلت المياه أيضا بعدما كانوا يعيشون على ضفاف نهر الأردن، وقرب بحيرة طبريا، وآبار القرى تروي الأرض والماشية، وكثرت الأسئلة وتعددت من أجل أن تنجلي النفوس لتصل إلى إجابات مقنعة لسؤال ثقيل: كيف حدث هذا؟ ولماذا حدث؟ وكيف نعيش؟
"زياد أبو لبن" الأديب، والباحث، والأستاذ الأكاديمي، يلتفت إلى الوراء، إلى حقبة السنوات المرة والقاسية والملأى بالعذاب التي تلت فاجعة النكبة (1948) لشعوره بأنها لم تستوف حقها من المعالجة، وإمعان النظر في تفاصيلها، ولاسيما صبر الناس وعذابهم ومعاناتهم تجاه حياة لا تطاق في مناخ صعب في مدينة أريحا، فالشتاء غامر في ويلاته، وبرده، ومطره، وهو شتاء متطلب الحاجيات من أجل اجتياز أيامه ولياليه الطويلة، والصيف هو الآخر شقاء ما بعده شقاء، فالحرارة تصل إلى درجات عالية تكاد تحرق الخيام فوق سكانها، والعمل تحت حرارة الشمس هو أشبه بالعمل في مستعمرات للعقاب، وقتل للأجساد، وساعاته هي شل للتفكير، وحشرات بعوضه جيش يترك وراءه أعراض مرض الملاريا الذي استولى على الخيام ليلا، فهد الأجساد ورماها في نوبات للمرض الموحش الذي لم يعرفه الناس في بيوتهم ومدنهم وقراهم من قبل.
يقف الدكتور "زياد أبو لبن" في قصصه (رائحة الزينكو) عند عتبات الصبر الأولى من حياة تشرد الفلسطينيين وعيشهم في الخيام، وعند المواجهات الأولى لآثار صدمة النكبة وأحداثها التي تفاعلت حتى غدت حزنا وبكاء وعجزا في ظروف صعبة وموجعة لأن وسائل محوها كانت مفقودة ونادرة، وهذا ما أصاب الأجساد بالهمود، وأصاب العقول بالحيرة، وكذلك وقف الدكتور زياد أبو لبن عند فساد الذوق، والسلوك، واضطراب الكلام، وارتباك الخطأ في هذه الفترة، ليقول لنا إن مفاعيل النكبة تتوالد شرورا وأسى وأحزانا ما دام أهل المخيمات عاجزين عن توفير الطعام، والأمن، وتحسين شروط الحياة، وأن تفكير الناس المشتت هو سبب التعارك والاشتباك بينهم على أصغر الأشياء، وأكثرها تفاهة، فالعراك اليومي على حنفيات الماء الشحيحة بين النساء هو نتيجة للأسئلة المحيرة التي لم تجد أجوبة، والانتظار الرجيم لأكياس الطحين أمام مركز الإعاشة، هو إهانة ومذلة تكبران مع الأيام، وطلب الطعام في مطعم المخيم (وهو خيمة أيضا)، وتجمهر الأطفال والصبية أمامه إهانة ومذلة لم تجدا بعد الممحاة الماحية لهما، والصياح والبكاء والأسئلة الشيطانية آنذاك، كلها كانت عصية على الطي والهمدان لأن الخيمة التي سميت بيتا ما كانت قادرة على حفظ الأسرار أو مواراتها، ولهذا كثرت مشاهد العراك بين الناس في الطرق، وفي الخيام، وعند بوابات المدرسة، و في باحة المستوصف، وداخل مركز الإعاشة، وفي إدارة المخيم، وعند حنفيات الماء، وفي سوق الحسبة، سوق الخضار والحبوب والأواني والأقمشة وحاجيات البيوت، وسوف تصير هذه الحالات من التعارك والاشتباك قصصا تروى داخل الخيام، وسوف تصير متاريس للغضب العالي ما بين شخص وآخر، وما بين عائلة وأخرى، وما بين رؤيا ورؤيا، حتى غدا المخيم أشبه بعش صغير سكانه الدبابير التي تحوّم، وتزن، وتتعارك لأن أفق الأمل لفه ضباب كثيف، ولأن الأسئلة عن المصير والمآل واجهتها تلال وجبال حالت دون وصولها إلى أجوبة مقنعة، فغدا الناس برميل بارود على وشك الانفجار لأتفه سبب أو تفصيل مهمل.
و"زياد أبو لبن" الأديب في مجموعته (رائحة الزينكو)، وهي مجموعته القصصية الخامسة، يستنطق المكان، وهو المخيم، لكي يبوح بكل أحزانه، وكي يستكمل طقوس بكائه لعل النفس تصفو بعد أن يغسلها الدمع، ولعل العقل يهدأ أو يستكين بعد أن يتخلص من أسئلته الحارقة، ويستنطق الزمن الباهت البارد الذي كان، لكي يقول للرواة لماذا حدثت النكبة، وما أسبابها، ولماذا خذلتنا قوتنا، وقد ظنناها صاحبة عافية ونشور، ولماذا كانت قيم الجيرة، وقيم التاريخ، ورابطة الدم، ورابطة العقيدة، واللغة الواحدة، والعيش المشترك في غياب مر، وقد ظننا أنها هي التراث والميراث والمعين المسعف عند كل سقطة لامة، وهي خزان القوة الموفور والمحروس، بالحفظ المصون، و وزياد أبو لبن، في قصصه القصيرة التي تميزت بركيزتين اثنتين هما الاقتصاد اللغوي، وسلاسة السرد، استنطق الحال الفلسطينية لتصوغ أسئلة جديدة مختلفة من أجل الوصول إلى إجابات جديدة تغيّر الحال وتبدلها، لأنّ الركون إلى اليأس والإحباط هو الآخر شكل بئيس من أشكال الارتماء الرخيص الموحش.
لقد أراد الدكتور "زياد أبو لبن" من خلال قصص (رائحة الزينكو) طي التفاصيل المعوقة للعيش المعافى ودفنها، والشروع بتفكير جديد لمواجهة زمن الخذلان، وانحناء المكان، والرضا الكذوب بكل شيء حتى لو كان محتشدا بالتفاهة والسقط.
ها هو في قصة (المفتاح الذي لا يفتح هنا) يتحدث عن مفتاح البيت الحجري، البيت الذي له بوابة خشبية، وعتبة، وقنطرة، وشرفة، وجدران، وسقف، ونوافذ، البيت الذي خرجت منه العائلة وليس معها سوى المفتاح الكبير الذي يعلق الآن على مسمار دق على عمود الخيمة، ليكون الناطق الرسمي باسم سكانها، واللوحة المعبرة عمّا يجيش في نفوسهم، فهو لا يعني الآن سوى شيء واحد هو العودة، وفتح باب البيت العزيز به، إنه قولة العودة التي يهجس بها سكان الخيام، مقابل ما يهجس به الأعداء كذبا، سوف ينسون! لكن الايام أثبتت أن الذاكرة الفلسطينية وقيدة جمر وأزيد.
وفي قصة (بطاقة الجوع) يصور أطفال المخيم الذي يحلمون بالذهاب إلى خيمة (مطعم المخيم) كي يعودوا بصحن شوربة، أو نصف تفاحة، أو نصف برتقالة، أو بالقليل من الأرز الأبيض الجاف، أطفال المخيم الذين يتراكضون سراعا بأحذية مقطعة، وثياب ممزقة، وأحلام صغيرة كي يعودوا إلى إخوتهم وأخواتهم لا استحوذت عليه من الطعام.
وفي قصة (عيد البقج) نرى مشهدا مسرحيا لتوزيع (بقج) الثياب الآتية عن طريق المنظمات الدولية، ودوي أخبارها في المخيم، وفرح الأطفال بها، وخروج الناس في اليوم التالي بالثياب الجديدة، وكأنهم كائنات غريبة، فلا شيء في هذه الثياب يناسبهم، لا مقاساتها، ولا ألوانها، ولكن لا بد من ارتدائها والتباهي بها.
وقصة (بركة الغولة) نرى غرق الأطفال في الماء المالح، لأنهم يريدون السباحة، لكن البركة هي بركة لرمي مخلفات الفوسفات، إنها أملاح كاوية لكن قولاتهم تتعالى والتفاخر: لا بد من السباحة، لذلك كانوا يغيبون في البركة مثل نجوم تهوي من أجل أن تنطفئ.
وقصة (رائحة البؤس) تبدي وصفا لمرحلة تحول المخيم من بيوت الخيام إلى بيوت الصفيح، ألواح الزينكو، التي تشبه الخيام في كل شيء فهي لا تحجب بردا ولا حرا، ولا أسرارا، فهي طبول من ألواح زينكو، ضاجة وهادرة، وإلى البعيد من البيوت، اصطفت كولبات صغيرة من ألواح الزينكو أيضا أعدت لقضاء الحاجة، وبدأ انتظار الناس أمامها من أجل الخلاص مما أهمهم وأغمهم.. انتظارا مذلا، فقد غدت هذه الكولبات الصغيرة فرصة للانفراد بالنفس، ومساءلتها، والشد من عزيمتها، أو الاعتذار لها للتقصير الشنيع بحقها.
نعم، هذه مجموعة قصصية ({ائحة الزينكو) للدكتور "زياد أبو لبن"، تدور حول نشأة المخيم الفلسطيني، وحالات الفقر، والنداءات المبحوحة المنادية على الحاجيات لتحضر من جهة، وهي أيضا نشاط العقل الفلسطيني من أجل تحولات ومغايرات جديدة داخل المخيم الفلسطيني من جهة أخرى، ليبني، رغم ضعف المقدرة، الإنسان الفلسطيني الجديد الذي تعلم في الخيمة ودرس، ليصير، في قابل الأيام، الطبيب والمهندس، والمفكر، والفنان، والشاعر، والروائي، والقائد الذي سينادي بالصوت العالي بالعودة، والشهيد الذي عبّد الدرب وجلا موحشاته، كيما تصير صورة الواقع أوضح، وقوة العقيدة أوفى، وروح العناد الوطني أكثر جهرا بأن المعاناة، وهي راعبة في كل شيء، كانت من أجل نهاية هذه العتمة/ النكبة، ومحوها بذراع شدود، وإرادة ملأى بالحسم والجزم، فقالت: لن ننسى!

تعويذة الشيطان: الحيوانات تأكل لحوم البشر
بقلم: د. سعيد محمد الكحلوت (أخصائي الصحة النفسية - غزة)
في وسط شارع فرعي، صباح يوم اكتسى بالرماد من شدة القصف، لمحت كلبًا بنّيًا متوسط البنية، كان ينبش في كومة قمامة وجدت لنفسها مكانا في منتصف طريق تلف جانبيه أكوام من ركام المباني والمنازل المقصوفة. شعر بي إذ اقتربت، فتوقف عن النبش ورفع رأسه، حدق فيّ طويلا.
واصلتُ السيرَ، وكلما اقتربت أكثر، كان الحيوان يركز معي أكثر، حتى تكشّرت ملامحه، واتسعت عيناه، ضاقت المسافة بينهما، برزت تجاعيد وجهه وأنّيابه، وأخذ يهمر ويزمجر.
حاولت أن أبدو ثابتا، متجاهلا التهديد الذي بدا واضحا، لكنه باغتني بهجوم مفاجئ، ولولا فضل الله أن ألهمني كي أتناول فورا سيخا من الحديد ظهر أمامي فجأة ولوّحت به في وجهه، لما أظنني اليوم أكتب هذه الشهادة.
وزادني حظا تدخّل أحد المارّين صدفة، تولّى الرجل رشق الكلب بالحجارة حتى فرّ بين الأزقة المدمّرة.
اقترب مني الرجل، هنأني بالسلامة، ثم قال بلهجة المجرّب العارف: "الكلاب بعد ما أكلت لحم الشهداء توحّشت وصارت مفترسة". هكذا ألقى الرجل هذا الحكم، دون أن ينتظر ردا. شكرته ومشيت في طريقي.
انتبهت، بعد مسافة ليست بالقصيرة، أنني ما زلت أحمل السيخ الحديد، وأن أنفاسي ما زالت مستثارة، وكذلك نبضات قلبي. ثم وجدتني غارقا في حكم الرجل: "الكلاب بعد ما أكلت لحم الشهداء استوحشت وصارت مفترسة".
في تقرير بإحدى نشرات الأخبار، كانت طفلة تتوسل إلى قطتها ألّا تأكلها إذا ما قُصف البيت، ونجت البسّة وسقطت صاحبتها. بدت الصغيرة جدية في توسلها، بينما القطة غارقة في البلادة، تمضغ قطعة من اللحم المُصنّع.
في مشهدٍ مُسرَّب، وقف الجنود مندهشين من فعل ثلاث كلاب تنهش بجثة أحد الضحايا المسجّاة قرب دبابتهم.
كانوا يتحدثون العبرية بكلمات لم أفهم مضمونها على نحو: "واو.. يا إلهي...".
أما أحد رجال الإطفاء، فقد رصد بهاتفه المحمول هجوما من القطط الجائعة على جثث طارت على بعد شارعين من قصف قريب؛ سبقت القطط فرق الانقاذ، كانت الجثث تحترق من جهة، ومن الجهة الأخرى تنهشها أنياب القطط. لقد دققت في المشهد ورأيت أن إحدى الجثث تتحرك.
آخر تلك الحوادث المرصودة كان منذ يومين فقط لجثة سيدة مسنة طيرها انفجار فسقطت أرضا في وسط شارع أخلته الحرب من سكانه. اقترب كلب من الجثة المسجاة ونال من راحة الموت في حركة جسد يفهم المشاهد منها أن الكلب اعتاد على أكل لحم البشر وأن هذه الجثة لم تكن الأولى في حياته كحيوان نقلته الحرب من تصنيف أليف إلى تصنيف مفترس.
لقد نُهش دمنا ونحن على قيد الحياة في غابة كلها حيوانات مفترسة.
أعرف عائلة استدلّت على مكان جثة والدها تحت الركام من خلال حركة الفئران الكبيرة - "ابن عرس" - التي كانت تدخل وتخرج من شقٍ في الأرض، وقد لاحظ الأهل وقتها آثار لحمٍ صغيرٍ عند مدخل فتحة صغيرة في ركام البيت المقصوف. نعم، كانت القوارض تنهش لحم والدهم.
الحيوانات جائعة والناس جائعة. والموت، تعويذة الشيطان التي أعدّها العالم كي ينهش العدم المزيد من لحمنا.
حين عدت إلى بيتي في آخر النهار، وضعت السيخ الحديدي جانب الباب، وجلست أتحسس موضع العضة التي لم تحدث.
أرخيت السمع... لا نباح، لا مواء، لا قصف. لكني كنت أعلم أن الوحوش ما عادت تسكن الغابة فقط، فقد صارت تعبر الشوارع مثلنا، تحكّ أكتافها بأكتافنا، وتجوع لجوعنا، وتلعق جراحنا بلسانٍ يدلق اللعاب على لحمنا.
في أفلام الرعب، هذا لا يحدث... لكنه هنا، وعلى الهواء مباشرة، يحدث. يحدث ويشهد عليه المسلمون والمسيحيون واليهود والهندوس والبوذيون والملحدون والكافرون في زمن القرية الصغيرة، ولا يحرك أحد من هؤلاء شيء أي شيء..

ثقل الحياة
بقلم: أنسام أوتيده
ثِقلُ الحياة يمُرُّ عبْرَ نحيبنا
حول التُخُومِ وفي الصُّدُور فأكمدا
ذلٌّ تَرَصَّدَ سَهمهُ أوجاعنا
مهد يذكّرنا، وباب أُبعدا
والروح في أوطاننا مجروحة
والقلب ذا يَبكي الأسى كم نُهِّدا
كُلُّ المَرارِ تَجَرَّعَتْ أكبادُنا
تلك الدماء كما السنا إذ أُلْحدا
أيَعودُ في النَّعماءِ تُرْبُ رُبوعنا
ما مِثلَ غَزَّةَ في الهَوى فتوحّدا
يا رمز عز في جراح كرامة
والأرض فيها جذرنا فتوسّدا
والأقحوان قد احتمى في صبرنا
والدمع منه بأرضنا يتصعّدا
أشجان ليل مظلم في موطني
كم كان وهج حياتنا متفردا

بقلم: نسمة الحرازين - غزة
يوميات نازحة
كنت قد كتبت مؤخرا لزميلة، في إطار تقرير يتناول معاناة النساء في دورات المياه خلال الحرب، خاصة الفتيات. كنت أستمع لتصريحاتهن وأدوّن، وقلبي يعتصر ألما. كنت أنفعل بالحزن والخجل، أبكي بصمت، ثم أواسي نفسي: "صحيح، أنا نازحة منذ السابع من أكتوبر… لكني على الأقل لم أتعرّض لهذا النوع من الإحراج.."
لم يخطر ببالي يوما أن أعيش تلك التجربة بنفسي. أن أذوق ذلك الذل، وأُهان في أكثر تفاصيل الحياة خصوصية.
أن تنزح داخل وطنك، بطريق يستغرق ساعتين في العادة، لكنها اليوم تستمر يوما كاملا، عبر صحراء جرداء لا ماء فيها ولا مرحاض…
أن تجبر نفسك على الامتناع عن الطعام والشراب، لا لأنك لا تملكهما، بل لأنك تخشى الحاجة إليهما، وتخجل من لحظة عجز لا تغفر.
لعن الله من تسبب في إذلالنا، ومن جرّدنا من أبسط حقوقنا… من جعل الكرامة عبئا، والماء حلما، والستر معاناة. لقد أصبح الألم مشتركا، والوجع جماعيا، لكنه لا يفقد مرارته...

إلا أنت!
بقلم: سمية وادي - غزة
إلا أنتَ..
إلا وجهَك.. إلا عطرَك..
إلا الجنةَ تسكنُ صدرَك..
إلا تسبيحَك وصلاتَك،
إلا أنفاسَك وحياتَك..
إلا أنت..
إلا التعويذةَ في دمِّك
إلا البعدَ ودمعةَ أمِّك
إلا تاريخَك وكيانَك..
إلا محرابَك وحصانَك
إلا أنتَ..
إلا حسرتَنا بشبابِك
إلا غصَّتنا بغيابِك
أرقيكَ حبيبي..
باللوزِ إذا عطشت روحك
بالليلِ إذا أغمض جرحُك..
بالنارِ إذا انطفأ القهرُ
بالقهرِ إذا انطفأ الجمرُ...!
بقلم: نجيّا محمود - غزة
أنا مش هحارب
أعيد قولها كل ليلة، وإصبعي تغتالها بجروح ودم لا ذنب لهم. أقولها كتحية للضعف الذي بقي فيَّ بعد كل الانهيارات، كتعويذة لا تمنع القصف ولا ترد الشظايا، لكنها تحفظ لي جلدا إنسانيا لم يمت بعد. لأحفظ ما تبقى من إنسانيتي، لا كضعف بل كقرار؛ قرار ألا أبدّل دمي بدمار جديد، وألا أُصبح صورة عكسية لما جُرّدنا منه.
كل دم على يدي يعلّمني أن الانتقام لا يعيد أحد، وأن الكراهية تلد وحوشا بدل إنقاذ. أمحو الدماء بيدي، وأردد.. أنا لست محاربة لأنني لا أملك سيفا ولا رغبة بالقتل، لست محاربة لأن في قلبي رهبة القتل، بل لأن في داخلي عقدة تؤكد: سأبقى إنسانا، حتى لو اقتُطِع مني كل شيء.
لست محاربة لأن قلبي جبان، بل لأنّني أرفض أن أُصبح سبب موت آخر. أريد أن أعيش، لا أن أُصنع بحجم آلامي آلام الآخرين.
بل لأنّي أقاوم كل يوم أن أصبح وحش نصفه خوف ونصفه جوع، أقاوم أن أبدل دمي بانتقام لا يعيد أحد.. لأنّني أريد أن أعيش، لا أن أصير سبب موت جديد.
أطياف
بقلم: تالا جودة - غزة
حائر
كصدى الأصوات في قلوب المهاجرين،
وسعادة قط ضائع برجوعه من المنفى،
وتعاسته حين لا يجد الديار!
ناضج
كحبة قمح انتَظرتْ أن تنضج كثيرا،
ثم وجدت نفسها في أكياس جماعية!
هادئ
كأمواج بحر تعرف كيف تثور جيدا،
لكنها فضلت الركود.
متفائل
كطفلة نازحة تحدث دميتها عن اللقاء الموعود
بديارها،
وأمها التي ذهبت ولن تعود!
حذر
كأول أيام الأسبوع،
وأول ساعة قبل النوم،
وأول لقاء مع السعادة!
منتظر
كالوعود السابقة،
والوعود الآتية،
كالمنتصف،
أو كل شيء مرهون بالصبر!
بسيط
كالطفل ينتظر في كل مرة إجابات مختلفة،
في حين أنه نفس السؤال!
سمار الوطن
بقلم: علاء عاشور
الكُلُّ كما يَعْتَقِدونَ
يَصْدَحونَ بالحَقِّ
وَهُم كُسالى
لِدَعْوَةِ الضَّمِيرِ
يَلْهَثونَ وَراءَ سَرابٍ
وَيُباغِتونَ بِلَهِيبِ
شَمْسِ تَمُّوزَ
لَمْ يَزَلْ بَيْنَهُم
مُقَلِّدٌ بَديعٌ
يَرِثُ أَبْناءَ البُهْتانِ
وَدَعاوى الزُّورِ،
وفي بَلَدي بَضْعُ
مَرايا تَتَألَّقُ
لِشابٍّ مَسْحورٍ
فَتَنَ جيلا مِنْ جَميلاتِ
الوُرودِ
أُحِبُّ سَمَارا لا يَفْنى
إلّا على مَوائِدِ حُبِّ الوَطَنِ
في أَرْجاءِ النُّورِ السَّاطِعِ
في خَبايا البُلورِ
لَمْ يَعْرِفْ طَعْما لِلنَّوْمِ إلّا
في أَحْضانِها يَطْلُبُ
طَعاما مِنَ الجَنَّةِ
وَشَرابا مِنَ التُّوتِ
يُحِبُّها كما يُحِبُّ وَطَنَهُ
وَهَكَذا يَظُنُّ الأُصولَ
في جُزْيئاتِ اللَّوْحِ
المَحْفوظِ في القُلوبِ.
* *
على عَتَبَةِ مَنْزِلِنا يُشاهِدُ
ظِلَّها المُتَأَرْجِحَ مِنْ
هَوْلِ الحُبِّ المَجْنونِ
بَيْنَ فارِقِ عُمُرٍ أَكْسَبَها
إثارةَ السِّنينِ
وَخِبْرَةَ العاشِقينَ
وَدِرايَة بِأَحْوالِ وَطَنٍ
مِنْ جَحيمِ النّارِ
أَنْقِذوهُ
فَأَيْنَ تَجْري يا صاحِبَ
الحانوتِ...
* *
يَمْرَحُ وَيَسْرَحُ بِجَمالِها
وَسَمَارِها الفاتِنِ
وَظَنَّ أَنَّهُ مَلَكَ الحُورِ
بَلْ أَجْمَلُ مِنْ مَلَكٍ
وَفَيْضُ النُّورِ
شاهَدَ في حُبِّها
وَطَنا مُتْعَبا مِنْ هَوْلِ
الشَّرِّ
وَهُروبِ نَدَى السُّرورِ
لَكِنَّهُ أَوْقَدَ نارا يَغْمُرُها
بِدِفْءٍ وَحَنانٍ لَها وَلِوَطَنِهِ
المَكْلومِ...