2025.11.11
\ ثقافة

"مخالب الكاتب" لأمين الزاوي.. بيان الوجع الإبداعي وفضيحة الصمت


الأيام نيوز
10 نوفمبر 2025

يأتي كتاب "مخالب الكاتب" للروائي والمفكر الجزائري أمين الزاوي كصرخة فكرية مكتوبة بمداد الوعي الموجوع، نصّ يتقد بالأسئلة قبل أن يُورّط نفسه في الأجوبة، ويضع القارئ في مواجهة قسوة الكتابة بوصفها فعلًا وجوديًا قبل أن تكون مهنة أو شغفًا جماليًا. في هذا العمل، يتحول الحبر إلى جرح مفتوح، والكتابة إلى مخالب تُخدش بها الذاكرة والجسد والسلطة والمجتمع، في محاولة لإعادة تعريف معنى أن تكون كاتبًا في زمنٍ يستهلك اللغة كما يستهلك الأجساد.

الكتاب ليس تنظيرًا أدبيًا بقدر ما هو تأمل في مصير الكلمة وسط عالم تزداد فيه الرقابة وقسوة المحيط الاجتماعي والسياسي. إنه نصّ من فئة تلك الكتابات التي تخرج من بين أنياب التجربة، لا من مختبرات التنظير. فكل صفحة فيه تبدو كأنها اعترافٌ على الورق، أو استعادة لمعركة سرّية خاضها أمين الزاوي ضد ذاته وضد محيطه وضد جدران الصمت التي تحاصر المثقف العربي المعاصر.

في "مخالب الكاتب" يتجسد الوعي الحاد بحدود الحرية وبحدود الجسد أيضًا، فالقلم ليس أداة تزيينٍ للواقع، بل سلاحٌ بحدّين: أحدهما يُشرّح القبح الاجتماعي والآخر يعود ليجرح صاحبه. هنا تتحول الكتابة إلى فعلٍ مؤلمٍ يشبه الوشم أو الجرح الطوعي، حيث تُسكب الذات على الورق كما تُسكب الدماء في طقسٍ تطهيريّ، يوازن بين الألم واليقين.

إن ما يفعله الزاوي في هذا العمل هو إعادة بناء العلاقة الملتبسة بين الكاتب وواقعه. الكاتب، كما يقدّمه النص، ليس نبيًّا ولا ضحيةً، بل كائنٌ هشّ يُصارع بالكلمات في حلبةٍ لا تعترف بالنبل ولا بالنوايا الطيبة. والكتابة عنده ليست ملاذًا بل اختبار مستمر للقدرة على القول في وجه الخوف، على ممارسة الحرية في أكثر صورها خطورة: حرية التسمية. فمن يكتب - كما يلمّح الزاوي - يغامر بأن يُسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية، وبأن يكشف المستور الذي يحرص المجتمع والدين على إخفائه خلف ستائر المقدس والعادة.

الكتاب، في بنيته الفكرية، يقوم على فكرة أن الكتابة جسدٌ آخر للكاتب. فالحبر هو الامتداد الحسي للجلد، والمخالب هي رمزيةٌ مزدوجة، هي القوة التي تحمي الإبداع، وهي الأداة التي تدمّره في الوقت نفسه. إنها استعارة كبرى عن التناقض الداخلي في تجربة الإبداع: بين الرغبة في الانطلاق نحو الحرية، والخوف من العزلة والمحو. وبهذا، يمكن قراءة "مخالب الكاتب" كنوعٍ من البيان الجمالي ضدّ التطبيع مع الرداءة وضدّ ترويض الكلمة.

من الناحية الجمالية، يعتمد الزاوي على لغةٍ مشحونةٍ بالتوتر والرمزية، تجمع بين الشاعرية والفكر، بين الجملة المكثّفة والمشهد التأملي. الجمل فيه قصيرة، قاطعة، كأنها شظايا فكرية تتطاير من قلب المعركة. ولا يسعى المؤلف إلى بناء خطابٍ متماسكٍ بالمعنى الأكاديمي، بل يكتب في شكل مقاطع حرة تتوالد من بعضها مثل نثار الأسئلة: ما معنى أن تكتب؟ لمن تكتب؟ ضدّ من تكتب؟ ومتى يتحول الكاتب إلى سجين كلماته؟

ورغم أن الكتاب يُقدَّم في ثوب "مقال فكري"، إلا أنه يقترب في جوهره من الاعتراف الأدبي، حيث تتجاور التجربة الشخصية مع التأمل الفلسفي، ويتحول كل فصلٍ إلى مرآةٍ تُمكِّن القارئ من رؤية نفسه داخل النص. فالقضية ليست الكاتب وحده، بل الكتابة العربية برمّتها، بما تعانيه من رقابةٍ ذاتيةٍ قبل أن تكون خارجية، ومن هشاشة العلاقة بين المثقف والجمهور، ومن استلابٍ لغويّ يجعل الكاتب كمن ينحت في صخرٍ من سوء الفهم.

ومن المثير في "مخالب الكاتب" أن الزاوي لا يكتفي بتأمل معاناة المبدع، بل يذهب إلى نقد منظومة النشر والإعلام التي تحوّلت إلى سلطةٍ مضادة للإبداع، تمارس التهميش والتصنيف والاحتواء، فيُصبح الكاتب مجبرًا على المساومة من أجل البقاء. إنه كتاب يفضح منطق السوق الذي يبتلع الأدب، ويحوّله من فعل حريةٍ إلى منتجٍ ثقافي قابلٍ للتسويق. في هذا السياق، يلمح القارئ خيطًا من المرارة في نبرة النص، مرارة المثقف الذي يرى في تهافت الجوائز والمهرجانات موتًا بطيئًا للكتابة الحرة.

ومن أهم مستويات القراءة في هذا العمل هو البعد الأنطولوجي للكتابة، فالنص لا يتحدث عن الأدب كفنٍّ جمالي، بل كحالة وجودية يعيشها الكاتب لحظة بلحظة. الكتابة هنا تُشبَّه بالحبّ والجنون والتصوّف، لأنها تستهلك الجسد وتُفني الذات في سبيل اكتمال لحظة الخلق. وبهذا المعنى، فإن "مخالب الكاتب" كتابٌ في ميتافيزيقا الإبداع، يربط بين اللذة والألم، بين الرغبة والمعرفة، ويجعل من القلم معادلًا رمزيًا للغريزة التي تكتب لتعيش وتعيش لتكتب.

الجانب الآخر الذي يثير الانتباه هو الطريقة التي يُعرّي بها الزاوي الازدواجية الأخلاقية في المجتمعات العربية تجاه الكاتب. فهو يُحتفى به ما دام لا يقول الحقيقة كاملة، ويُقصى حين يجرؤ على لمس المسكوت عنه. ومن هنا يتخذ العنوان بعده الرمزي الأقصى: "المخالب" ليست فقط سلاح الكاتب، بل أيضًا ما يُجرّحه به المجتمع كلما حاول الخروج عن النسق. فكل مبدعٍ حرٍّ محكوم عليه بالمنفى الرمزي داخل وطنه، بالاتهام حين يكتب، وبالنسيان حين يصمت.

يتخلل الكتاب أيضًا بعدٌ جمالي في فهم الكتابة كفعل مقاومة، لا سياسية بالضرورة، بل أنطولوجية ضدّ العدم. فالكتابة، كما يصورها الزاوي، هي الطريقة الوحيدة لمواجهة الفناء، هي سلاح الهشّ في وجه القهر، وصوت من لا صوت له. ولعل هذه الفلسفة هي ما يجعل "مخالب الكاتب" أقرب إلى وصيةٍ فكريةٍ تُكتب في زمنٍ يُختزل فيه الكاتب إلى مؤثرٍ رقميٍّ أو نجمٍ موسميٍّ على هامش العالم.

في النهاية، لا يقدّم أمين الزاوي حلولًا، بل يترك القارئ في مواجهة المرآة نفسها التي واجه بها ذاته. إنه يُعيد تعريف الكتابة بوصفها لعنةً ومجدًا في آنٍ واحد، ويُذكّرنا بأن الكاتب الحقيقي لا يكتب لينجو، بل ليشهد، ليجرّب، ليخدش السطح الساكن للحقيقة. فالمخالب التي يتحدث عنها ليست رمزية فحسب، بل واقعية: إنها أدوات الحفر في الذاكرة، والخدش في جلد الزيف، والتمسك بالحق في الحلم وسط الخراب.

هكذا، يخرج "مخالب الكاتب" من حدود المقالة النقدية إلى فضاء البيان الأدبي المفتوح، ويعيد الاعتبار لفعل الكتابة كأخطر أنواع الوجود. إنه كتابٌ يكتبه الألم وتوقّعه التجربة، وتقرؤه الدهشة. وفي زمنٍ تتآكل فيه قيمة الكلمة تحت ضجيج الصورة، يأتي هذا العمل ليذكّرنا بأن الكاتب الحقيقي لا يُربَّت على كتفه، بل يُخاف منه، لأن في قلمه مخالب لا تُهادن أحدًا.

المعلومات الببليوغرافية

- عنوان الكتاب: مخالب الكاتب 

- نوع الكتاب: مقال فكري / تأملات فلسفية في فعل الكتابة 

- دار النشر: منشورات البرزخ 

- سنة الإصدار: 2023 

- رقم الطبعة: الأولى 

- عدد الصفحات: 160 صفحة تقريبا 

- حجم الكتاب: متوسط

- عدد الفصول أو الأجزاء: غير مقسم تقليديًا، بل يتكون من مقاطع فكرية متوالدة 

- صورة الغلاف: تصميم رمزي يتضمن يدًا ممسكة بقلمٍ يشبه المخلب (المصمم غير مذكور)

نبذة عن الكتاب

"مخالب الكاتب" هو بيانٌ فكريٌّ حادٌّ يكتبه أمين الزاوي بلغةٍ مشحونةٍ بالألم والتأمل، حيث تتحول الكتابة إلى فعلٍ وجوديٍّ لا يخلو من الجرح. لا يسعى المؤلف إلى تقديم تنظير أدبي، بل يفتح جراح الكلمة في زمنٍ تزداد فيه الرقابة وتُستهلك فيه اللغة كما تُستهلك الأجساد.

- موضوع الكتاب: الكتابة كفعل مقاومة أنطولوجي، لا مجرد ممارسة جمالية 

- أهداف المؤلف: إعادة تعريف علاقة الكاتب بالحرية، بالجسد، وبالسلطة 

- الفئة المستهدفة: المثقفون، الكتّاب، القراء المهتمون بفلسفة الإبداع 

- القضايا المطروحة: الرقابة، هشاشة المثقف، استلاب اللغة، تسليع الأدب، ازدواجية المجتمع تجاه الكاتب

نبذة عن الكاتب

- الاسم الكامل: أمين الزاوي 

- تاريخ الميلاد: 1956، الجزائر 

- التخصص: روائي ومفكر، أستاذ جامعي في الأدب الفرنسي 

- أهم أعماله: الاعترافات، الحلقات السرية، الولاعة، فقه الفساد 

- موقعه الأدبي: أحد أبرز الأصوات النقدية في الجزائر والعالم العربي، يجمع بين الرواية والفكر، ويكتب باللغتين العربية والفرنسية

الآراء المتداولة حول الكتاب

- نقديًا: اعتُبر الكتاب بيانًا وجوديًا أكثر منه مقالًا فكريًا، وقد أشاد به النقاد

- قرائيًا: لقي تفاعلًا واسعًا على منصات القراءة، خاصة بين الكتّاب الشباب الذين وجدوا فيه مرآةً لمعاناتهم. 

- تعليق شخصي: الكتاب لا يُقرأ كتحليل، بل يُعاش كصرخة. إنه نصٌّ يجرح ويُطهّر، ويعيد الاعتبار لفعل الكتابة كأخطر أنواع الوجود.

حمزة حساني