إدارة الثروة قد تكون أصعب من تكوينها، والغنى – إن لم يُحسن تدبيره – قد يتحوّل من نعمة إلى عبء. هذا هو الدرس الذي تطرحه تجربة النرويج بحدة متزايدة اليوم، في وقت تحوّلت فيه الدولة التي تُعد من الأغنى عالميًا إلى ساحة نقاش داخلي حول أثر الثروة على الطموح، الإنتاجية، والسياسات العامة.
رغم استقرارها المالي ورفاهها الاجتماعي، بدأت نذر أزمة تطفو على السطح: بنية تحتية متضخمة، نظام ضريبي خانق، تعليم متراجع، وهروب لرؤوس الأموال، وكلها مؤشرات تضع علامة استفهام كبرى: هل يمكن أن تكون الثروة سببًا في التراجع؟
النفط الذي غيّر كل شيء
في عام 1969، اكتشفت شركة "فيليبس بتروليوم" حقلًا نفطيًا ضخمًا في الجرف القاري النرويجي. شكل هذا الاكتشاف نقطة تحول تاريخية، نقلت النرويج من اقتصاد قائم على الصيد والزراعة إلى أحد أغنى اقتصادات العالم. ومن عائدات هذا المورد، أنشأت الدولة صندوقًا سياديًا بات اليوم الأكبر عالميًا، بأصول تقدر بـ2 تريليون دولار – ما يعادل 340 ألف دولار لكل مواطن.لكن هذه الوفرة لم تأتِ دون تكلفة باهظة على المدى البعيد.
كتاب صادم يفتح النار: هل أغنانا النفط أكثر من اللازم؟
في مطلع 2025، أشعل كتاب بعنوان "الدولة التي أصبحت غنية أكثر من اللازم" الجدل في النرويج، بعد أن حقق مبيعات ضخمة تجاوزت 56 ألف نسخة. المؤلف مارتن بيك هولته، وهو مستشار اقتصادي سابق، طرح فيه رؤية غير تقليدية: الثروة النفطية، بدل أن تدفع بالنرويج نحو الريادة، جعلتها "أمة بلا طموح"، تدور في حلقة من الاعتماد المفرط على الصندوق السيادي والإنفاق السهل.
أموال كثيرة.. نتائج ضعيفة
يشير هولته إلى أن وفرة المال خلقت نوعًا من التراخي العام: مشاريع حكومية تتجاوز ميزانياتها بأشواط، استثمارات في احتجاز الكربون دون مردود، ونظام ضريبي يعاقب الناجحين بدلًا من أن يحفز الابتكار. ويضيف: "بدل أن تجذب المواهب، أصبحت النرويج تطردها"، في إشارة إلى تصاعد هجرة الأثرياء.
التعليم والضمان المفرط: رفاهية مهدّدة
رغم أن الدولة تنفق 20 ألف دولار سنويًا على كل طالب، تراجعت نتائج التلاميذ في العلوم والرياضيات خلال السنوات الأخيرة. كما أن النظام الصحي والتأمينات الاجتماعية – رغم قوته – بات مكلفًا بشكل يهدد استدامته. يكفي أن نذكر أن متوسط الإجازات المرضية للفرد النرويجي بلغ 27.5 يومًا سنويًا، مع راتب مضمون، ما كلّف الدولة ما يعادل 8% من الناتج المحلي.
انتعاش مؤقت في قطاع الطاقة
الحرب في أوكرانيا أعادت إنعاش صادرات الغاز، ما رفع حصة النفط والغاز إلى 21% من الناتج المحلي، ووفر 200 ألف وظيفة. لكن هذا الانتعاش يبدو مؤقتًا في ظل التحول العالمي نحو الطاقات المتجددة، وهو ما يهدد مصدر الدخل الرئيسي للبلاد.
هل تحققت نبوءة "المرض الهولندي"؟
يحذّر خبراء الاقتصاد من إصابة النرويج بنسخة "هادئة" من ما يُعرف بـ"المرض الهولندي"، حيث تؤدي الثروات الطبيعية إلى ارتفاع قيمة العملة، وتراجع تنافسية القطاعات الأخرى. ورغم أن الصندوق السيادي بُني أصلاً لتجنب هذا المصير، فإن الحكومة باتت تعتمد على سحب ما يعادل 20% من ميزانيتها منه سنويًا.
إصلاح أم استمرار؟
في ختام كتابه، يقترح هولته إصلاحات شاملة: ضبط السحب من الصندوق، تقليص الضرائب على الريادة، وتخفيض الإنفاق الحكومي المفرط. لكن التحدي الأكبر يبقى سياسيًا واجتماعيًا: هل يقبل مجتمع تعوّد على الرفاه، بالتخلي عن جزء من مكتسباته لصالح مستقبل أكثر استدامة؟
النموذج النرويجي، الذي لطالما قُدّم كقصة نجاح، بات اليوم مرشحًا لأن يكون أيضًا قصة تحذير. فالثراء، كما يبدو، لا يُقاس فقط بما في الحسابات، بل بكيفية إدارة تلك الأموال... وهل تُثمر تقدمًا حقيقيًا، أم مجرد وهم استقرار آيل للتآكل

