يمثل السودان بحكم موقعه الجغرافي وتاريخه السياسي واحدًا من أكثر الملفات تعقيدًا في أجندة القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، فهذا البلد الذي يتوسط إفريقيا ويشكّل جسرًا بريًا بين شمالها وعمقها جنوب الصحراء، يُطل في الوقت ذاته على البحر الأحمر، أحد أكثر الممّرات المائية حساسية في العالم، حيث تمرّ عبره خطوط التجارة الدولية وإمدادات الطاقة التي تهم الاقتصادات الغربية والشرقية على حد سواء.
إن موقع السودان، المتشابك مع سبع دول إفريقية واتصاله مباشرة بمسارات الهجرة غير النظامية وتدفق اللاجئين، جعله نقطة التقاء مصالح أمنية واقتصادية وسياسية، وجعل حضوره في الحسابات الأميركية يتجاوز البعد الثنائي إلى ما هو استراتيجي يرتبط بالأمن البحري، ومكافحة الإرهاب، وموازين القوى الدولية في القارة السمراء.
العلاقة بين الخرطوم وواشنطن لم تكن يومًا مستقرة، إذ انتقلت من محاولات استمالة في حقبة الحرب الباردة لاحتواء النفوذ السوفيتي، إلى عقوبات وعزلة بعد إدراج السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، مرورًا بمرحلة التعاون الأمني الحذر مطلع الألفية، قبل أن تشهد انفتاحا نسبيا بعد سقوط نظام عمر البشير، غير أن التحولات الداخلية العاصفة التي شهدها السودان، جعلته من جديد مصدر قلق واهتمام في آن واحد بالنسبة للولايات المتحدة.
في هذا السياق، يكتسي الاجتماع بين الولايات المتحدة والفريق عبد الفتاح البرهان في سويسرا أهمية مضاعفة. فهو ليس مجرد لقاء دبلوماسي عابر، بل يعكس حسابات استراتيجية أوسع تتعلق بمسار التحالفات التي قد تنخرط فيها الخرطوم.
ومن منظور واشنطن، أيّ تقارب سوداني مع روسيا، خاصة فيما يتعلق بمشاريع القواعد البحرية على سواحل بورتسودان، يمثّل تهديدًا مباشرًا لمصالحها. وتزداد المخاوف بتمدد الاستثمارات الصينية في إطار مشروع "الحزام والطريق"، أو إمكانية عودة العلاقة مع إيران، أو الانفتاح على قوى إقليمية ذات أجندات مغايرة للرؤية الأميركية، ما قد يُحوّل السودان إلى نقطة ارتكاز لخصومها في منطقة بالغة الحساسية.
وبالتالي، قراءة لقاء سويسرا لا تنفصل عن مشهد الصراع الدولي على إفريقيا والبحر الأحمر، حيث يسعى كل طرف لترسيخ نفوذه وضمان حصّته من الموارد والممرّات الاستراتيجية.
بالنسبة للولايات المتحدة، يُشكّل السودان اختبارًا لقدرتها على موازنة أدوات الضغط والدبلوماسية، وضبط تحولات بلد يظل موقعه الجيوسياسي عاملًا حاسمًا في تحديد مسار التوازنات الإقليمية والدولية.
فما الذي يجعل السودان، بموقعه الجيوسياسي المتفرد على البحر الأحمر وامتداده نحو القرن الأفريقي وحوض النيل، محورًا دائمًا في الحسابات الأميركية؟ وهل يعكس اللقاء الأخير محاولة واشنطن استباق تشكّل تحالفات جديدة قد تُقصيها من المعادلة، أم أنه مجرد مهادنة لواقع ميداني وسياسي لم يعد بالإمكان تجاهله؟
وفي تصريح لـ" الأيام نيوز" أكدت الباحثة الإماراتية في الشأن الأفريقي أمينة العريمي أنّ اللقاء العاجل الذي طلبته الولايات المتحدة مع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان في سويسرا لا يمكن النظر إليه بمعزل عن جملة من المعطيات الميدانية والسياسية والاستراتيجية التي تعصف بالملف السوداني. وأوضحت أن فهم الموقف الأميركي يتطلب التمييز بين زاويتين تتبنى من خلالهما واشنطن التعامل مع الخرطوم: زاوية مخفية وأخرى ظاهرة.
وتشير العريمي إلى التطورات الميدانية الأخيرة في شمال كردفان، حيث نجح الجيش السوداني في بسط سيطرته على بعض المناطق وتحييد قادة بارزين من مليشيا الدعم السريع متعددة الجنسيات، إضافة إلى مرتزقة قدموا من خارج السودان.
ووفقها "هذه التطورات تجعل من فك حصار الفاشر مسألة وشيكة، ما يعني أن عودة إقليم دارفور كاملاً لحكم الدولة السودانية باتت مسألة وقت، وهو ما يمثل في نظرها فشلًا لمشروع التقسيم الذي حاولت قوى خارجية فرضه.
وبخصوص الزاوية الظاهرة، فترتبط بفشل الرهان الدولي على سيطرة مليشيا الدعم السريع على الحكم، الأمر الذي دفع واشنطن إلى محاولة الخروج من حالة المراوغة السياسية التي لازمت دبلوماسيتها في السودان منذ أفريل/نيسان 2023.
وبحسب العريمي "واشنطن لا ترغب بحكم مدني حقيقي شأنها شأن باقي القوى المنخرطة في الملف السوداني، لكنها بالمقابل تدرك أن الظهور بصورة مناقضة للإرادة الشعبية أمر مكلف استراتيجيًا، لأن معاداة الشعوب هي أقصر الطرق لفقدان الهيمنة في إفريقيا.
وتضيف العريمي أن اللقاء الأميركي بالبرهان جاء لسببين رئيسيين: محاولة إرباك المشهد الداخلي السوداني الذي يسير بسرعة وثبات لصالح الدولة الوطنية، في وقت كانت فيه الإرادة الدولية ـ وفي مقدمتها واشنطن ـ تراهن على سقوط الفاشر بيد مليشيا الدعم السريع لفرض خارطة نفوذ جديدة في القرن الإفريقي وجنوب وادي النيل. أما السبب الثاني يتمثل في مهادنة الشارع السوداني الذي انحاز بوضوح للقيادة الوطنية ومؤسساتها الشرعية.
وترى أن الإرادة الدولية، رغم دعمها الضمني لمليشيا الدعم السريع، لا تستطيع الاعتراف بها علنًا، لأنها تدرك أن ذلك سيقود إلى عواقب وخيمة ليست مستعدة لتحمل كلفتها السياسية والأمنية. ولهذا تلجأ إلى المماطلة المغلفة بالمهادنة لتجنب استفزاز الشارع السوداني الذي بات أكثر وعيًا سياسيًا بعد أحداث 15 أبريل/نيسان 2023، إدراكًا منها أن أي مواجهة مباشرة مع الإرادة الشعبية قد تعيد السودان إلى مربع ما قبل 2019، وهو سيناريو ترفضه واشنطن.
وانتقلت العريمي للحديث عن علاقات السودان مع القوى الدولية والإقليمية المنافسة للولايات المتحدة، مشيرة إلى أن واشنطن تدرك خطورة هذه العلاقات على مصالحها الاستراتيجية. وقالت إن من أبرز ميزات الدبلوماسية الأميركية في أفريقيا قدرتها على التفريق بين "المحاور الندية" التي تُجبرها على تقاسم الدور معها بعد أن عجزت عن تقاسم الرؤى، وبين "الأدوات" التي تُمنح أدوارًا محدودة سرعان ما تنتهي بتغير الأوضاع الدولية. وفي هذا السياق، ترى أن علاقات الخرطوم مع موسكو وبكين، وكذلك مع قوى إقليمية مثل تركيا وإيران، تنذر بتشكل محاور جديدة لا تنسجم مع الرؤية الأميركية.
وحول أهداف واشنطن من المباحثات، أكدت العريمي أنّ واشنطن تسعى إلى إعادة فرض التأثير على القرار السياسي والعسكري في السودان، خصوصًا بعد رفض الكونغرس الأميركي قرار نزع الشرعية عن الحكومة السودانية. ورأت أن هذا التوجه لا ينفصل عن رغبة المجتمع الدولي في إجهاض مبدأ "الحلول الأفريقية للأزمات الأفريقية" وتقويض ما تبقى من مصداقية المؤسسات الإقليمية في القارة. وأضافت أن واشنطن تسعى من خلال ذلك إلى إبقاء حالة "فصل الانتماء" بين المكونات الأفريقية قائمة، لعرقلة الوعي السياسي المتنامي الذي بدأت القارة تشهده منذ عام 2020.

الباحثة الإماراتية في الشأن الأفريقي أمينة العريمي
وتشير العريمي إلى أن السودانيين باتوا يُدركون أنّ الأزمة بدأت واستمرت وربما ستنتهي بقرار أميركي، إلاّ إذا واصلت القيادة السودانية استراتيجيتها القائمة على رفض أي تفاوض لا يؤدي إلى إنهاء مليشيا الدعم السريع ونزع سلاحها بشكل كامل. وبرأيها، فإن تمسك القيادة السودانية بهذا المسار أثبت نجاحه منذ أغسطس/أوت الماضي، ما يعكس قدرة بعض النخب السودانية على إصلاح الخلل من الداخل دون الحاجة لمظلة الخارج أو خيار السلاح لمواجهة الدولة.
وتعتقد النعيمي بشأن تأثير هذه التحركات على التوازنات الإقليمية في القرن الإفريقي وشمال شرق إفريقيا، أن ملامح توازنات جديدة تلوح في الأفق. لأنّ الأطراف التي راهنت على الدعم السريع بدأت تتراجع بعد أن أدركت كلفة الرهان ومخاطره.
وتشدد على أن انتصار الجيش السوداني ستكون له انعكاسات استراتيجية على دول الجوار التي تدرك هشاشة مؤسساتها الوطنية أمام أزمات مشابهة، وهو ما يعني أن ميزان قوى جديد بدأ يتشكل في المنطقة، قائم على العقيدة العسكرية الوطنية المستقلة أكثر من اعتماده على حجم العتاد العسكري.
واعتبرت أنّ التقارب السوداني مع قوى دولية منافسة لواشنطن بات واقعا بعد فشل الدعم السريع في السيطرة على الحكم، ولا تتوقع ردود فعل قوّية بشأنه لاقتناع تلك الأطراف بعدم استحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
وفي ختام حديثها، أكدت النعيمي أن اللقاء بين واشنطن والبرهان يعكس إدراكًا أميركيًا متزايدًا بأن السودان يفرض واقعًا جديدًا في معادلة القرن الإفريقي، يقوم على توازنات استراتيجية تعيد رسم أدوار الفاعلين الدوليين والإقليميين في المنطقة.
وفي السياق ذاته، قال الدكتور السعودي عبد الخميس لـ"الأيام نيوز" إن "زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان إلى موسكو تحمل أبعادًا لافتة، خصوصًا في توقيتها وحمولتها السياسية."
وأضاف: " الزيارة تأتي برعاية سعودية غير مباشرة، وتتقاطع مع 3 مسارات أساسية للرياض."

ووفق عبد العزيز خميس يرتبط المسار الأول بمساعي السعودية لتثبيت أمن البحر الأحمر عبر الأطر الإقليمية التي تقودها، وعلى رأسها مجلس دول البحر الأحمر وخليج عدن الذي يتخذ من الرياض مقرًا له. وبذلك، تبقى المملكة "الميسّر" الإقليمي لأي ترتيبات تخص هذا الممر الاستراتيجي، حتى في حال ناقشت الخرطوم مع موسكو مسألة القواعد أو اللوجستيات البحرية.
وبحسب المتحدث "يتمثل المسار الثاني في إبقاء خيوط الوساطة السعودية في الحرب السودانية قائمة، بعد مسار جدة 2023–2024، بحيث تضمن الرياض استمرار تأثيرها على القرارات الخارجية للخرطوم حتى في حال تعثّر جولات التفاوض.
ويتمحور المسار الثالث حول موازنة التحرك الروسي نحو السواحل السودانية بالتأكيد على أنّ أمن البحر الأحمر لا يمكن أن يُحسم بثنائية (روسيا–الخرطوم)، بل من خلال معادلة إقليمية أوسع تقودها العواصم العربية المُطلة عليه.
ورأى عبد الخميس أنّ "زيارة البرهان إلى موسكو لا تنفصل عن هذا الإطار، إذ تسعى الرياض إلى إدارة التحركات الروسية بما يحافظ على التوازن الإقليمي ويمنع أي طرف خارجي من الهيمنة على ترتيبات البحر الأحمر