يشكل قرار الاتحاد الأوروبي حظر الرحلات الجوية القادمة من تنزانيا، محطة جديدة في مسار التوترات الخفية بين بروكسل والاقتصادات الإفريقية الصاعدة. فبينما تبرر الجهات الأوروبية الخطوة بمسائل تتعلق بمعايير السلامة الجوية، يذهب كثير من المراقبين إلى أن القرار يتجاوز الأبعاد التقنية ليحمل في طياته حسابات سياسية واقتصادية أوسع، تتعلق بالتوازنات في سوق السياحة العالمية، وبمدى انفتاح أوروبا على المنافسة القادمة من القارة الإفريقية. هذا الحظر يثير سلسلة من التساؤلات العميقة حول مستقبل القطاع السياحي في تنزانيا، الذي يعد ركيزة أساسية لاقتصاد البلاد، كما يفتح الباب أمام نقاش أوسع بشأن أدوات الضغط غير المباشر التي قد تستخدمها القوى الكبرى للتأثير على اقتصادات الجنوب. وفي ظل احتمالات تضرر السمعة السياحية، وتراجع الاستثمارات، وتهديد فرص العمل، تبدو تنزانيا أمام اختبار صعب يفرض عليها البحث عن استراتيجيات بديلة، وفتح قنوات حوار جديدة، ليس فقط مع أوروبا وإنما أيضا مع شركاء دوليين آخرين، بما يضمن تقليل المخاطر وتحويل الأزمة إلى فرصة.
في حديث خاص لـ"الأيام نيوز"، حلّلت الدكتورة أمينة العريمي، الباحثة الإماراتية في الشأن الأفريقي، قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بحظر الرحلات الجوية القادمة من تنزانيا، معتبرة أن القرار الذي جرى تبريره بعدم التزام شركات الطيران التنزانية بمعايير الأمن والسلامة، يمثل تحديا كبيرا أمام قطاع السياحة في البلاد، وهو أحد أهم القطاعات الاقتصادية التي أسهمت في دفع عجلة التنمية ونجحت في تقديم صورة جديدة للسياحة الإفريقية. وأشارت العريمي إلى أن هذا القطاع لم يقتصر أثره على الاقتصاد، بل لعب أيضا دورا في تشكيل وعي شعبي جديد، كما تجلّى في شعارات رفعتها جماعات من عرقية "السوكوما" القاطنة حول بحيرة فيكتوريا التي نادت بضرورة التوجه نحو السياحة الإفريقية.
وربطت العريمي بين هذا التطور واحتضان تنزانيا في يناير الماضي قمة الطاقة الإفريقية، التي أطلقت مبادرة "المهمة 300" برعاية البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي، بهدف ربط القارة بشبكة كهرباء بحلول عام 2030. وأوضحت أن من أبرز المشاركين في تلك القمة كان مارك بريستو، رئيس شركة Barrick Gold، ثاني أكبر شركة تعدين ذهب في العالم، والذي تمكّن عبر مشروع Twiga Minerals المشترك مع الحكومة التنزانية، من تعزيز الثقة بين الطرفين في إدارة المناجم شمال مارا وبوليانهولو. ورغم أن بعض القراءات الإفريقية تربط بين هذا المشروع وبين المواقف الأوروبية، إلا أن العريمي أكدت أنها لا تميل إلى اعتبار القرار ذا دوافع سياسية بحتة.
وتوقّعت الباحثة الإماراتية أن الحظر سيؤثر بشكل مباشر على قطاع السياحة التنزاني، عبر انخفاض أعداد السياح الأوروبيين وتراجع إيرادات السياحة، مما سيؤدي إلى إضعاف الثقة الدولية في معايير السلامة الجوية، ويؤثر بالتالي على وتيرة الاستثمار والنمو السياحي. وأوضحت أنه إذا استمر الحظر لفترة طويلة، فإن الاقتصاد التنزاني سيشهد تباطؤا ملموسا على المديين القصير والمتوسط، وهو ما تدركه القيادة السياسية في البلاد، حيث من المتوقع أن تتحرك سريعا لوضع برامج خاصة تعزز الالتزام بالمعايير الدولية وتعيد الثقة إلى القطاع.
وفي معرض حديثها عن البعد الاقتصادي والسياسي، لفتت العريمي إلى أن توقيت القرار يثير الانتباه، خصوصا أنه جاء قبل أسابيع قليلة من إلغاء الاتحاد الدولي للنقل الجوي IATA لمؤتمره السنوي الذي كان مقررا في السنغال. وبرغم التبريرات اللوجستية، كشفت الأحداث عن وجود خلافات مالية بين الاتحاد ودكار، ما أعاد إلى الواجهة قضية المنافسة غير العادلة التي تعاني منها شركات الطيران الإفريقية. وترى العريمي أن مثل هذه القرارات لا يمكن فصلها تماما عن حسابات حماية السوق الأوروبية، حيث تسهم القيود المفروضة على الطيران الإفريقي في تقليل المنافسة الأجنبية المؤهلة، لكنها شددت على أن الحل يكمن في التزام الدول الإفريقية التام بالمعايير الدولية، وهو ما يعيد لها القدرة على المنافسة ويقطع الطريق أمام الذرائع الأوروبية.
الدكتورة أمينة العريمي، الباحثة الإماراتية في الشأن الأفريقي
أما عن الخطوات التي ينبغي على تنزانيا اتخاذها لمواجهة الأزمة، فقد أشارت العريمي إلى أن الحكومة أطلقت منذ جوان الماضي حوارا دبلوماسيا مع الاتحاد الأوروبي لرفع اسمها من قائمة الحظر. وأكدت أن تنزانيا تستطيع أيضا التوجه نحو استراتيجيات بديلة، منها تعزيز السياحة الداخلية والإقليمية، وتشجيع السياحة الرقمية، فضلا عن استضافة بعثات تقييم دولية لمعايير السلامة الجوية والخدمات السياحية. كما يمكنها الاستفادة من تجارب دول أخرى نجحت في رفع الحظر، عبر تحديث أساطيلها الجوية ورفع معايير الصيانة والسلامة.
وفي هذا السياق، شددت العريمي على أهمية دور القطاع الخاص التنزاني، خصوصا شركات السياحة والطيران، في دعم جهود الحكومة من خلال الالتزام بالمعايير وتحسين البنية التحتية. وأشارت إلى أن تنزانيا اتخذت بالفعل خطوة مهمة بفتح مجالها الجوي أمام شركات أجنبية مثل الخطوط الإثيوبية والقطرية، لتشغيل خطوط إضافية تعوّض النقص الذي خلّفه الحظر وتضمن استمرارية حركة السفر والسياحة. كما توقّعت أن تعمل القيادة السياسية على تكثيف خطابها الإعلامي لطمأنة المسافرين الدوليين والتأكيد على التزامها بالمعايير الدولية.
أما عن التداعيات الأوسع على الاقتصاد، فقد حذّرت العريمي من أن استمرار الحظر سيؤدي إلى انخفاض تدفق العملات الأجنبية وتراجع قيمة العملة الوطنية، وهو ما سينعكس على النمو المحلي وفرص العمل في قطاعي السياحة والطيران، بما يهدد بفقدان خبرات يصعب تعويضها. واعتبرت أن ذلك قد يقود إلى شلل شبه تام لقطاع أساسي يعزز الاقتصاد الوطني.
وفي ختام حديثها، ربطت الباحثة الإماراتية هذا القرار بمسار أوسع للعلاقات الأوروبية ـ الإفريقية في مجال النقل الجوي. وأعادت التذكير بمشروع "قرار ياموسوكرو" لتحرير سوق النقل الجوي الإفريقي الذي أُقر عام 1999 ولم ينفَّذ بالشكل المطلوب، معتبرة أن غياب التنفيذ أضعف شركات الطيران الإفريقية ومنح الشركات الأوروبية فرصة للهيمنة على الربط الجوي بين القارة وبقية العالم. وأكدت أن بناء سوق إفريقي مُوحّد للنقل الجوي يظل التحدي الأكبر أمام القارة، وأن تنفيذ هذا المشروع كفيل بتطوير السياحة والاقتصاد الإفريقي، وزيادة الناتج المحلي، وتعزيز قدرة الشركات الإفريقية على المنافسة في مواجهة الشركات العالمية.

