دخلت حرب أكتوبر 1973 صفحات التاريخ العسكري كواحدة من أبرز الدروس في الابتكار التكتيكي واستخدام الوسائل العسكرية لإحداث مفاجأة استراتيجية و"العبور" الذي حطّم "أسطورة" الجيش الذي لا يُقهر. وفي هذا السياق، برزت الجزائر، انطلاقاً من مبادئها الراسخة في نصرة القضايا العادلة، في مقدمة الدول العربية التي خاضت المواجهة بكل قوة. وكان هذا الموقف محطة بارزة في تاريخ الجزائر الحديث، حيث أبان الجيش الجزائري، سليل جيش التحرير الوطني، عن شجاعة استثنائية وأبدى تفانياً منقطع النظير في الدفاع عن فلسطين، مستفيداً من خبرته العسكرية المتراكمة منذ ثورة نوفمبر 1954. بعد استقلالها بـ5 أعوام فقط، ورغم حداثة جيشها الوطني، كانت الجزائر مستعدة لخوض أول حرب خارج حدودها، فحين تصاعدت الأحداث بالمنطقة، وجّه الرئيس هواري بومدين في 18 ماي 1967 رسالة تضامن لكل من سوريا ومصر عبر مبعوثه الخاص، قائد أركان الجيش الوطني الشعبي. وتمثلت مهمة هذا الوفد في تقييم الوضع العسكري على أرض الواقع وتقديم المساعدة اللازمة، بما في ذلك عرض إرسال قوات جزائرية لدعم الجيوش العربية. في 27 ماي 1967، اتخذ الرئيس بومدين قراراً بالتعبئة العامة بعد الهجوم الجوي الصهيوني على الجيوش العربية. وهكذا تم -في إطار هذا الدعم العسكري- حشد القوات الجزائرية المتجهة إلى الجبهة المصرية في ثكنة بزرالدة، حيث خاطبهم بومدين قائلاً: "العدو يتحرش بالجيوش العربية، وقد جعلوا (إسرائيل) خنجراً في قلب الأمة العربية. أنتم مجاهدون في سبيل القضية العربية، ومصر التي دعمتنا خلال ثورة التحرير تتحمل عبء الحرب اليوم، وعلينا أن نثبت قوتنا خارج حدودنا". تحركت القوات الجزائرية نحو الجبهة المصرية وسط هتافات الشعب الجزائري الذي كان يساندهم ويدعو لهم بالنصر. كما أرسلت الجزائر سفينة محملة بالأسلحة والذخيرة، بالإضافة إلى 30 دبابة وفيلق من القوات، إلا أن هذه القوات وصلت بعد انتهاء الحرب التي استمرت ستة أيام فقط، عقب تدخل الأمم المتحدة والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. كانت تلك الحرب نكسة جديدة للعرب، حيث تمكن الاحتلال الصهيوني من توسيع رقعة الأراضي المحتلة بعد حرب 1948. شاركت معظم الدول العربية في حرب 1973 وفقاً لاتفاقية الدفاع العربي المشترك، لكن تلك المشاركة كانت غالباً رمزية باستثناء سوريا، العراق، والجزائر، التي كان جنودها يشاركون فعلياً بجانب الجنود المصريين على جبهة القتال بحماس وقوة. تُعد الجزائر ثاني أكبر دولة دعماً لمصر خلال تلك الحرب بعد العراق، الذي قدم مساعدات على الجبهة السورية. فقد شاركت الجزائر بفيلقها المدرع الثامن للمشاة الميكانيكية على الجبهة المصرية، مؤلفاً من 2115 جندياً، 812 ضابط صف، و192 ضابطاً جزائرياً. كما قدمت الجزائر لمصر 96 دبابة، 32 آلية مجنزرة، 12 مدفع ميدان، 16 مدفعاً مضاداً للطيران، وأكثر من 50 طائرة حديثة من طرازات ميغ 21، ميغ 17، وسوخوي 7، وفقاً لتصريحات المستشار علي محمود محمد، رئيس المكتب الإعلامي المصري بالجزائر، خلال احتفال السفارة المصرية في الجزائر بنصر أكتوبر. بدأت الحرب في 6 أكتوبر 1973، حين نفذت القوات المصرية عملية عبور قناة السويس بمشاركة 100 ألف جندي، وأكثر من 1000 دبابة، و13500 مركبة خفيفة وثقيلة. تمكنت القوات المصرية من الاستيلاء على خط بارليف الحصين. ومع تحديد موعد الهجوم، قررت الجزائر إرسال دعم فوري لمصر، حيث أرسلت 4 أسراب طائرات مقاتلة تضمنت السرب رقم 23، 17، 21، 14، وسرباً يحتوي على 13 طائرة من طراز MF21، وسربين من طائرات ميغ F17 يضمان 23 طائرة، وسرباً من طائرات KSU7 BM يضم 12 طائرة. انطلقت أفواج اللواء الجزائري في 12 أكتوبر، بعد ستة أيام من اندلاع الحرب، وقطعت مسافة 4 آلاف كيلومتر من الجزائر إلى مصر، مروراً بتونس وليبيا، حيث وصلت عبر السلوم ومرسى مطروح. كما تم نقل جزء من القوات عبر البحر من طرابلس إلى الإسكندرية. عند وصول القوات الجزائرية إلى مصر، تم دمج اللواء الجزائري في الجيش الثالث مع الفرقة الرابعة المدرعة تحت قيادة الجنرال محمد عبد العزيز، حيث أدت القوات الجزائرية أدواراً بطولية في محاصرة العدو من جهة الغرب، مما جسد مدى التضامن العربي في نصرة القضية الفلسطينية. بعد الانتصار العربي على (إسرائيل)، أعرب الرئيس الراحل أنور السادات عن امتنانه للرئيس الجزائري هواري بومدين والملك فيصل بن عبد العزيز لدورهما الحاسم في تحقيق النصر، وفقاً لتصريحات كاميليا السادات، ابنة الرئيس السادات، في مقابلة تلفزيونية. استمرت القوات الجزائرية في القتال على الجبهتين المصرية والسورية حتى فبراير 1974، وبعد ذلك توجهت الطائرات الجزائرية إلى سوريا لدعم حرب الاستنزاف في الجولان. انسجم الطيارون الجزائريون مع القوات السورية رغم بعض الصعوبات الفنية، مثل الحاجة إلى وجود جزائري على أبراج المراقبة لتسهيل هبوط الطائرات الجزائرية بسبب اختلاف اللغات المستخدمة. استمر وجود القوات الجزائرية في الجبهتين المصرية والسورية حتى منتصف 1975، إلى أن استدعي الطيارون الجزائريون بعد اندلاع الحرب في الصحراء الغربية مع المغرب. تحدث –حينذاك- رئيس هيئة أركان الكيان الصهيوني دافيد إليعازر، عن أسباب هزيمة قواته في حرب 1973، مشيرًا إلى استهانة اللواء أرييل شارون، الذي وصفه بالمغرور. وكان شارون يسخر من أسلحة الجزائريين ويظن أن جنودهم سيفرون بمجرد رؤية الدبابات الصهيونية. لكن القوات الجزائرية نصبوا له فخًا محكمًا، ما أدى إلى خسارة العدو في يوم واحد 900 جندي و172 دبابة. وتلك الهزيمة كانت نتيجة تجاهل شارون اندفاع نحو القوات الجزائرية، التي أظهرت شجاعة واستبسالاً في المعركة. إلى جانب الدعم العسكري، قدمت الجزائر دعمًا سياسيًا مهمًا خلال الحرب. في 7 أكتوبر 1973، أرسل الرئيس هواري بومدين برقيات عاجلة إلى الدول الاشتراكية، دول عدم الانحياز، جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، داعيًا إلى دعم القضية العربية ورفض احتلال الأراضي بالقوة. استجابت العديد من الدول الإفريقية لنداء بومدين، وأعلنت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني. كما أرسل بومدين برقية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ورد عليها الرئيس الأمريكي نيكسون برسالة أكد فيها ضرورة إيجاد حل عادل ودائم لمشاكل الشرق الأوسط، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة تعمل على وقف المعارك وتأمل في تعاون الحكومات الأخرى في هذا الجهد. في 11 أكتوبر 1973، ندد وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بجرائم (إسرائيل) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، و كثّف جهوده الدبلوماسية مع الدول الصديقة، مطالبًا باتخاذ موقف حازم ضد العدوان الصهيوني وقطع العلاقات معه. كما نشطت جمعيات المجتمع المدني الجزائرية في توضيح القضية العربية لنظيراتها حول العالم، واستمر هذا النشاط حتى نهاية الحرب. في 13 أكتوبر، انطلقت الدبلوماسية الجزائرية بحراك مكثف بقيادة الرئيس هواري بومدين، الذي قام بجولات اتصالات شملت دولاً عربية مثل بغداد، الكويت، والسعودية، بهدف جمع الدعم والمساندة لمصر وسوريا. ركزت تحركاته على توحيد الصف العربي وحث الدول العربية على العمل معًا لعزل الكيان الصهيوني وحليفته الولايات المتحدة الأمريكية. كما عمل بومدين على إعادة العلاقات بين الجزائر والأردن بعد قطيعة دامت لسنوات، منذ أحداث أيلول الأسود في 1970. وخلال زيارته لتلك الدول، شدد على أهمية التضامن العربي وتجنب الانقسامات في مواجهة المخططات الخطيرة التي كان يعدها الكيان الصهيوني، مؤكدًا على أهمية التضامن العربي والإفريقي، الذي برز بوضوح منذ تأسيس حركة عدم الانحياز. وفي إطار تحركاته الدبلوماسية، قام بومدين بزيارة رسمية إلى موسكو من 14 إلى 15 أكتوبر 1973، بعدما لاحظ تباطؤ الاتحاد السوفيتي في تقديم المساعدات العسكرية لمصر، وهو ما اعتبره بومدين نتيجة للضغوط الأمريكية. خلال زيارته، أجرى محادثات سياسية طويلة مع القيادة السوفيتية، وانتقد فيها السوفييت سياسة الرئيس السادات. لكن بومدين وضح موقفه قائلاً: "لم أحضر لمناقشة السياسة، بل جئت لشراء السلاح لمصر وسوريا... فهل توافقون؟". وبالفعل، حصل على موافقة السوفييت، ودفع مبلغ 200 مليون دولار مقابل دبابات تم توريدها على الفور لدعم مصر وسوريا. بعد انتهاء زيارته إلى موسكو، توجه بومدين إلى يوغوسلافيا مساء 15 أكتوبر، حيث أجرى محادثات مع الرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو. تناولت هذه المحادثات تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، والدور الذي يجب أن تلعبه حركة عدم الانحياز لدعم الجبهة العربية في مواجهة الهجمات الإمبريالية. صدر بيان مشترك من الجانبين، أكدا فيه دعمهما الكامل وتضامنهما مع مصر وسوريا، ودعوا باقي دول حركة عدم الانحياز إلى الانضمام إلى هذا التضامن. وفي 22 أكتوبر 1973، استقبل بومدين السفير السوفيتي في الجزائر، الذي أطلعه على نتائج المحادثات بين القادة السوفييت ووزير الخارجية الأمريكي، والتي أسفرت عن قرار وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط. ورغم موافقة السادات على القرار، كانت الجزائر ترفضه بشدة، إيمانًا منها بأن الحرب يجب أن تستمر حتى يتم تحرير كامل الأراضي العربية من الاحتلال الصهيوني. نشطت الدبلوماسية الجزائرية بشكل ملحوظ خلال حرب أكتوبر 1973، حيث أوفد الرئيس الجزائري هواري بومدين وزير خارجيته عبد العزيز بوتفليقة إلى القاهرة في 26 أكتوبر للتباحث مع المسؤولين المصريين. وفي 28 أكتوبر، أرسل بومدين شريف بلقاسم، عضو مجلس الثورة الجزائرية، إلى دمشق لمواصلة الحوارات التي بدأت بينه وبين الرئيس السوري حافظ الأسد عبر اتصالات هاتفية خلال أيام المعارك. هدف بلقاسم كان حث سوريا على مواصلة القتال حتى تحقيق النصر واسترجاع الأراضي المحتلة، مؤكداً دعم الجزائر الكامل لسوريا ومصر في نضالهما ضد العدو الصهيوني. وفي 31 أكتوبر 1973، أصدر مجلس قيادة الثورة الجزائري بيانًا جديدًا جدّد فيه تأييده التام لمصر وسوريا في مسعاهما لاستعادة الأراضي العربية المحتلة، معلنًا استعداد الجزائر لوضع جميع مواردها وثرواتها في خدمة المعركة ضد الاحتلال الصهيوني. وفي أوائل نوفمبر 1973، قام الرئيس بومدين بجولة في عدة عواصم عربية، حيث بدأها في القاهرة في 2 نوفمبر بإجراء محادثات مع الرئيس أنور السادات، ثم انتقل إلى دمشق في 3 نوفمبر. شملت جولته كذلك زيارات سريعة إلى بغداد، الكويت، والرياض. خلال هذه الجولة، طرح بومدين موقف الجزائر الثابت، وأبلغ الزعماء العرب استعداد بلاده لتقديم كل ما لديها من إمكانات لدعم الانتصار العربي. كما دعا إلى عقد قمة عربية لتوحيد الصف العربي في المرحلة المقبلة، خصوصاً قبل الوصول إلى ما سماه "اتفاق سلام الجبناء"، وحصل على موافقة مصر وسوريا لحضور هذا المؤتمر، وحاول كذلك إقناع العراق بالانضمام إلى القمة، لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ تلك قصة أخرى.