تتربّع مالي اليوم على عرش قائمة الأزمات المعقدة في القارة الإفريقية، فهي بلد غني بالتنوع الإثني والثقافي، لكنه غارق في دوّامة من الصراعات المسلحة والهشاشة السياسية والفراغ الأمني.
فمنذ أكثر من عقد، فشلت التدخلات الدولية والمبادرات الإقليمية في إرساء استقرار دائم، لتتحول البلاد إلى ساحة مفتوحة لتنافس القوى الكبرى وصراع التنظيمات الإرهابية التي تمددت مستغلة الانقسامات الداخلية.
ورغم الإعلان عن انسحاب فرنسا والولايات المتحدة من مالي، ما يزال الجدل قائما حول طبيعة هذا الانسحاب، أهو كامل بالفعل أم مجرد إعادة تموضع بأشكال أخرى؟ فبينما يرى البعض أن خروج القوات الأجنبية ترك فراغا أمنيا وسياسيا واضحا، يعتبر آخرون أن هذه القوى ما تزال تحتفظ بأدوات تأثير غير مباشرة، سواء عبر شبكات محلية أو من خلال حضور اقتصادي ودبلوماسي يواصل التأثير في مسار الأزمة.
ويعكس هذا الجدل صعوبة فصل العوامل الداخلية عن الامتدادات الخارجية في المشهد المالي، حيث تتشابك المصالح الدولية مع هشاشة الدولة، بما يزيد من تعقيد جهود الاستقرار.
ويتعمق هذا التعقيد أكثر مع غياب الجزائر عن مشهد الوساطة. فالجزائر، صاحبة خبرة طويلة في مكافحة الإرهاب والدبلوماسية الإقليمية، كان بإمكانها أن تلعب دورا محوريا في ملء الفراغ، ما يطرح سؤالا حول ما إذا كانت الأزمة في جوهرها صراعا داخليا على السلطة والهوية، أم انعكاسا مباشرا للتجاذبات الجيوسياسية بين الشرق والغرب على أرض الساحل.
وفي هذا السياق، دعت مفوضية الاتحاد الإفريقي إلى تحرك جماعي لمواجهة تصاعد الإرهاب في منطقة الساحل، محذّرة من أن اتساع رقعة العنف يهدد استقرار القارة برمتها. كما أكدت واشنطن، على لسان مبعوثها مسعد بولس، أن إفريقيا تمثل شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة. وجاءت هذه المواقف خلال لقاء جمع رئيس المفوضية محمود علي يوسف بكبير مستشاري الرئيس الأميركي لشؤون إفريقيا في أديس أبابا، في وقت تتزايد فيه هجمات الجماعات المسلحة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ما يثير مخاوف من انتقال العنف إلى دول الجوار وتفاقم أزمات النزوح واللاجئين.
ويؤكد المحلل السياسي المالي محمد ويس المهري في حديثه لـ"الأيام نيوز" أن تصاعد هجمات تنظيم القاعدة في مالي هو نتيجة لتشابك عوامل محلية وإقليمية ودولية، يصعب فصل أحدها عن الآخر. ويوضح أن الأزمة نُتاج ثلاثة محددات أساسية متداخلة:
أولها الفراغ الأمني الناجم عن تقليص مهام بعثة الأمم المتحدة وضعف التغطية الدولية، ما فَـتَح مساحات واسعة للحركة أمام الجماعات المسلحة؛
وثانيها هشاشة الدولة المركزية وعجز مؤسساتها وقواتها عن بسط السيادة في مناطق الوسط والشمال، مما ترك مجتمعات بأكملها دون حماية فعّالة؛
أما ثالثها فهو قدرة التنظيم على استثمار التوترات العرقية وصراعات الموارد كأرض خصبة للتجنيد وبناء شبكات نفوذ محلية.
ويضيف المهري أن هذه المحددات الثلاثة "لا تعمل بمعزل عن بُعد دولي حاسم"؛ فمالي تحولت إلى ساحة تنافس جيوسياسي بين المعسكر الشرقي (روسيا والصين) والمعسكر الغربي (الولايات المتحدة وفرنسا ممثلةً للاتحاد الأوروبي)، وهو تنافس يعرّض الاستجابة الدولية للتشرذم ويعمّق هشاشة الوضع الداخلي. والنتيجة، بحسب المهري، أن تراكم هذه العوامل حوّل المواجهة مع القاعدة من مشكلة أمنية مؤقتة إلى أزمة مركّبة تتطلب مقاربة متكاملة تجمع بين استعادة القدرة الأمنية الوطنية، ومعالجة المظالم الاجتماعية والسياسية، وإعادة ضبط الأدوار الدولية والإقليمية.
السلطة الانتقالية وتضخيم الأزمة
وفي محور آخر، يلفت المهري إلى أن تعنّت السلطة الانتقالية في باماكو ساهم في تعميق الأزمة السياسية بدل أن يكون عامل تهدئة. ويوضح أن المرحلة الانتقالية كان يفترض أن تمثل "جسراً لبناء الثقة بين مختلف الفاعلين"، غير أن غياب المرونة ورفض إشراك قوى المعارضة والمجتمع المدني والقوى التقليدية حوّلها إلى مسرح جديد للتوتر.
ويؤكد أن أي عملية انتقال سياسي جاد نحو انتخابات رئاسية ذات مصداقية لا يمكن أن تنجح من دون إشراك جميع الأطراف في صياغة مستقبل البلاد، معتبراً أن تجاهل هذا المبدأ "أفرغ العملية السياسية من مضمونها، وفتح الباب أمام التنظيمات المتطرفة التي وجدت في الانقسامات الداخلية بيئة مثالية لتعزيز نفوذها وتوسيع رقعة حضورها".
وبذلك، تتحول المرحلة الانتقالية – في نظره – من فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة إلى عامل مفاقم للأزمة، ما لم تُصحَّح مساراتها بالانفتاح على كل القوى الوطنية.
عزلة دولية وافتعال مشاكل داخلية
وفي قراءته لمسألة العزلة الدولية، يؤكد المهري أن ما تعيشه مالي اليوم ليس ظرفاً طارئاً، بل نتيجة لمسار طويل ارتبط بالوجود الفرنسي والأمريكي في البلاد. ويرى أن هذا الوجود لم يقتصر على إضعاف مؤسسات الدولة، بل ساهم في افتعال أزمات داخلية غذّت الانقسامات العرقية والسياسية، ما جعل النظام المالي هشّاً ومعتمداً على الدعم الخارجي أكثر من اعتماده على قدراته الذاتية.
ويضيف أن الانسحاب المفاجئ للقوات الفرنسية والأمريكية كشف هشاشة تلك المعادلة، وأظهر أن الهدف لم يكن يوماً بناء استقرار حقيقي، بل الإبقاء على مالي في دائرة التبعية. ومع مغادرة بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام، وجدت البلاد نفسها بلا مظلة دولية قادرة على لعب دور توازني في المشهد الداخلي، ما عمّق العزلة وزاد من صعوبة مواجهة التحديات الأمنية والسياسية في آن واحد.
ويخلص إلى أن هذه العزلة "أفرزت فراغاً خطيراً جعل مالي أكثر عرضة للتجاذبات الدولية، وأقل قدرة على صياغة حلول داخلية متماسكة، وهو ما يضاعف من خطورة الوضع الحالي".
مأزق "فاغنر" الروسية
أما بخصوص الاعتماد على قوات "فاغنر" الروسية، فيوضح المهري أن هذا الخيار لا يمكن اعتباره بديلاً استراتيجياً عن التعاون الأمني مع المحيط الإقليمي أو الشركاء الدوليين. فوجود "فاغنر" ــ كما يقول ــ يقتصر على تقديم دعم عسكري مباشر محدود الأثر، دون أن يلامس جذور الأزمة التي ترتبط أساساً بالهشاشة السياسية والانقسامات الداخلية وتهميش المكوّنات الاجتماعية.
ويشير إلى أن التعويل المفرط على "فاغنر" قد يمنح السلطة الانتقالية إحساساً وهمياً بالقدرة على فرض الأمن بالقوة، لكنه في الواقع يضاعف عزلة مالي عن شركائها التقليديين، ويضعها في قلب صراع استقطاب دولي بين موسكو من جهة والغرب من جهة أخرى. ويضيف أن هذا التموضع "يجعل من مالي ساحة مواجهة بالوكالة، بدل أن تكون دولة قادرة على صياغة مقاربتها الخاصة للأمن والتنمية".
ويخلص إلى أن الحلول الأمنية المستوردة، أياً كان مصدرها، لا يمكن أن تعوّض غياب مشروع سياسي شامل يعالج جذور الأزمة ويعيد دمج المجتمع في مسار بناء الدولة.
الجزائر ومبادرات السلام
ويؤكد المهري أن أحد أبرز العوامل التي ساهمت في تعقيد المشهد الأمني بمالي هو غياب التنسيق مع الجزائر، رغم ما تمتلكه من خبرة طويلة وتجربة راسخة في محاربة "الإرهاب" والتطرف العابر للحدود. ويشير إلى أن الجزائر لم تكتفِ بالدعم الأمني والعسكري غير المباشر، بل كانت الوسيط الأبرز في رعاية اتفاق السلام مع الحركات الأزوادية عام 2015، وهو الاتفاق الذي نظر إليه كثيرون حينها باعتباره بارقة أمل لوقف نزيف الصراع وإعادة دمج الشمال في مشروع الدولة.
لكن تهميش هذا الدور ــ بحسبه ــ أدى إلى نتائج عكسية، إذ تكررت الهجمات "الإرهابية" وتوسعت رقعة الصراعات، فيما فقدت المبادرات الأخرى التي طرحت خارج هذا الإطار الكثير من قوتها وفعاليتها. ويضيف أن إقصاء الجزائر، التي تتميز بقدرتها على الجمع بين الفاعلين المحليين وفهمها لتعقيدات المشهد الإثني والاجتماعي في مالي، جعل أي حلول بديلة هشة وعرضة للفشل.
ويخلص إلى أن أي مقاربة جادة لإحلال السلام في مالي لا يمكن أن تنجح دون إشراك الجزائر بفاعلية، باعتبارها الدولة الأكثر تماساً مع تداعيات الأزمة، والجهة التي تمتلك رصيداً دبلوماسياً وأمنياً أثبت فعاليته في تجارب سابقة.
الإصلاح السياسي كشرط للحل
يشدد المهري على أن معالجة الأزمة الأمنية في مالي لا يمكن أن تتم بمعزل عن إصلاح سياسي شامل يضع جميع القوى الفاعلة ضمن معادلة واحدة.
المحلل السياسي محمد ويس المهري _مالي
فالأزمة – برأيه – ليست مجرد تحدٍّ أمني، بل هي انعكاس لانسداد سياسي وإقصاء اجتماعي متراكم. ويؤكد أن دمج المعارضة، والمجتمع المدني، والمكوّنات الإثنية في العملية السياسية يمثل شرطاً أساسياً لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. فإقصاء هذه المكونات يخلق فراغات خطيرة تستغلها التنظيمات "الإرهابية" للتمدد، بينما الانفتاح عليها يمكن أن يشكل أرضية لعقد اجتماعي جديد يفتح أفقاً نحو الاستقرار والانتقال الديمقراطي.
القاعدة واستغلال التهميش
ويضيف أن تنظيم القاعدة أظهر قدرة كبيرة على استغلال التهميش الذي تعاني منه الإثنيات، خصوصاً في الشمال والوسط. فقد أدى حرمان مجموعات مثل الأزواد من حقوقها السياسية والاقتصادية إلى جعلها أكثر عرضة للتجنيد في صفوف الجماعات المتطرفة. هذا التهميش حوّل مناطق واسعة إلى بيئات خصبة لانتشار "الإرهاب"، حيث وجد التنظيم أرضية جاهزة لبناء شبكاته وتوسيع نفوذه. ويرى المهري أن مبادرة الجزائر للسلام كانت محاولة جادة لدمج هذه الأطراف واحتوائها ضمن العملية السياسية، لكن إهمالها أو الالتفاف عليها شكّل خطأً استراتيجياً عمّق الصراع بدل أن يحدّ منه.
السيناريوهات المستقبلية
ويختم المهري بالقول إن استمرار باماكو في التعنت الداخلي، والرهان على قوات "فاغنر" بديلاً عن التعاون الدولي والإقليمي، وقطع جسور التواصل مع دول الجوار، لن يقود إلا إلى مزيد من الفوضى وتآكل مؤسسات الدولة. أما السيناريو الإيجابي الوحيد – في نظره – فيمر عبر إصلاح سياسي حقيقي يعيد فتح قنوات الحوار مع المعارضة والمجتمع المدني والمكوّنات الإثنية، إلى جانب إعادة الانفتاح على الجزائر ودول المنطقة، من خلال مقاربة شاملة تجمع بين الأمن والسياسة.
خلاصة المشهد
هكذا تبدو الأزمة المالية اليوم، كما يصفها المهري: أزمة مركبة يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي، تتغذى من تعنّت داخلي وصراعات دولية، وتتشابك فيها التدخلات الأجنبية مع الانقسامات الداخلية.
لكن رغم تعقيداتها، فإن مفتاح تفكيكها لا يزال متاحاً عبر حوار شامل وإصلاح سياسي عميق يعيد الاعتبار للتوازنات الداخلية والإقليمية على حد سواء.