2025.10.13



الأمم المتحدة أمام اختبارها الأصعب..عدالة تُنقذ السودان أم فوضى تبتلعه؟ سياسة

الأمم المتحدة أمام اختبارها الأصعب..عدالة تُنقذ السودان أم فوضى تبتلعه؟


ربيعة خطاب
منذ 3 ساعات

يتحوّل السودان اليوم إلى ساحة اختبار مفتوحة لمصداقية النظام الدولي، بعد أن عجزت كل المبادرات الإقليمية عن كبح نزيف الحرب بين الجيش وميليشيات الدعم السريع. فالتقاعس الإفريقي، والانقسام الدولي، وتوظيف المأساة في صراعات النفوذ، جعلت من الميدان السوداني مرآة للفشل الجماعي في إدارة الأزمات. وفي خضم هذا الانسداد، يقف هذا البلد الرازح تحت وطأة الحرب والمجاعة والنزوح على حافة معادلة دقيقة: إما أن تستعيد الأمم المتحدة دورها كضامن للعدالة الدولية، أو تترك الساحة لدوامة الفوضى التي قد تتجاوز حدود السودان.

وفي هذا السياق القاتم، يقدّم الباحث الدكتور عبد الناصر سلم حامد، مدير برنامج السودان وشرق إفريقيا بمركز فوكس للأبحاث (السويد)، قراءة تحليلية لـ«الأيام نيوز»، يُفكّك فيها أبعاد التحرك الأممي، وتعقيدات المساءلة القانونية، ودور التوثيق الحقوقي، وآفاق الحل السياسي، مؤكدا أن السودان يقف اليوم أمام مفترق حاسم: "إما عدالة تنقذ الدولة أو فوضى تبتلع ما تبقى منها".

الباحث الدكتور عبد الناصر سلم حامد، مدير برنامج السودان وشرق إفريقيا بمركز فوكس للأبحاث (السويد)

يرى الباحث عبد الناصر أن التحرك الأخير للأمم المتحدة لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة إخفاق واضح في المسارات الإقليمية التي حاولت احتواء الأزمة دون جدوى. فالاتحاد الإفريقي، ومن بعده منظمة الإيغاد ومسار جدة، فشلوا جميعا في فرض هدنة دائمة أو تأمين ممرات إنسانية فعالة لحماية المدنيين، ما جعل الأمم المتحدة تتدخل كخيار أخير لتفادي انهيار شامل قد يمتد أثره إلى القرن الإفريقي بأكمله.

ويضيف الخبير أن مجلس حقوق الإنسان نفسه واجه ضغوطا أخلاقية ومؤسسية متزايدة، بعدما تعرّض لانتقادات واسعة بسبب تباطئه في التعامل مع المأساة السودانية مقارنة بأزمات أخرى تحرك فيها بسرعة، الأمر الذي دفعه إلى محاولة استعادة مصداقيته وإثبات دوره كجهاز أممي لا يقف على الحياد حين تنتهك الكرامة الإنسانية.

ويؤكد الباحث أن الملف السوداني أصبح اليوم اختبارا عالميا لمفهوم العدالة الدولية، ومدى قدرتها على مواجهة العنف الممنهج دون أن تخضع لحسابات السياسة والمصالح المتشابكة. فالموقف الأممي، كما يقول، "لا يُقاس بقراراته فقط، بل بمدى قدرته على أن يضع حدا لحرب جعلت من السودان مرآة عاكسة لعجز النظام الدولي عن حماية الإنسان في لحظات الانكسار الكبرى".

العدالة على المحك.. من جنيف إلى دارفور

بدأ المجتمع الدولي، الذي اكتفى طويلا ببيانات القلق والإدانة، في استخدام لغة أكثر حزما. فبعد عام ونصف من القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تجاوزت الانتهاكات حدودها الوطنية لتتحول إلى ملف قانوني دولي.

وفي تصريحه لـ«الأيام نيوز»، يقول سلم حامد: "اعتبرت مسودة القرار الأممي أن الانتهاكات في السودان بلغت مستوى الجرائم الدولية الخطيرة، وهو توصيف قانوني غير مسبوق منذ اندلاع الحرب، يمهّد فعليا لإمكانية إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية".

ويُضيف موضحا أن المسار القانوني أمام هذا القرار ليس سهلا: "قانونيا، السودان ليس طرفا في نظام روما الأساسي، ما يجعل الإحالة إلى المحكمة مشروطة بتفويض من مجلس الأمن، وهو أمر يتطلب توافقا دوليا نادرا. وسياسيا، الانقسام بين القوى الكبرى خاصة روسيا والصين من جهة، والغرب من جهة أخرى قد يعرقل هذا التفويض أو يفرغه من مضمونه".

أما على الصعيد الإقليمي، فيشير الدكتور سلم حامد إلى أن الواقع السياسي المحيط بالحرب يزيد المشهد تعقيدا، موضحا أن "ارتباط قوات الدعم السريع بعلاقات مع دول ذات ثقل اقتصادي وسياسي، مثل الإمارات، قد يدفع باتجاه تعطيل المساءلة أو تخفيفها عبر الحلفاء الدوليين". ومع ذلك، يؤكد الباحث أن تواتر الأدلة الميدانية التي توثّق جرائم الدعم السريع ضد المدنيين، واستخدام العنف العرقي كسلاح حرب، يجعل الإحالة شبه حتمية إذا استمر المشهد على حاله.

ويضيف موضحا: "هذا التصنيف القانوني يعزل الدعم السريع دوليا ويضعه في مواجهة مباشرة مع العدالة، بينما يمنح القوات المسلحة فرصة لإثبات التزامها بالبنية القانونية للدولة، ما قد يعيد ترميم صورتها أمام المجتمع الدولي".

بهذا المعنى، فإن السودان يدخل مرحلة جديدة من المساءلة الدولية، حيث لم تعد الحرب مجرد صراع على السلطة، بل اختبارا أخلاقيا وقانونيا للعالم بأسره: فهل يمكن للعدالة أن تتقدّم على المصالح حين يكون الضحايا بلا صوت؟

التوثيق الحقوقي.. معركة من أجل الحقيقة

في خضمّ حرب تتناسل منها المآسي وتتداخل فيها الروايات، يبرز التوثيق الحقوقي كأداة حاسمة لإعادة سرد الحقيقة السودانية بعيدا عن دعاية الأطراف المتحاربة. فبينما يسعى كل طرف لتبرير جرائمه أو تبرئة نفسه، تعتمد الأمم المتحدة والمنظمات المستقلة على أدوات الرصد الحديثة، من صور الأقمار الصناعية إلى شهادات الناجين والعاملين في الميدان، لإعادة بناء الصورة الكاملة لما يجري. وفي حديثه يقول سلم حامد إن "التحرك الأممي في هذا التوقيت ليس خطوة رمزية، بل تعبير عن قناعة بأن السودان دخل مرحلة الانهيار المؤسسي الكامل، ما يجعل تجاهل الكارثة أمرا غير ممكن".

ويضيف موضحا أن الدوافع وراء التحرك الأممي تعود إلى تفاقم الطابع الممنهج للعنف، وفشل المسارات الإقليمية، والضغط الأخلاقي على الأمم المتحدة، مشيرا إلى أن "التقارير الحقوقية أثبتت أن الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع لم تكن حوادث فردية، بل سياسة ممنهجة شملت التطهير العرقي والاغتصاب الجماعي والنهب واستخدام التجويع كسلاح حرب، بينما فشلت مسارات الاتحاد الإفريقي والإيغاد وجدة في حماية المدنيين، ما جعل التدخل الأممي الخيار الأخير لتفادي انهيار الدولة".

أما بشأن المسودة الأولية لمشروع القرار الأممي، التي اعتبرت الانتهاكات جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فيرى سلم حامد أن "الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية تمثل خطوة مفصلية، لكنها تواجه تحديات قانونية وسياسية معقدة، فالسودان ليس طرفا في نظام روما الأساسي، مما يجعل الإحالة مشروطة بتفويض من مجلس الأمن، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل الانقسام بين القوى الكبرى".

ويتابع قائلا: "سياسيا، يظل ارتباط الدعم السريع بعلاقات مع دول ذات ثقل اقتصادي وسياسي مثل الإمارات عاملا مؤثرا في محاولات تعطيل المساءلة أو تخفيفها عبر الحلفاء الدوليين، إلا أن تراكم الأدلة الميدانية على جرائم الدعم السريع يجعل الإحالة شبه حتمية إذا استمر المشهد على حاله، وهو ما سيضع المليشيا في مواجهة مباشرة مع العدالة الدولية، بينما يمنح الجيش فرصة لإثبات التزامه بالبنية القانونية للدولة وإعادة ترميم صورته أمام المجتمع الدولي".

ويعتبر الباحث أن التوثيق الحقوقي أصبح اليوم الركيزة الأساسية للمساءلة الدولية، مشددا على أن "تطور أدوات الرصد من صور الأقمار الصناعية إلى المقابلات الميدانية مع الناجين والعاملين الصحيين، مكّن من تتبّع أنماط العنف المنهجي الذي مارسته قوات الدعم السريع، خصوصا في دارفور والخرطوم، ما أعاد صياغة السردية الحقوقية للحرب السودانية".

ويضيف أن الحرب لم تعد تُقدَّم كصراع بين طرفين متكافئين، بل "باتت تُقرأ كحملة منظمة ضد جماعات إثنية محددة، كما أن إدراج العنف القائم على النوع الاجتماعي في تقارير الأمم المتحدة وضع قضايا النساء في قلب الملف الحقوقي باعتبارها جرائم حرب لا عوارض إنسانية".

ويؤكد أن السودان اليوم “تحوّل إلى اختبار حقيقي للنظام الأممي: هل يمكن للمجتمع الدولي أن ينتصر للحقيقة دون تسييس العدالة؟ هذه المسألة ستحدد مستقبل المساءلة في السودان وربما في أزمات أخرى لاحقة".

بين خطر الإبادة وأمل الانتقال

أما عن آفاق وقف الحرب وإعادة بناء الدولة، فيحذر سلم حامد من أن "خطر الإبادة الجماعية لا يزال مرتفعا للغاية، فأنماط الهجمات العرقية والمقابر الجماعية ومنع المساعدات تمثل مؤشرات واضحة على وجود نية لتدمير جماعات بعينها وفق تعريف اتفاقية 1948".

ويرى أن "جوهر الحل لا يكمن في التدخل العسكري، بل في وقف شامل لإطلاق النار بضمانات أممية صارمة، يعقبه مسار انتقال سياسي يقوده المدنيون، غير أن تنفيذ ذلك يصطدم بغياب الإرادة لدى الدعم السريع، الذي يرى في استمرار الحرب وسيلة لشرعنة نفوذه الميداني، إضافة إلى انعدام الثقة بين الأطراف وهشاشة البنية المؤسسية التي تجعل أي اتفاق عرضة للانهيار دون آلية رقابة ومحاسبة فعالة".

ويختم الباحث تصريحه بتأكيد أن "الانتقال المدني يظلّ المخرج التاريخي الممكن لإعادة بناء السودان على أساس المواطنة والعدالة الانتقالية، وتفكيك البنية المليشياوية لصالح مؤسسات شرعية قائمة على القانون. فاستعادة السودان لسيادته الحقيقية لن تتم عبر السلاح، بل عبر دولة العدالة والمساءلة التي تضع حدا لعقود من الإفلات من العقاب".

بهذا التحليل، يضع الدكتور سلم حامد الأزمة السودانية في إطارها الأوسع: صراع بين العدالة والفوضى، بين الذاكرة والإنكار، وبين دولة تحاول أن تُبعث من رماد الحرب ونظام دوليّ يحاول أن يثبت أنه لا يزال قادرا على حماية الإنسان. فهل يستعيد السودان عافيته عبر مسار العدالة؟ أم ينزلق إلى فوضى جديدة تُعيد إنتاج المأساة بأسماء مختلفة؟

الجواب، كما يبدو، لن يكون قانونيا فقط.. بل إنسانيا قبل كل شيء.