العالم يشاهد، لكن من يحاسب؟ قد تبدو هذه العبارة مناسبة لوضعها في مقدمة تقرير أعدته المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية، فرانسيسكا ألبانيزي، الذي يكشف المستور حول التواطؤ الدولي مع آلة القتل الإسرائيلية في غزة. التقرير يضع نحو 60 دولة في دائرة الاتهام بالمشاركة في جريمة الإبادة الجماعية، سواء عبر تزويد الاحتلال الصهيوني بالسلاح والذخيرة، أو من خلال الدعم الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي الذي يمنحها الحصانة من أي مساءلة.
المشهد الذي ترسمه الوثيقة الأممية قاتمٌ ومروّع؛ فالمجازر لم تكن وليدة القوة العسكرية وحدها، بل ثمرة شبكة دعم دولي منظَّم جعلت من الدم الفلسطيني وقودا لمعادلات جيوسياسية وأنظمة مصالح لا تعرف الرحمة.
وفي قراءة تحليلية لهذا الواقع، يرى المحلل السياسي الفلسطيني ناصر يقين داوود، في تصريح خصّ به "الأيام نيوز"، أن ما يجري "ليس حربا على غزة، بل امتحان أخلاقي فشلت فيه الإنسانية. فحين تُقصف المستشفيات ويُحاصر الأطفال ويُمنع الدواء والغذاء، ثم تصمت الأمم المتحضّرة، فإننا أمام تواطؤ دولي يرقى إلى مرتبة الشراكة في الجريمة."
ويضيف داوود: "إن دماء أطفال غزة لا تسقط فقط بصواريخ "إسرائيل"، بل أيضا بأياد تُصافح القاتل وتُوقّع معه صفقات السلاح والتجارة تحت شعارات كاذبة عن (السلام). هذه ليست سياسة، بل سقوط أخلاقي عالمي يضع كل من دعم الاحتلال في موقع المتهم أمام التاريخ والضمير الإنساني".
مسؤولية الدول الثالثة في دعم آلة الإبادة في غزة
يشير تقرير المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة إلى أنّ ما يجري في قطاع غزة يتجاوز حدود النزاع العسكري التقليدي ليصل إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية، وفق توصيف القانون الدولي. وتُحمّل المقرّرة نحو ستين دولة مسؤولية المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في هذه الجريمة من خلال دعمها العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لـ"إسرائيل". فقد ساهمت هذه الدول في تزويد "إسرائيل" بالأسلحة والذخائر المتطورة والتقنيات العسكرية الدقيقة، مما مكّنها من توجيه ضربات مدمّرة ضد المدنيين الفلسطينيين ومرافقهم الحيوية.
وفي هذا الإطار، يُوضّح المحلل السياسي الفلسطيني ناصر يقين داوود أن "إسرائيل" لم تكن لتتمكّن من تنفيذ هذه الحملة العسكرية غير المسبوقة لولا الدعم الغربي المتواصل، الذي وفّر لها الأدوات العسكرية والسياسية لتبرير جرائمها تحت ذريعة الدفاع عن النفس”.

المحلل السياسي الفلسطيني ناصر يقين داوود
ويضيف أن استمرار تدفّق الأسلحة رغم التحذيرات الأممية يعكس “تواطؤا مفضوحا يتعارض مع التزامات الدول الموقّعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948”.
كما يسلّط التقرير الضوء على البعد المالي لهذا الدعم، حيث تشير المقرّرة إلى أن اقتصادات بعض الدول باتت متشابكة مع اقتصاد الاحتلال من خلال الاستثمارات المشتركة وتمويل مشاريع "إسرائيلية" مرتبطة بالمجهود الحربي. وهنا يُعلّق داوود قائلا إن “التمويل الخارجي الذي تحصل عليه "إسرائيل" من حلفائها لا يُستخدم في التنمية أو البحث العلمي كما يُروّج له، بل يُعاد توجيهه لتعزيز قدراتها العسكرية وشراء المزيد من الأسلحة التي تُستخدم في تدمير غزة”. ويُضيف أن “هذه الشبكة من المصالح المالية تُحوّل الاحتلال إلى صناعة عالمية تُدر أرباحا على شركات السلاح، وتُنتج في المقابل آلاف الضحايا الفلسطينيين”.
أما في الجانب الدبلوماسي، فيوضح التقرير أن الحماية السياسية التي تمنحها بعض الدول لـ"إسرائيل" في مجلس الأمن ومؤسسات الأمم المتحدة ساهمت في عرقلة أي تحرك دولي لوقف العدوان أو محاسبة المسؤولين عنه. ويُشدّد ناصر يقين داوود على أن “استخدام حق النقض من قبل الولايات المتحدة وحلفائها لإفشال قرارات وقف إطلاق النار يمثل شراكة سياسية في الجريمة، لأن الصمت أو الحماية القانونية توازي المشاركة الفعلية في القتل”.
ويرى أن ازدواجية المعايير الغربية في التعاطي مع الملف الفلسطيني تقوّض مصداقية النظام الدولي، إذ “تُفرض العقوبات بسرعة على دول تُتّهم بانتهاكات أقل خطورة، بينما تُكافأ "إسرائيل" على جرائم موثّقة بالصوت والصورة”.
ويختتم داوود تحليله بالتأكيد على أن “مسؤولية المجتمع الدولي ليست فقط في وقف تصدير السلاح لـ"إسرائيل"، بل في إعادة النظر في منظومة العلاقات الاقتصادية والسياسية التي تغذّي آلة الإبادة. فكل دولار يُحوّل، وكل صفقة تُوقّع، هي رصاصة تُطلق على جسد طفل فلسطيني في غزة”.
الدور الاقتصادي العربي.. بين التطبيع والتواطؤ الصامت
يرى تقرير المقرّرة الخاصة أنّ التورط في جريمة الإبادة لا يقتصر على القوى الغربية التقليدية، بل يمتد إلى دول عربية ساهمت، عبر التعاون الاقتصادي والتجاري مع "إسرائيل"، في دعم اقتصاد الاحتلال، وبالتالي في تمكينه من مواصلة جرائمه. وقد أشار التقرير إلى أن بعض هذه الدول، ومنها المغرب والإمارات، واصلت علاقاتها الاقتصادية مع "إسرائيل" رغم تصاعد حجم الدمار والمجازر في غزة.
ويقول المحلل السياسي ناصر يقين داوود إن “التطبيع الاقتصادي في ظل استمرار المجازر يمثل خيانة صريحة للقضية الفلسطينية، لأنه يمنح الاحتلال غطاء اقتصاديا ومعنويا في لحظة يُفترض فيها أن يُعزَل دوليا”. ويُضيف أن “كل اتفاق تجاري أو استثماري بين "إسرائيل" ودولة عربية، كما هو الحال في المغرب والإمارات، يُترجم عمليا إلى دعم مباشر لاقتصاد الاحتلال، لأن هذه الأموال تُستخدم لتعزيز البنية التحتية العسكرية وتمويل المشاريع المرتبطة بالمستوطنات”.
ويبيّن التقرير أن اتفاقيات التطبيع فتحت الباب أمام تبادل تجاري واسع يشمل قطاعات حساسة مثل التكنولوجيا والطاقة والزراعة والأمن السيبراني، وهي المجالات التي تمثل العمود الفقري للاقتصاد "الإسرائيلي".
ويُحذر داوود من أن “هذه العلاقات تُسهّل لـ"إسرائيل" نقل التكنولوجيا والموارد التي تُستغل في مراقبة الفلسطينيين والتحكم في حياتهم اليومية، بما يُعمّق منطق الاحتلال بدل تفكيكه”. ويضيف أن “التطبيع ليس جسر (سلام) كما يُروَّج له، بل جسر لتمويل الاحتلال، يُعيد دمجه في المنطقة على حساب الدم الفلسطيني”.
من جهة أخرى، يُشير التقرير إلى أن استمرار التعاون الاقتصادي العربي مع "إسرائيل" يُضعف موقف الدول المناصرة للقضية الفلسطينية ويُعطي انطباعا دوليا بأن العالم العربي تخلى عن مبدئية القضية مقابل مصالح اقتصادية ضيّقة.
وهنا يُصرّح ناصر يقين داوود بأن “التناقض بين الخطاب السياسي العربي الذي يُعلن دعم فلسطين والممارسة الاقتصادية التي تُغذّي الاحتلال يُشكّل أزمة أخلاقية وسياسية خطيرة، خصوصا حين تأتي من دول مثل المغرب والإمارات اللتين تواصلان مشاريع التطبيع في ذروة المأساة الإنسانية بغزة”.
ويُضيف أن “"إسرائيل" تستفيد من هذا التناقض لتُظهر نفسها كشريك شرعي في المنطقة، بينما تستمر في قصف غزة وحصارها”.
ويرى داوود أنّ المطلوب من الدول العربية اليوم هو تبنّي استراتيجية اقتصادية مضادة، تقوم على مقاطعة الاحتلال ودعم مشاريع فلسطينية مستقلة تُعيد الحياة إلى الاقتصاد المحلي في غزة والضفة. ويختم تصريحه بالقول: “إن كسر دائرة الإبادة لا يتحقق بالشعارات، بل بخطوات ملموسة تبدأ بوقف كل أشكال التعاون الاقتصادي والتجاري مع "إسرائيل"، فكل صفقة تطبيع، سواء كانت في الرباط أو أبوظبي، هي طعنة جديدة في جسد فلسطين”.
يُبرز تقرير فرانسيسكا ألبانيزي أن الإبادة الجماعية في غزة ليست فعلا منفردا لـ"إسرائيل"، بل جريمة دولية متكاملة الأركان ساهمت فيها دول كثيرة، بعضها بالسلاح، وبعضها بالمال، وبعضها بالصمت. ومن خلال تحليلاته، يؤكد ناصر يقين داوود أن “السكوت العربي والدولي عن هذه الجريمة لا يقلّ خطورة عن المشاركة فيها، لأن الصمت يُشجّع الجلاد ويُضعف الضحية”. ويرى أن العدالة للشعب الفلسطيني تمرّ عبر تفكيك منظومة التواطؤ العالمية التي جعلت من الاحتلال مشروعا اقتصاديا وسياسيا مستداما.
وفي ختام تصيرحه، يشدد داوود على أن “التحرّك الحقيقي يبدأ حين تتوقف الدول عن تمويل الاحتلال وتبدأ في تمويل الحرية”، مؤكدا أن القضية الفلسطينية ستظل اختبارا أخلاقيا للمجتمع الدولي، وأن “الذين دعموا الإبادة سيُذكرون في التاريخ كشركاء في الجريمة، لا كوسطاء للهدنة”.

