يرى البروفيسور مراد كواشي، الخبير الاقتصادي، في تصريح لـ "الأيام نيوز"، أن استرجاع الجزائر لأكثر من 30 مليار دولار من الأموال المنهوبة حتى نهاية سنة 2023 يُعد مسارًا مؤسساتيًا يعزز مناخ الأعمال، ويدعم ثقة المستثمرين المحليين والأجانب في البيئة الاقتصادية الوطنية. ويؤكد أن هذه العملية، إذا ما ترافقت مع إرادة سياسية فعّالة وإصلاحات بنيوية شاملة، من شأنها أن تُكرّس دولة القانون وتُغني الجزائر عن اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، مشددًا على أن استرداد المال العام هو في جوهره استعادة لثقة المواطن والمستثمر معًا.
وينطلق البروفيسور كواشي من التأكيد على أن الأموال المنهوبة التي تسعى الجزائر إلى استرجاعها لا تقتصر فقط على أرصدة مالية في الخارج، بل تشمل أيضًا ممتلكات مادية وأصولًا عينية داخل البلاد وخارجها، تتوزع بين فنادق، مصانع، عقارات، وأموال سائلة تم تهريبها أو تجميدها بطرق ملتوية خلال سنوات من الفساد المؤسسي الذي أثّر سلبًا على مسار التنمية الاقتصادية.
ويشير إلى أن هذه الأصول، التي استحوذ عليها بعض المسؤولين السابقين بطرق غير مشروعة، أصبحت اليوم محلّ إجراءات قانونية ودبلوماسية تهدف إلى استرجاعها وتوجيهها نحو خدمة الاقتصاد الوطني. ويعتبر أن ما تم استرجاعه حتى الآن، والمقدَّر بـ30 مليار دولار، لا يُمثل سوى جزء محدود من حجم الثروات المنهوبة، التي تختلف التقديرات حول قيمتها الحقيقية.
ويرى كواشي أن تنوّع طبيعة هذه الأموال يستوجب تنوّعًا في أدوات وآليات الاسترجاع، حيث أن الأصول العينية داخل الوطن يمكن استرجاعها بسرعة أكبر مقارنة بتلك المهربة إلى الخارج، والتي تواجه عراقيل قانونية وسياسية معقدة، ما يستدعي صبرًا ومتابعة مؤسساتية دقيقة ومستمرة.
كما يشدد على أن التقدير الحقيقي لهذه الثروات المنهوبة لا يمكن حصره في رقم واحد، نظرًا لتعقيد الجرائم الاقتصادية التي أدت إلى تهريب الأموال، وأيضًا لصعوبة الحصول على بيانات دقيقة في بعض الدول التي تحتضن هذه الأصول، سواء بدافع السرية المصرفية أو بسبب ضعف التعاون القضائي الدولي.
ويُنبّه إلى أن استرجاع هذه الثروات، سواء كانت عقارية أو مالية، هو من صميم حقوق الشعب، ويجب التعامل معها باعتبارها أداة سيادية، وليست مجرد ملف تقني، لأنها تشكل مدخلًا حيويًا لإعادة التوازن للاقتصاد الوطني وتحقيق العدالة الاقتصادية بين مختلف فئات المجتمع.
استرداد الأموال... دعم مباشر للاقتصاد الوطني
وإذا كانت الأصول المنهوبة تتوزع بين الداخل والخارج، فإن البروفيسور مراد كواشي يرى أن استرجاعها يكتسي أهمية اقتصادية قصوى، باعتبارها أموالًا تعود في الأصل إلى الشعب الجزائري، ويجب إعادة دمجها ضمن الدورة الاقتصادية الوطنية. ويؤكد أن هذه الموارد، إذا أُحسن توظيفها ضمن رؤية متكاملة، يمكن أن تُستخدم كأداة تمويل فعّالة تدعم المشاريع التنموية، وتقلّل من الضغط على ميزانية الدولة.
يشدد كواشي على أن استرجاع الأموال لا ينبغي أن يُنظر إليه كعملية رمزية أو انتقامية فقط، بل كرافعة سيادية حقيقية تُغني الجزائر – ولو جزئيًا – عن اللجوء إلى الاستدانة الخارجية. فكل دولار يُسترجع من الخارج يُعتبر بديلاً مباشراً عن قرض محتمل قد يرتّب التزامات مالية مرهقة على الأجيال القادمة، وقد يؤثر على استقلالية القرار الاقتصادي الوطني.
ويضيف أن هذه الأموال المسترجعة يمكن أن تُوجَّه نحو تمويل مشاريع استراتيجية في قطاعات البنية التحتية، والصناعة، والتعليم، والصحة، مما يخلق ديناميكية اقتصادية داخلية، ويوسّع دائرة الاستثمار العمومي، ويُقلّص من الاعتماد على الحلول الظرفية المؤقتة، مثل طبع النقود أو فرض ضرائب إضافية.
كما يؤكد أن تحويل بعض المؤسسات التي كانت مملوكة لفاسدين إلى وصاية الدولة هو خطوة ضرورية لإعادة تشغيلها ودمجها في النسيج الإنتاجي، ما يُعيد الحيوية للاقتصاد الوطني، ويوفّر مناصب شغل جديدة، ويحوّل المال المسترجع إلى أداة تنموية ملموسة يشعر المواطن بأثرها في حياته اليومية.
ويشير كواشي إلى أن نجاح الدولة في استغلال هذه الأموال لا يتطلب فقط اتخاذ قرارات مالية مناسبة، وإنما يتطلب أيضًا تبنّي رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تقوم على أسس الحوكمة الرشيدة، وترشيد الإنفاق العام، والتوجيه الذكي للموارد نحو القطاعات ذات الأولوية والمردودية الاجتماعية والاقتصادية المرتفعة.
المؤسسات المصادَرة.. من الفساد إلى التنمية
وفي سياق الحديث عن توظيف الأموال المسترجعة في دعم الاقتصاد الوطني، يرى البروفيسور مراد كواشي أن تحويل ملكية المؤسسات التي كانت تحت سيطرة الفاسدين إلى القطاع العمومي يُعد من أبرز النماذج على استثمار الموارد المصادرة بطريقة تخدم التنمية وتُحقق أثرًا ملموسًا. فهذه الوحدات، التي أُنشئت في الأصل بأموال مشبوهة، يمكن أن تتحوّل اليوم إلى أداة حقيقية لإنتاج الثروة وخدمة المواطن.
يوضح كواشي أن العديد من هذه المؤسسات قد تمت استعادتها فعليًا وإخضاعها لوصاية مؤسسات عمومية متخصصة، وهو مسار طبيعي وضروري، لأن هذه الأموال هي أموال عامة نُهبت من الشعب، ويجب أن تُعاد إليه عبر إدماجها في مشاريع اقتصادية مدروسة تُعيد له الفائدة المباشرة. ويضيف أن من الخطأ الكبير ترك هذه الممتلكات مجمّدة أو عرضة للتدهور دون إدخالها مجددًا في الدورة الإنتاجية.
ويؤكد أن هذه الوحدات تمثل فرصة حقيقية لتنشيط السوق المحلية، وخلق فرص عمل جديدة، وتحقيق التوازن الجهوي في توزيع الاستثمارات، خصوصًا إذا تم توجيهها نحو المناطق التي تعاني من نقص في الهياكل الاقتصادية والفرص التنموية. ويشدد على أهمية إعادة تأهيل هذه المؤسسات وفق معايير الشفافية والكفاءة، بما يحولها من عبء قانوني إلى مكسب اقتصادي فعّال.
ويرى أن إعادة تشغيل هذه الوحدات يجب أن تستند إلى دراسات جدوى دقيقة، وتُدار بعقليات جديدة تعتمد على الكفاءة والخبرة بدلًا من الولاءات الشخصية، بما يُعزز الثقة مجددًا في قدرة الدولة على إدارة المال العام بفعالية، وإعادة تدويره في مسارات إنتاجية تخلق القيمة ولا تكرّس الريع.
ويؤكد في ختام هذه النقطة أن هذه الخطوة تُعد بمثابة انتقال رمزي وعملي من مرحلة الفساد إلى مرحلة البناء، ومن العبث الاقتصادي إلى منطق الحوكمة الرشيدة، وأن الدولة مطالبة بالحفاظ على هذا التوجه الإيجابي وتوسيعه ليشمل أكبر عدد ممكن من الأصول والمؤسسات المصادرة.
استرجاع الأموال.. عنوان لدولة القانون
وفي السياق ذاته، يربط البروفيسور مراد كواشي بين استرجاع المؤسسات والأصول المنهوبة وبين تكريس مفهوم دولة القانون والشفافية. فهو يرى أن نجاح الدولة في استرجاع أموال الشعب، سواء داخل الوطن أو خارجه، يعكس صورة جديدة لدولة قائمة على الحوكمة والمساءلة، لا على الإفلات من العقاب وتراكم النفوذ الفاسد.
يشير كواشي إلى أن هذه العملية لا تقتصر على الأثر المالي أو الاستثماري فقط، بل تُسهم بعمق في ترميم العلاقة المهتزّة بين المواطن ومؤسسات الدولة. فعندما يلمس المواطن أن العدالة تُطبّق فعليًا، وأن المال المنهوب يُعاد إلى الخزينة العمومية ويُوظَّف في مشاريع ملموسة تعود بالنفع العام، فإن ذلك يُعيد ثقته تدريجيًا في جدية الدولة وفي المسار الإصلاحي بأكمله.
ويضيف أن دولة القانون لا تُبنى بالشعارات، بل عبر قوانين واضحة وتفعيل فعلي للسلطتين السياسية والقضائية، بما يُظهر التزامًا صادقًا بمحاربة الفساد واستعادة هيبة المؤسسات. وفي هذا الإطار، يُمثّل استرداد الأموال رسالة مزدوجة: رسالة للمواطن تؤكد أنه شريك في الثروة والقرار، ورسالة للمفسدين بأن زمن الإفلات من العقاب قد انتهى.
ويرى أن تفعيل هذا البُعد المؤسساتي يتطلب الاستمرار في مرافقة عمليات الاسترجاع بخطاب سياسي شفاف، وإجراءات إدارية مرنة، وآليات رقابة دقيقة تضمن عدم تكرار نفس الظروف التي سمحت سابقًا بتهريب الأموال ونهب الثروات الوطنية.
ويؤكد أن نجاح جهود الاسترجاع لا يُقاس فقط بحجم الأموال العائدة إلى خزينة الدولة، بل بما تُعبّر عنه من تحول جوهري في فلسفة الحُكم، ومن ترسيخ لقواعد الشفافية، وهيكلة جديدة ومتوازنة للعلاقة بين السلطة، والثروة، والمسؤولية.
مناخ استثماري أكثر جاذبية... بفضل مكافحة الفساد
وانطلاقًا من تكريس دولة القانون كأحد أهم مكاسب استرجاع الأموال المنهوبة، يرى البروفيسور مراد كواشي أن هذا التحول ينعكس بشكل مباشر وفعّال على ثقة المستثمرين، سواء كانوا محليين أو أجانب. فمناخ الأعمال لا يُقاس فقط بالمؤشرات الاقتصادية الصرفة، بل أيضًا بمدى التزام الدولة بمكافحة الفساد وضمان العدالة والشفافية في التعامل مع المال العام.
يؤكد كواشي أن نجاح الدولة في استرداد أموالها المنهوبة ومحاسبة المتورطين فيها، يبعث برسائل قوية إلى الداخل والخارج مفادها أن الجزائر تتجه بثبات نحو بناء بيئة أعمال أكثر أمنًا واستقرارًا. وهي رسائل يلتقطها المستثمرون بعناية، لأنها تدل على أن رؤوس الأموال لن تكون عرضة لابتزاز شبكات النفوذ أو الصفقات المشبوهة، وأن المنافسة الاقتصادية ستُبنى على أساس الكفاءة والجدارة، لا على العلاقات والمحاباة.
ويُضيف أن مكافحة الفساد تُعد أداة استراتيجية لتحسين صورة الجزائر على المستوى الدولي، لاسيما لدى وكالات التصنيف الائتماني والمؤسسات المالية العالمية. فعندما يُدرك المستثمر أن الدولة تسترجع أموالها المنهوبة، وتُوظّفها في مشاريع حقيقية، وتُصدر تقارير شفافة بشأن مصيرها، فإن ذلك يُعزز ثقته ويشجّعه على ضخ استثمارات جديدة أو توسيع استثماراته القائمة.
كما يشدد على أن جاذبية مناخ الاستثمار تتعزز أيضًا عندما يشعر المستثمر المحلي أن الدولة تحميه من المنافسة غير العادلة، وتوفر له بيئة اقتصادية متوازنة ونزيهة. فاسترجاع الأموال المنهوبة يضمن كذلك استرجاع جزء مهم من السوق الوطنية، التي كانت محتكرة في السابق من قبل مجموعات فاسدة، ما يُعيد التوازن إلى حركة المال والنشاط الاقتصادي.
ويختم البروفيسور مراد كواشي بالتأكيد على أن استرجاع الأموال المنهوبة لا يمثل مجرد معركة قانونية معقدة، بل هو رهان استراتيجي على مستقبل الاقتصاد الجزائري. إنه رهان يُرسّخ الثقة الداخلية والخارجية، ويفتح الباب أمام استثمارات نظيفة ومستدامة تُراكم النمو، من دون الحاجة إلى تمويل مشروط أو اللجوء إلى الاستدانة الخارجية.