2025.09.30



بياناتنا تحت المراقبة.. كيف تتحوّل خصوصيتنا إلى أداة لصناعة الرأي العام

بياناتنا تحت المراقبة.. كيف تتحوّل خصوصيتنا إلى أداة لصناعة الرأي العام


يتحدث الدكتور خالد بومخيلة، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر 2، في حواره ل"الأيام نيوز"، عن البعد الإعلامي والسياسي لاقتصاد البيانات، موضحًا كيف تحوّل الهاتف الذكي إلى أداة لجمع معلومات دقيقة عن المستخدمين وصناعة ملفات رقمية شاملة تُستغل في الإعلانات الموجّهة وتشكيل الرأي العام. ويرى أن هذه الممارسات تكشف محدودية وعي المستخدم العربي والجزائري بخطورة ما يحدث خلف شاشة هاتفه، في وقت تتفوق فيه الشركات التقنية بقدراتها على حماية الخصوصية، ما يجعل من تعزيز الثقافة الرقمية وتشديد التشريعات مسألة ملحّة لحماية الأفراد والمجتمعات.

الدكتور خالد بومخيلة

الأيام نيوز: بداية، كيف يمكن أن نشرح للقارئ العادي أن هاتفه ليس مجرد وسيلة للاتصال فقط، بل أداة تجمع بياناته على مدار الساعة؟ 

خالد بومخيلة: لم يعد الهاتف الذكي مجرد وسيلة للتواصل، بل تحوّل إلى جهاز متطور لجمع البيانات بشكل دائم، فمنذ لحظة تشغيله وربطه بالشبكة، يبدأ في تسجيل كمّ هائل من المعلومات المتعلقة بعادات المستخدم، وتنقّلاته، وتفاعلاته، ولا يشمل ذلك فقط البيانات التي يُدخلها المستخدم بشكل مباشر، مثل الرسائل أو عمليات البحث، وإنما أيضاً البيانات التي تُجمع بشكل غير مرئي عبر المستشعرات العديدة وبرمجياته المدمجة، وتتم هذه العملية في الغالب في الخلفية، دون إدراك المستخدم العادي، حيث تُغذى قواعد بيانات ضخمة بتفاصيل دقيقة عن حياته اليومية، ولعل الغاية الأساسية من ذلك هي بناء ملف رقمي شامل للمستخدم يمكن استثماره لاحقاً في مجالات مختلفة، على رأسها الإعلانات الموجَّهة وتحسين الخدمات. فعلى سبيل المثال: عندما يقوم شخص بتحميل تطبيق للطقس، قد يطلب التطبيق إذناً للوصول إلى الموقع الجغرافي، وبالرغم من أن الهدف الظاهري هو عرض حالة الطقس، إلا أن هذه البيانات يمكن أن تُستغل أيضاً لتتبع تحركات المستخدم أو بيعها لشركات الإعلانات من أجل توجيه إعلانات مخصصة له. هذا الواقع يبرز أهمية إدراك حجم التنازل عن الخصوصية في العصر الرقمي. فبينما يعتقد المستخدم أن هاتفه مجرد وسيلة للبقاء على اتصال، فإنه في الحقيقة يعمل في الوقت نفسه كأداة لجمع البيانات وكشف التفضيلات الشخصية.

الأيام نيوز: ما هي أبرز المصادر التي تُستخرج منها هذه البيانات يوميا؟ هل نتحدث عن التطبيقات فقط، أم أن الأمر يتجاوز إلى المتصفحات، GPS، الكاميرا، والميكروفون؟ 

خالد بومخيلة: لا تقتصر عملية جمع البيانات عبر الهواتف الذكية على التطبيقات، رغم كونها من أبرز القنوات. فالمتصفحات، ونظام تحديد المواقع، والكاميرا، والميكروفون تُعدّ جميعها مصادر مهمة. كل تفاعل مع هذه العناصر يولّد بيانات جديدة. فالتطبيقات، على سبيل المثال، غالباً ما تطلب أذونات للوصول إلى وظائف الهاتف (كالموقع، وجهات الاتصال، والصور)، وبمجرد منحها هذه الأذونات، يصبح بإمكانها جمع معلومات حول سلوك المستخدم وتفضيلاته وحتى بياناته الشخصية. كما أن المتصفحات مثل  ڤوڤل  كروم وموزيلا وسفاري تقوم بتسجيل سجل التصفح وعمليات البحث وملفات تعريف الارتباط cookies، فمثلا يقوم تطبيق "إنستغرام" تحت غطاء تحسين تجربة الاستخدام بجمع بيانات وصفية مثل الوقت المستغرق على كل منشور وعدد النقرات، إضافة إلى إمكانية استخدام الكاميرا لمسح البيئة المحيطة لأغراض الواقع المعزز، ولعل من أبرز الأمثلة الواقعية فضيحة كامبريدج أناليتيكا بالولايات المتحدة وبريطانيا، حيث استُغلت منصة فايسبوك لجمع بيانات من حسابات المستخدمين، وشبكات أصدقائهم، وتفاعلات أجهزتهم دون موافقة كاملة، ما ساعد على التأثير في الانتخابات عبر الاستهداف الدقيق للناخبين بإعلانات قائمة على ملفات نفسية مبنية من تسجيلات الإعجاب والمنشورات والمواقع، هذه القضية أبرزت فيما بعد خطورة توظيف البيانات الشخصية في السياسة والإعلام على نطاق عالمي، وفتحت الكثير من الأسئلة حولة استقلالية المستخدمين في اتخاذهم للقرارات.

الأيام نيوز: بعد جمع هذه البيانات، أين تذهب فعليا؟ هل تبقى مخزنة في الهاتف نفسه، أم ترسل إلى خوادم خارجية؟ وكيف تتم عملية التخزين هناك؟ 

خالد بومخيلة: عادةً ما لا تبقى البيانات المجمّعة عبر الهواتف الذكية على الجهاز نفسه، بل تُرسل إلى خوادم خارجية ضخمة تديرها شركات التكنولوجيا أو مزوّدو الخدمات السحابية. ويُحتفظ محلياً بجزء محدود فقط، مثل الصور في المعرض أو الملفات المؤقتة للتطبيقات، وذلك لتسهيل الوصول السريع أو الاستخدام من دون اتصال بالإنترنت. أما الجزء الأكبر فيُرفع تلقائياً إلى السحابة عبر بروتوكولات مشفّرة مثل HTTPS، سواء عند الاتصال بشبكة "واي فاي" أو عبر بيانات الهاتف، وغالباً في حزم صغيرة لتقليل استهلاك الطاقة، وبمجرد وصول البيانات إلى الخوادم، تُخزّن داخل قواعد بيانات موزعة أو مستودعات بيانات ضخمة، مصممة للتوسّع لتستوعب ملايين المستخدمين في الوقت نفسه. هذه البنية تتيح للشركات تنظيم البيانات وتحليلها بسرعة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، سواء لأغراض تحسين الخدمات أو لتوجيه الإعلانات المخصّصة. ولتقريب الصورة أكثر، فإنه عند رفع المستخدم صورة إلى خدمة مثل Google Photos أو iCloud، تقوم خوادم الشركة بتخزينها مرفقة بالبيانات الوصفية (المكان، التاريخ، نوع الجهاز). وبالمثل، ترسل بيانات الاستماع في تطبيقات مثل سبوتيفاي إلى الخوادم لتخصيص التوصيات.

الأيام نيوز: كيف تتحول هذه البيانات الخام إلى معلومات دقيقة تُستخدم لأغراض اقتصادية وتجارية؟ هل يمكن أن تقدّم لنا مثالا مبسطًا يوضح هذه العملية؟ 

خالد بومخيلة: تعد عملية تحويل البيانات الخام إلى معلومات قابلة للاستثمار اقتصادياً وتجاريّا عملية معقدة، حيث تبدأ بتنظيف البيانات وتوحيدها لإزالة الأخطاء والتكرارات، ثم تُغنى بدمجها مع مجموعات بيانات إضافية لتوفير رؤية أكثر شمولية عن المستخدم. فمثلا يمكن دمج بيانات الموقع مع المعطيات الديموغرافية أو سجل المشتريات، بعد ذلك، تُستخدم خوارزميات التحليل (ومنها التعلم الآلي) لاستخلاص الأنماط والتنبؤ بالسلوكيات المستقبلية، وتُعرض نتائج هذه التحليلات في تقارير ولوحات متابعة تسهّل اتخاذ قرارات استراتيجية. وكمثال واقعي يحدث للمستخدمين بشكل يومي، عندما يمنح المستخدم إذناً للتطبيق بالوصول إلى الموقع الجغرافي والكاميرا، يمكن للمنصة تتبّع الأماكن التي يسجّل منها مقاطع الفيديو. فإذا لاحظت الخوارزميات أنّ المستخدم يصوّر باستمرار قرب مكتبات أو معارض كتب، ويشاهد مقاطع مرتبطة بالتعليم والدروس، فإن التطبيق يستنتج أنّه مهتم بالمطالعة أو بالتعلّم، وبناءً على ذلك، قد تُعرض له إعلانات عن دورات تكوين عبر الإنترنت، أو كتب رقمية، أو أدوات مدرسية، وهنا يتحول إذن بسيط – كالوصول للموقع والكاميرا – إلى قناة تُنتج ملفاً رقمياً دقيقاً، يُستثمر لاحقاً في توجيه محتوى تجاري وتعليمي مخصّص، هذا التحويل من بيانات خام إلى تسويق موجّه يشكّل العمود الفقري للاقتصاد الرقمي المعاصر. فشركات كبرى مثل Google وأمازون تعتمد على تحليل سلوك البحث والتصفح لتخصيص توصيات المنتجات وزيادة المبيعات بشكل فعّال. 

الأيام نيوز: من الناحية التكنولوجية، هل يملك المستخدم العادي إمكانية إخفاء بياناته أو التحكم فيها؟ أم أن الحماية الكاملة شبه مستحيلة أمام قوة هذه الشركات؟ 

خالد بومخيلة: بالرغم من توافر أدوات تقنية تمنح المستخدم بعض التحكم في بياناته، فإن الحماية الكاملة تظل شبه مستحيلة أمام قدرات الشركات الرقمية، وتوفر أنظمة التشغيل مثلAndroid و iOS إعدادات لإدارة الأذونات، وتعطيل التتبع الإعلاني، واستخدام أدوات إضافية كالشبكات الافتراضية VPN أو برامج حجب الإعلانات، حيث تقوم هذه الوسائل على بروتوكولات التشفير والحجب، وتتيح مثلاً منع التطبيقات من الوصول إلى محدد الموقع أو الميكروفون، غير أن معظم التطبيقات تحتاج إلى صلاحيات موسّعة كي تعمل بكفاءة، بل إن بعضها يفرض على المستخدم تفعيل الأذونات من أجل التشغيل، إلى جانب ذلك، تعتمد الشركات المصممة للتطبيقات تقنيات متقدمة مثل "البصمة الرقمية" أو "التتبع عبر التطبيقات، التي تتيح جمع البيانات حتى في غياب ملفات تعريف الارتباط. ومن الناحية العملية، تظل سياسات الخصوصية معقدة، ما يقلل من قدرة المستخدم العادي على اتخاذ قرارات واعية. وحتى عند رفض الإعلانات الموجّهة، لا تختفي الإعلانات بل تصبح أقل صلة. مثال على ذلك ما حدث مع سياسة شفافية تتبع التطبيقات (ATT) التي أطلقتها آبل عام 2021، إذ سمحت للمستخدمين بحظر التتبع الإعلاني، ما أدى إلى خسائر لشركات التكنولوجيا قدرت ب13%. ورغم ذلك، فإن شركات مثل Meta استطاعت تجاوز هذه العقبة عبر استنتاج سلوكيات المستخدمين من إشارات أخرى، وخلاصة القول أنه بالرغم من إمكانية الأدوات التقنية في التقليل من حجم البيانات المتدفقة، فإن الفجوة بين قدرات المستخدم الفردي وموارد الشركات العملاقة تجعل حماية الخصوصية معركة مفتوحة لا حسم لها.

الأيام نيوز: في رأيك، هل يدرك المستخدم الجزائري أو العربي حجم البيانات التي ينتجها يوميا؟ وما الذي يمكن فعله لرفع وعيه بخطورة ما يحدث خلف شاشة الهاتف؟

خالد بومخيلة: يُرجَّح أن المستخدمين في الجزائر والعالم العربي يقللون من شأن الحجم الهائل للبيانات التي تولدها الهواتف الذكية يوميًا—من إشارات الموقع، وسجلات استخدام التطبيقات، وعمليات البحث—والتي قد تصل إلى 5 جيغابايت سنويًا، وذلك نتيجة محدودية النقاش العام حول الخصوصية وحداثة الأطر القانونية. فمع أن الجزائر أقرّت القانون 18-07 المتعلق بحماية البيانات، إلا أن الانتهاكات تبقى شائعة، مثل حادثة عام 2024 التي شهدت بيع بيانات 500 ألف مواطن جزائري في شبكة "الويب المظلم". وقد أشارت تقارير أعدتها مؤسسة GSMA إلى ضعف الوعي العام في ظل ارتفاع مشاركة البيانات، ويعكس ذلك اتجاهًا عالميًا يتمثل في تجاهل المستخدمين لعمليات الجمع الخفية للبيانات، وكاستراتيجية لتعزيز الوعي الرقمي، فإنه ينبغي على الحكومات والمنظمات غير الحكومية إطلاق حملات عبر وسائل الإعلام والمدارس، تشرح المخاطر مثل الإعلانات المستهدفة أو تسريبات البيانات. ويمكن أن تشمل الاستراتيجيات لوحات تحكم للخصوصية داخل التطبيقات، وورش عمل لتعليم ضبط الإعدادات، وإبراز مخاطر الأذونات الممنوحة للتطبيقات، مما قد يشجع على عادات رقمية أكثر وعيًا.

كحوصلة لما سبق، يتضح بأن الهواتف الذكية أصبحت أدوات قوية لجمع البيانات الشخصية بشكل مستمر، وتُستخدم هذه البيانات في أغراض تجارية وسياسية متنوعة، ورغم توفر بعض أدوات التحكم، إلا أن حماية الخصوصية تظل تحدياً كبيراً أمام قوة الشركات التقنية وتعقيد السياسات، لذا فمن الضروري زيادة وعي المستخدمين العربيين بأهمية حماية بياناتهم، وتعزيز التشريعات والتثقيف لتمكينهم من اتخاذ قرارات أكثر وعيًا. ففهم حجم البيانات المجمعة وطرق استغلالها هو الخطوة الأساسية نحو حماية أكبر لخصوصيتهم.