2025.09.30



\

"الأيام نيوز" تحاور د. ممدوح جبر المساعد السابق لوزير الخارجية الفلسطيني.. السياسة تتحول إلى شهادة إنسانية.. فلسطين أمام ضمير العالم


حين يتكلم الدكتور ممدوح جبر، فإن صوته لا يأتي من مقعد أكاديمي بارد ولا من منبر إعلامي عابر، بل من قلب التجربة الفلسطينية بكل تعقيداتها وجراحها. فهو أستاذ العلوم السياسية الذي تمرّس في قراءة خرائط الصراع، ومساعد وزير الخارجية الفلسطيني السابق الذي عايش دهاليز الدبلوماسية، والمحلل الحاضر بقوة في كبريات الفضائيات العربية، حيث يقدّم خطابًا لا يهادن ويضع الحقائق أمام الأمة والعالم.

في هذا الحوار، يأخذنا جبر عبر محاور خمسة، تبدأ من المشهد الإنساني والحرب في غزة، وتمتد إلى مستقبل القطاع والبيت الفلسطيني الداخلي، ثم الشرعية الدولية والاعتراف بالدولة الفلسطينية، مرورًا بـ الأبعاد الإقليمية والدولية، وصولًا إلى رسالة للأجيال الجديدة التي وُلدت وسط الحصار والحروب.

كلماته ليست مجرد تحليل سياسي، بل شهادة على زمن الإبادة ونداء لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني. وبين السطور، يحضر الوعي المقاوم، واليقين بأن فلسطين ستبقى معيارًا لاختبار القيم الإنسانية وميزانًا لصدق الشعارات العالمية.

الأيام نيوز: كيف تصفون المشهد اليومي في غزة تحت نار حرب الإبادة، وما الذي يميّزه عن الحروب السابقة؟

د. ممدوح جبر: أعتقد أن العالم اتفق بصفة عامة على أن ما يقوم به الكيان الصهيوني دخل مرحلة الإبادة والتطهير العرقي، من خلال القتل الجماعي للأطفال والنساء والشيوخ. وما يسعى إليه اليمين المتطرف يبرز الصورة الحقيقية لهذا الكيان، القائم على استمرارية الحروب منذ إنشائه بقرار أممي. ما يميز هذه الحرب بشكل واضح هو استخدام الأقمار الصناعية لبث القتل مباشرة أمام الإنسانية، وهي المرة الأولى في تاريخ البشرية التي يشاهد فيها الإنسان هذه البشاعة من الحركة الصهيونية بشكل مباشر وعلني.

الأيام نيوز: هل يمكن القول إن ما يجري في غزة هو مجرد تصعيد عسكري، أم أنه فصل جديد من مشروع استراتيجي يستهدف وجود الشعب الفلسطيني؟

د. ممدوح جبر: العمل الجاد من قبل "إسرائيل" يتمثل في استهداف الإنسان والأرض الفلسطينية، وهو حلقة استراتيجية متواصلة من خلال أبعادها كعملية أمنية ودفاعية تتجاوز حقيقة الرد التقليدي في الحروب. وقد شمل الاستهداف أكثر من 90% من البنية التحتية، بما في ذلك المدارس والجامعات والمستشفيات والمرافق الحيوية الأخرى.

وتتعمد "إسرائيل" قصف التجمعات السكانية بحجة تتبع القيادات، ودفع المواطنين للنزوح القسري، خوفًا من حجم القصف الجوي والبري، بهدف كسر تركيبة المجتمع على عدة مستويات.

وبالمناسبة، تسعى أيضًا لإعادة هندسة قطاع غزة على المستوى الجيوسياسي، كخطة استراتيجية بعيدة المدى، يتم تنفيذها بهدوء وبشكل مترابط ومنظم عسكريًا.

الأيام نيوز: كيف انعكست مشاهد المجاعة والتجويع على صورة "إسرائيل" في العالم، وهل يمكن أن تتحول هذه المشاهد إلى نقطة تحوّل أخلاقية في الرأي العام الغربي؟

د. ممدوح جبر: هناك ارتدادات أخلاقية ظهرت في الآونة الأخيرة على المستوى الأوروبي والدولي، من صور لطوابير المساعدات الغذائية، والأطفال الذين يخسرون أرواحهم نتيجة سوء التغذية، ما يفرض على الإنسانية مواجهة صورة الصهيونية القاتمة. ورغم أن هذا التطور في دعم القضية الفلسطينية إيجابي، إلا أنه معقد ومتداخل مع العديد من الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، إلى درجة أننا لم نصل بعد إلى فرضية الحسم والمواجهة الفعلية مع الكيان الصهيوني.

لقد خسرت "إسرائيل" تمامًا فرضية أنها الضحية منذ الحرب العالمية الثانية، لتصبح الجلاد تحت حجّة الدفاع عن النفس. ومع تصاعد الإعلام ضد سلوك الجيش غير الأخلاقي، فقدت الصهيونية مصداقية حجتها، وأصبحت في نظر العالم تستخدم الغذاء كوسيلة قتالية ضد المجتمع المدني، أي أنها تتحمل صفة التجويع الممنهج.

كل هذا دفع الأجيال الصاعدة من شباب الجامعات إلى المشاركة في مسيرات ضخمة في الجامعات الأمريكية والأوروبية ومختلف أنحاء العالم، مدعومة من وسائل التواصل الاجتماعي، حتى استطاعت كسر احتكار اللوبي الصهيوني لروايته الإعلامية، وصد الحرب النفسية الموجهة ضد شباب المستقبل. وهذا ما جعل هذا الكيان يفقد مصداقيته، وتراجع الإجماع الدولي حوله.

الأيام نيوز: ما هي السيناريوهات الواقعية لمستقبل غزة بعد الحرب: إدارة دولية، سلطة فلسطينية، أم فرض واقع الاحتلال المباشر؟

د. ممدوح جبر: إذا نظرنا إلى الأهداف الصهيونية، فإنها لا ترى غزة إلا كمناطق معزولة عن بعضها، مع طوق أمني مباشر من الشمال والشرق والجنوب، والغرب تجاه البحر، مع السيطرة الجوية الكاملة. ولذلك، فهي ترفض أي تفاهم سياسي حتى ما بعد اليوم التالي، وتستمر في وضع العراقيل وتدمير الهوية الإنسانية للفلسطينيين تحت فرضية إدارة الأمر الواقع.

ولها أيضًا أبعاد أخرى، مثل وجود قوات دولية وعربية لإدارة غزة لفترة ما، مع مشاركة تدريجية للسلطة الفلسطينية في استلام الحكم، بعد تدريب الآلاف من أفراد الشرطة في مصر والبعض الآخر في الأردن.

أما البعد الآخر فيتعلق بوضع قطاع غزة تحت الوصاية الدولية، شريطة أن يكون لمصر دور تنفيذي وفعال، بالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقرار سياسي قوي من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أو مجلس الأمن.

وأخيرًا، تأتي صياغة عربية والوحدة الوطنية الفلسطينية، مدعومة بخطة لإعمار غزة في اليوم التالي بعد الحرب، والتي حصلت على دعم واسع من العالم العربي والإسلامي والدولي.

الأيام نيوز: هل تتوقعون أن تؤدي الحرب الحالية إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية الفلسطينية الداخلية؟

د. ممدوح جبر: هناك حقيقة تحول في صياغة الفكر السياسي الفلسطيني مما قبل السابع من أكتوبر عما بعده، نتيجة هذا الدمار والتدخلات الإقليمية والدولية. ومن المؤكد أن لهذا التحول بصماته على البعد الجيوسياسي الفلسطيني، وعلى الجميع بلا استثناء أن يدرك مدى خطورة الترهل والانقسام وتفتيت السياسة الفلسطينية وفق المصالح الخارجية أو الأجندات الدولية. ومما نلاحظ، أن هناك دورًا فعالًا للمساعي الأوروبية، مع مشاركة أمريكية غير ملحوظة، لدعم السلطة في إبراز دورها المركزي لليوم التالي لغزة. ويتم ذلك من خلال المطالبات بالإصلاح لمؤسسات السلطة، وتجديد خلايا وبنية القيادة، وتشكيل حكومة تكنوقراط، ومحاسبة الفساد.

 ويجب أن يتم كل ذلك تحت مظلة عربية وأوروبية، بعيدًا عن الحماية الإسرائيلية والأمريكية، لضمان استقلالية القرار الوطني الفلسطيني وتحقيق أهداف الإصلاح والمصالحة.

الأيام نيوز: حركة فتح اليوم، كيف تقرأ نفسها بعد عقود من النضال، وهل لا تزال قادرة على أن تكون الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني؟

د. ممدوح جبر: سؤالك مهم ويضع النقاط على الحروف، خصوصًا أن حركة فتح ما تزال تحمل في طياتها فرضية كونها العمود الفقري للقضية الفلسطينية، نظرًا لانطلاقتها التاريخية كمؤسسة للرَّصاصة الأولى وما تملكه من علاقات دولية شملت ثلثي دول العالم دعماً للشرعية الفلسطينية ورئاستها لمنظمة التحرير الفلسطينية. وشعارها بأن البندقية المسيسة هي الطريق الوحيد نحو فلسطين يعطيها زخمًا شعبيًا ودوليًا وإقليميًا على مستوى السيطرة، حتى وإن خسرت في المرحلة الأخيرة بعضًا من شعبيتها نتيجة اعتمادها على المقاومة الشعبية، وخصوصًا في الضفة الغربية حيث لا تملك استقلالية عن الاحتلال، وفرضية سرطان الاستيطان وعبث المستوطنين وعدم القدرة على مواجهتهم.

كما أن الانقسام داخل تيارات فتح، مع تضارب الخطاب السياسي وأزمة تجديد القيادة، وغياب الزعيم ياسر عرفات صاحب الكاريزما، والذي لم يختلف عليه اثنان داخل أروقة السياسة الفلسطينية، بعد استشهاده وما يتم من تعمد لإفشال اتفاق أوسلو، يجعل من الضروري التمعن في مدى قدرتها على الاستمرارية كمثل شرعي ووحيد، لأنها ستكون إجابة معقدة ومتعددة الجوانب لتثبيت ذلك.

فالشرعية الرسمية لحركة فتح قائمة محليًا وإقليميًا ودوليًا، ومع ذلك هناك هزة حقيقية داخل الشارع الوطني. ومع ذلك، فهي ما تزال تملك العديد من الأدوات للبقاء على رأس الحكم، خصوصًا بعد ستة حروب لم ينتج عنها سوى الدمار دون أدنى مستوى من تحقيق المطالب الوطنية.

وهنا يجب التركيز على بدء عملية جديدة للقبول بالمشاركة الوطنية، حتى وإن كان ذلك على حساب المجلس الوطني والمركزي، والعودة الجادة لتحقيق الشرعية من خلال انتخابات المجلس التشريعي والوطني والرئاسي، مع إدخال الدور المهم للشباب في صياغة القيادة. وأخيرًا، العودة الكاملة للشعب وثقته المتواصلة تجاه الحركة والمنظمة.

الأيام نيوز: في ظل انقسام البيت الفلسطيني، كيف يمكن إعادة صياغة مشروع وطني جامع يتجاوز الحسابات الفصائلية؟

د. ممدوح جبر: أعتقد أن عملية الإصلاح السياسي والانتخابات، وعودة الشرعية المتوازية بين جميع الفصائل بشموليّتها للعمل تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، تمثل خطوة أساسية نحو بناء شرعية مزدوجة، شعبية وفصائلية، مع المرونة في كيفية استخدام البندقية والقلم في آن واحد. ويشمل ذلك تطبيق مبدأ المساءلة والشفافية، ومحاربة الفساد ومنظومته المتشعبة، ما يمنحنا حقيقة الأمل في تأسيس إطار وطني متكامل، ودمج ذلك مع قرارات المجلس الوطني وتثبيتها عبر المجلس المركزي.

ومع ذلك، يجب أيضًا التركيز على الدعم والحوافز الإقليمية والدولية لتعزيز جميع ملفات الإصلاح والمصالحة، بما يضمن استدامة العملية الوطنية وتثبيت الإنجازات.

الأيام نيوز: ما الذي يعنيه اعتراف بعض الدول الكبرى بالدولة الفلسطينية في هذا التوقيت بالذات؟ وهل هو مجرد خطوة رمزية أم رافعة سياسية حقيقية؟

د. ممدح جبر: سبق أن تحدثنا أن ما قبل السابع من أكتوبر يختلف عما بعده فيما يتعلق بالطوفان الدبلوماسي تجاه حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين كأداة ضغط وورقة سياسية لتشكيل قواعد اللعبة السياسية بعد الحرب. والسؤال هنا: هل سيكون هناك فعلاً مواقف وهوية قوية للدول المؤثرة في تثبيت وتنفيذ حل الدولتين، مع الأخذ في الاعتبار أن دولة "الكيان الصهيوني" أنشئت بقرار أممي؟

إذاً، لماذا لا يكون هناك أيضًا تحديث لقرار 181 وإعلان دولة فلسطين؟ ومع ذلك، نرى حقيقة من خلال الغرف المغلقة أن هناك العديد من الدلالات السياسية في اعتراف العالم، وخصوصًا الأوروبي، بدولة فلسطين، حيث تم كسر الرواية الصهيونية، وأصبح واضحًا أن للفلسطينيين الحق في دولتهم، وفق قرارات الأمم المتحدة، كونهم شعبًا تحت الاحتلال والاضطهاد. والمطلوب الآن موقف دولي ثابت لتثبيت ذلك، خصوصًا بعد المشاهد التي تكشف فقدان الإنسانية، من المجاعة والحصار والقتل، ما يمكن تسميته بمثلث الرعب.

وأخيرًا، يمثل هذا الاعتراف ضغطًا لوقف الحرب، ومجاراة للنجاح الساحق للدبلوماسية الشعبية في عواصم العالم. كما يعكس شمولية فكرة عودة الهوية الأوروبية لتعزيز مكانتها، وخصوصًا في الشرق الأوسط.

لن تكون الاعترافات رمزية فحسب، بل قانونية وشرعية، تجاه الحقوق المسلوبة منذ عقود، وتعد رافعة سياسية للعمل الجاد لوضع دولة فلسطين كعضو رسمي في الأمم المتحدة.

الأيام نيوز: كيف يؤثر هذا الاعتراف على معادلة الصراع: هل يقوي الموقف الفلسطيني أم يُستخدم كورقة مساومة دولية؟

د. ممدوح جبر: طالما أن "إسرائيل" كانت تردد عدم وجود شريك فلسطيني، فإن هذا الاعتراف يعطي دفعة كبيرة لإظهار "إسرائيل" كدولة مارقة على القانون الدولي، وترفض الحلول السياسية لبناء السلام على أرض السلام. وهذا قد يجعلها تعيش حالة من العزلة الدولية وفرض عقوبات عليها، كما حدث مع نظام الأبارتهيد في جنوب أفريقيا من حيث القيود العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية.

ومع قناعتنا بأنه طالما هناك فيتو أمريكي، فلن ترضخ "إسرائيل" كثيرًا لهذه العقوبات، إلا أن هذا الاعتراف سيعطي شرعية دولية متزايدة لدولة فلسطين، ويعزز القانون الدولي والإنساني في أحقية وجودها، ويزيد من الرمزية الفلسطينية في أروقة الأمم المتحدة، ويرفع مكانة المنظمة كمثل شرعي للشعب الفلسطيني الوحيد.

الأيام نيوز: كيف تقرأون موقف الولايات المتحدة الذي يراوح بين الدعم غير المحدود لإسرائيل والحديث عن حل الدولتين؟

د. ممدوح جبر: هناك تناقض واضح أمام العالم فيما يصدر من دعم أعمى، سواء كان سياسيًا أو عسكريًا أو حتى إعلاميًا، كما يتضح من تأثير اللوبي الصهيوني والإعلام التابع له. ومع ذلك، ترسل الولايات المتحدة مؤشرات تدعم حل الدولتين، مدعية أن هذا هو التماسك الحقيقي لدوافعها الاستراتيجية تجاه أمن "إسرائيل" كأولوية وركيزة لتحالفها الاستراتيجي، خاصة تجاه أعدائها، مع السعي لبقاء "إسرائيل" الأثري في المنطقة حمايةً لمصالحها وقواعدها في الشرق الأوسط.

ويضاف إلى ذلك الدور الكبير للّوبيات الصهيونية، سواء في الكونغرس والنواب أو عبر تيارات الدعم لإسرائيل، ومدى تأثير ذلك على الانتخابات الأمريكية. كما يرتبط الحلم الترامبي بإدارة ملف غزة، وتقييد نفوذ إيران ومحورها، وفي الوقت ذاته منع انهيار السلطة الفلسطينية.

كل ذلك يؤكد حقيقة أن أمريكا أصبحت طرفًا رئيسيًا في معركة غزة، وقد خرجت من دور الوسيط التقليدي إلى دور الفاعلية المباشرة في الأحداث.

الأيام نيوز: أين تقف القوى الإقليمية الفاعلة، مثل إيران وتركيا ومصر، في هذه اللحظة الحرجة، وهل تتصارع مشاريعها على حساب غزة؟

د. ممدوح جبر: غزة الآن أصبحت، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، تؤثر وتتأثر بالمشهد الإقليمي القائم، من خلال الضغط الدولي المتزايد والحرب القائمة التي تشبه الإبادة. وبالرغم من أن العديد من الدول أعلنت موقفها الواضح والصريح لدعم غزة، إلا أن مصالحها الاقتصادية تركت بصمات واضحة على عدم الجدية في اتخاذ قرارات حاسمة ضد الجرائم الصهيونية.

فعلى سبيل المثال، إيران، رغم دعمها اللوجستي والمادي والإعلامي لحركات المقاومة الإسلامية، توظف هذا الدعم في طاولة المفاوضات حول الملف النووي والعقوبات المفروضة عليها، وتسعى منذ الثورة الإسلامية في نهاية السبعينيات إلى تعزيز وتثبيت دورها الإقليمي من خلال المحور الإيراني القائم في عدة دول عربية.

أما على المستوى التركي، ورغم المبادرات والمساعدات، فإن التنسيق قائم بين تركيا و"إسرائيل"، ونحن لا نرغب في التدخل بالشؤون الداخلية لأي دولة. ومع ذلك، المطلوب عربياً وإسلامياً وقفة جادة من أجل وقف الإبادة في غزة. السيد أردوغان يسعى دائمًا لتحسين صورته الداخلية، وأن يكون لتركيا دور فعال ضمن القوة السنية، لكنها لا ترغب أيضًا في خسارة أمريكا أو "إسرائيل"، كما أن ملف الطاقة في الشرق الأوسط يبقى مؤثرًا على البعد الاقتصادي لدورها.

أما مصر، وهي الوسيط المحوري، فتقف بقوة ضد فرضيات التهجير القسري من غزة إلى سيناء، حيث يعتبر ذلك مخالفًا للبروتوكول الأمني لاتفاقية كامب ديفيد. لذلك يعتبر الجيش المصري هذا خطًا أحمر استراتيجيًا على مستوى الأمن القومي المصري. وحقيقةً، لمصر العديد من الاعتبارات للبقاء على هذه النمطية، فهي تسعى للحفاظ على وضعها القيادي، والبقاء في موقع الوسيط، لكنها ترفض تمامًا أي سيناريو قد يؤدي إلى الفوضى، بما في ذلك التهجير القسري من غزة.

الأيام نيوز: كيف انعكست هذه الحرب على الشارع العربي والإسلامي، وهل يمكن أن تعيد إحياء مفهوم الوحدة الشعبية في مواجهة الاحتلال؟

د. ممدوح جبر: إن ما يمر به الشارع العربي والإسلامي من أزمات وقهر تجاه ما يجري في غزة والضفة قد يجعلنا ننتظر حالة من التحول في البنية العقلية والسلوكية، وانعطافًا خطيرًا قد يؤجج المنطقة بأكملها، ويعيد المركزية لقضية فلسطين بعد سنوات من تراجعها منذ الربيع العربي. فقد أصبح الوجدان الإسلامي والعربي والدولي ينظر إلى ما يجري في القطاع على أنه إبادة كاملة للشعب الفلسطيني.

وهذا ما نراه بوضوح في وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية، حيث برزت الاحتجاجات الشعبية التي تعكس فقدان الثقة في الكثير من الدول المطبعة، والمطالبة بوقف هذه الانتهاكات.

ولم يكن من بدّ إلا التفكير الجاد نحو تعزيز الوحدة العربية وحتى الإسلامية، مع بروز العديد من المظاهر الجديدة والحملات المتنوعة الداعمة للقضية، وتصاعد الدعوات لمقاطعة "إسرائيل" وفرض خسائر على الاقتصاد الإسرائيلي.

والرأي واضح هنا: لقد استطاعت الدبلوماسية الشعبية أن تفرض أجندتها على البرلمانات والحكومات في تقديم الدعم لفلسطين، لتصبح القضية الفلسطينية في قلب ووجدان الوعي العربي والإسلامي والدولي.

الأيام نيوز: هل نحن أمام لحظة يمكن أن تعيد ترتيب الأوراق في النظام الدولي، بحيث تصبح القضية الفلسطينية اختبارًا لمصداقية القيم الغربية؟

د. ممدوح جبر: حقيقة أن ما قبل السابع من أكتوبر يختلف عما بعده، انطلاقًا من أن القضية الفلسطينية خرجت من ثوب البعد الإقليمي إلى أفق القيم الإنسانية في العالم المعاصر، لتصبح اختبارًا لمدى مصداقية هذه القيم الأخلاقية لدى المجتمع الدولي. لقد كشفت الأحداث ازدواجية معايير الغرب، بين دعمه وتحالفه من أجل أوكرانيا، وبين موقفه المتذبذب تجاه "إسرائيل" في حربها ضد الفلسطينيين، إذ لم يتحول هذا الدعم إلى فعل ملموس حتى الآن، بل ظل قولا فقط.

هذا الوضع أظهر عدم مصداقية الخطاب الليبرالي تجاه القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، من الطفل إلى المرأة، ما دفع البعض للنظر إلى هذه الدول على أنها طرف في الصراع الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وليست القوة الأخلاقية الوحيدة. في المقابل، برزت عدة قوى داعمة للقضية الفلسطينية، من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحتى روسيا والصين، مما أظهر تصدعًا واضحًا في الرؤية الأخلاقية والنظام العالمي التقليدي، وسط الفشل الدائم لمجلس الأمن نتيجة الفيتو الأمريكي، الذي جعل هذه الدولة الداعمة للإرهاب الصهيوني محل نبذ وكراهية من شعوب العالم.

ما سبق يلقي الضوء على الأزمة المتعلقة بحقوق الإنسان، ليصبح فلسطين مرآة للتناقض النظري والعملي. وهنا برزت الاحتجاجات والحملات الضخمة الداعمة للقضية الفلسطينية، لتبرز الانقسامات الواضحة بين الحكومات الداعمة لـ"إسرائيل"، وبين شعوبها التي ترى في "إسرائيل" كيانًا خارِجًا عن القانون وعبئًا سياسيًا وأخلاقيًا على الإنسانية.

الأيام نيوز: إلى أي حد يمكن أن يشكل صمود غزة إلهامًا لحركات التحرر في العالم، كما ألهمت الثورة الجزائرية في زمنها؟

د. ممدوح جبر: إن ثورة الجزائر العظيمة في خمسينيات القرن الماضي وحتى الستينيات برزت لتصبح رمزًا للتحرر الوطني ومصدر إلهام عالمي للعديد من الحركات التحررية حول العالم، تمامًا كما هو الحال الآن في غزة والضفة الغربية، حيث أصبحت قضية فلسطين رمزًا للمقاومة والصمود أمام أعظم القوى في منطقة الشرق الأوسط. هذا الوضع حول القضية الفلسطينية إلى أيقونة نضالية إنسانية، كما كان الحال مع الثورة الجزائرية العملاقة، التي اتسمت بصعود واضح لحركات التحرر، وعلى رأسها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، التي تلقت الدعم اللوجستي والسياسي والدبلوماسي حتى اليوم من بلد المليون ونصف شهيد.

كل هذا أنتج سردية إنسانية وأخلاقية تخاطب القيم الإنسانية والعدالة والتحرر، مع إحياء الروح النضالية لدى شعوب المنطقة، في ظل وجود بركان داخلي داخل المجتمعات العربية والإسلامية وحتى الدولية. كما أن التفوق التكنولوجي لن يمنح النصر المطلق الذي يطمح إليه نتنياهو وزمرة اليمين المتطرف، وما تصدره شبكات التواصل الاجتماعي من تنديد بأعمال التطرف والإرهاب الصهيوني سينعكس لا محالة على مجتمعهم وحياتهم، سواء داخل الكيان الصهيوني أو في دول العالم، ليواجهوا النبذ والرفض من الجميع.

الأيام نيوز: كيف تتخيلون ملامح القضية الفلسطينية بعد عشر سنوات إذا استمر هذا المسار؟ دولة مجزأة؟ كيان تحت الوصاية؟ أم نواة مقاومة متجددة؟

د. ممدوح جبر: أعتقد أن مدى قوة الضغط الأمريكي والإسرائيلي سيجعل من القضية الفلسطينية ذات أبعاد محدودة للتحرر، حيث تُفرض الإدارة الذاتية المحدودة بدل قيام دولة فلسطين، وهذا يعني السيطرة المطلقة على المنطقة ضمن مسلسل أدوات التطبيع، وتسريع مسار التطبيع.

بمعنى آخر، ستكون الدولة الفلسطينية ضعيفة ومجزأة، ولا تمتلك سيادة سياسية حقيقية تمنح الفلسطينيين أملًا في إعادة إعمار غزة أو منع توسع المستوطنات، وهو ما يعني استمرار نهب وسرقة أراضي الضفة الغربية، كما صرح بذلك اليميني المتطرف سموتريتش ورفيقه الإرهابي صاحب الخمسين قضية جنائية، بن غفير.

وفي هذا السياق، على الأمة العربية والإسلامية أن تنتبه جيدًا إلى إمكانية تفاقم الكارثة الإنسانية، مما قد يدفع المجتمع الدولي للتدخل المباشر، سواء عبر سلطة انتقالية تحت الوصاية الدولية، مع إدماج أطراف عربية وإقليمية في إدارة الملف الفلسطيني، وتجميد أي مسار تفاوضي حول حل الدولتين لصالح إدارة إنسانية وأمنية طويلة الأمد.

وقد يكون هذا من بين الأهداف الإسرائيلية، وتحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إغاثي وإنساني بحت، لذلك فإن الأفضل هو إدراك حقيقة موقع المبادرة، واستعادة ثقافة النضال الوطني بجميع طرقه وأدواته، وفقًا لما نص عليه القانون الدولي الإنساني، مع إدراك اضمحلال المشاريع السياسية والمفاوضات التي لم تُفضِ إلى حل عادل، بما في ذلك حل الدولتين.

الأيام نيوز: ما هي رسالتكم للأجيال الفلسطينية الجديدة التي ولدت وسط الحصار والحروب، وتبحث عن أفق للحرية والكرامة؟

د. ممدوح جبر: الأمل دائمًا قائم لدى المناضل الفلسطيني، إذ يدرك من خلال وعيه أنه لا بد من استمرارية النضال. ومن هنا تنبثق ضرورة صياغة سلوك عملي وفكري يُنمّي أجيال الأمل والوعي والاستمرار في حالة الرباط، حتى يتحقق النصر وتتحرر القدس. هذا الحمل ثقيل على الأجيال القادمة، لكنه الأعظم في صياغة مستقبل باهر لهم، حيث يساهم في ترسيخ فرضية الوعي بالذات الوطنية والهوية السياسية، لتصبح هذه الوعي والمقاومة وثقافة الإنسانية. فالذاكرة والتمسك بها خطوة عاجلة نحو ترسيخ الكرامة والحرية، وبناء القوة المعرفية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، كوسيلة إعلامية رقمية قادرة على صياغة سردية إنسانية وسياسية وثقافية وعلمية للعالم حول طبيعة القضية الفلسطينية وما يعانيه حاملها.

وهنا يبرز التركيز على العمل من أجل إنهاء الانقسام الداخلي، لتكون وحدتنا رؤية المناضل الحقيقي الساعي نحو التحرير، وبناء قيادات شابة مستقبلية لديها القدرة على العمل الجماعي والتغلب على الماضي، لبناء مستقبل داعم للسردية الفلسطينية، التي تنقل عبر أدوات التكنولوجيا معاناة الطفل والمرأة الفلسطينية، وصمودها وإصرارها على الوصول إلى فرضية السلام وحل الدولتين.

ولا يفوتني، من خلال منبركم الكريم، أن أتقدم بالشكر الجزيل على إتاحة هذه الفرصة الرائعة لنخاطب شعبًا عظيمًا بعظمة ثورته المجيدة وتاريخه التليد، ليحمل رسالة صمود وقصة كفاح الشعب الفلسطيني إلى العالم، من أجل كسر جدار الصمت.