شهدت الجزائر خلال الأيام الماضية حدثا اقتصاديا بارزا تمثل في احتضانها لفعاليات معرض التجارة البينية الإفريقية "IATF 2025"، الذي استقطب مئات المؤسسات والهيئات من مختلف دول القارة، إضافة إلى حضور وفود دولية وإقليمية.
هذا المعرض لم يكن مجرد مساحة للتعريف بالمنتجات الوطنية أو عقد لقاءات ثنائية، بل شكل فضاء استراتيجيا لإعادة التفكير في موقع القارة الإفريقية في خارطة الاقتصاد العالمي، وترسيخ دور الجزائر كجسر للتكامل القاري.
وفي تصريح خص به الأيام نيوز، قدم مدير مؤسسة الدراسات الاقتصادية وتطوير المؤسسات، الدكتور حمزة بوغادي، تحليلا معمقا حول دلالات هذا الحدث، مؤكدا أن الجزائر لم تفز بشرف التنظيم اعتباطا، وإنما نتيجة حيازة مقومات ميدانية واستراتيجية جعلتها الوجهة الأنسب لهذا الموعد القاري.
الجزائر واستحقاق التنظيم
يبرز الدكتور بوغادي أن اختيار الجزائر لم يأت صدفة، بل كان ثمرة عوامل متكاملة. فمن جهة، تمتلك البلاد بنية تحتية عصرية تضم مطارات دولية مجهزة، شبكة طرق حديثة، فنادق راقية، ومساحات عرض متطورة تستجيب لمقاييس التظاهرات الكبرى.
ومن جهة أخرى، تتميز الجزائر بـ قدرات لوجستية عالية تسمح بمواكبة حدث بهذا الحجم، سواء من حيث النقل أو الإيواء أو الخدمات التنظيمية.
إلى جانب ذلك، يشكل الاستقرار السياسي والأمني عاملاً حاسماً في منح الثقة للشركاء والوفود القادمة من مختلف أنحاء العالم. كما أن تراكم الخبرات التنظيمية عبر احتضان الجزائر لمؤتمرات ومنتديات قارية ودولية عززت صورتها كوجهة موثوقة.
ويضاف إلى ذلك الموارد البشرية المؤهلة، حيث نجح الشباب الجزائري في إبراز صورة احترافية عبر إدارة فعّالة ومرنة للتفاصيل التنظيمية.
ويرى بوغادي أن هذه العوامل جعلت من الجزائر "جسرا حيويا يربط شمال إفريقيا بعمقها الجنوبي، ومركزا موثوقا لتنظيم التظاهرات القارية الكبرى".
مكاسب اقتصادية متعددة
يؤكد الخبير الاقتصادي أن المكاسب التي يحققها مثل هذا المعرض تتجاوز بكثير مجرد الترويج للمنتجات أو عقد بعض الصفقات، بل تنعكس على مستويات متعددة، على المستوى الجزئي، يتيح المعرض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة فرصة التعرف على منافسيها وأساليب عملهم، والاطلاع على تجارب ناجحة في مجالات الإنتاج والتسويق.
كما يمثل فضاءً لاكتشاف منتجات وأسواق جديدة داخل القارة، إلى جانب كونه مدرسة عملية تتيح تكوينا ميدانيا غير مباشر من خلال الاحتكاك بالخبرات الدولية.
أما على المستوى الكلي، فإن التظاهرة تساهم في تعزيز المبادلات التجارية بين الدول، وتفتح المجال أمام شراكات استراتيجية طويلة المدى، وتدعم مكانة الجزائر في المشهد الاقتصادي القاري.
وهنا يبرز بوغادي أن "الجزائر تراهن على هذه التظاهرات كأداة لتقوية حضورها الإفريقي وتوسيع صادراتها خارج المحروقات".
العودة إلى العمق الإفريقي
ويرى بوغادي أن الجزائر أعادت خلال السنوات الأخيرة تموقعها في قلب القارة الإفريقية، من خلال مشاريع كبرى ذات بعد استراتيجي. ومن أبرز هذه المشاريع الطريق العابر للصحراء الذي يربط شمال إفريقيا بوسطها، ويعتبر شريانا حيويا للتجارة البينية.
كما عملت الجزائر على توسيع خطوطها الجوية والبحرية لتشمل عددا متزايدا من العواصم الإفريقية، ما يعزز من انسيابية تنقل السلع والأشخاص. وفي الوقت ذاته، استثمرت في مشاريع بنى تحتية كبرى من شأنها دعم حركة المبادلات، سواء في مجال الطاقة أو المواصلات أو الخدمات.
وبحسب الخبير، فإن هذه المبادرات لا تعد مجرد مشاريع إنمائية، بل أدوات عملية لترجمة رؤية الجزائر القائمة على تحرير القارة من التبعية الاقتصادية وإرساء استقلالية القرار الإفريقي.
من الشعارات إلى الفعل
ويشدد الدكتور بوغادي على أن الجزائر تميزت عن غيرها بانتقالها من مرحلة رفع الشعارات إلى مرحلة التنفيذ العملي. فبدلا من الاكتفاء بالخطاب حول ضرورة الاندماج الإفريقي، بادرت بخطوات ملموسة، منها تأسيس الوكالة الجزائرية للتنمية التي تُعنى بدعم مشاريع ذات بعد قاري.
كما خصصت الدولة تمويلات معتبرة لدول الساحل، في إطار التضامن الاقتصادي ومكافحة الهشاشة. وإضافة إلى ذلك، تشارك الجزائر بفعالية في مؤسسات إفريقية رائدة مثل البنك الإفريقي للتنمية والبنك الإفريقي للتصدير والاستيراد، ما يعكس التزامها العملي بترقية التعاون القاري.
ويعتبر بوغادي أن هذه الخطوات "تجسد إرادة سياسية واضحة من الجزائر لترجمة خطاب التكامل إلى مبادرات ملموسة".
تحذيرات من التحديات القائمة
ورغم أهمية هذه الديناميكية، يحذر الخبير من المبالغة في التفاؤل، مشيرا إلى أن المعرض، على أهميته، لا يكفي وحده لحل المشكلات البنيوية التي تعرقل التكامل الإفريقي.
ومن أبرز هذه التحديات: ضعف المبادلات التجارية البينية التي لا تتعدى 15% من حجم التجارة الإجمالي للقارة، والتفاوت الكبير بين القدرات الاقتصادية والصناعية للدول الإفريقية، فضلا عن غياب أو ضعف البنى التحتية في العديد من المناطق.
كما أن اعتماد كثير من الاقتصادات على أساليب إنتاج تقليدية يزيد من هشاشتها، إضافة إلى الأزمات الإنسانية والأمنية المتكررة مثل الحروب والمجاعات. ولا يمكن إغفال استمرار النفوذ الأجنبي الذي يعيق أي شراكة حقيقية بين دول القارة.
ويؤكد بوغادي أن التكامل الاقتصادي الإفريقي سيبقى حلما مؤجلا إذا لم ترافقه إرادة سياسية موحدة وإصلاحات عميقة على مستوى كل دولة
حلول عملية ومسارات بديلة
وبحسب الخبير، فإن القيمة الحقيقية لمثل هذه التظاهرات تكمن في تحويلها إلى منصات لتوليد حلول عملية.
ومن بين المقترحات التي طُرحت خلال ورشات المعرض منها ،دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة باعتبارها الركيزة الأساسية للاقتصادات الوطنية، تشجيع الاستثمارات المشتركة وتعزيز سلاسل الإنتاج والتوزيع داخل القارة.
إلى جانب ابتكار آليات تمويل جديدة تُمكّن الدول ذات الاقتصادات الضعيفة من الاندماج، مع تسوية النزاعات بطرق سلمية وسياسية عبر هياكل الاتحاد الإفريقي ،تكريس التضامن القاري في مواجهة النفوذ الخارجي وتعزيز استقلالية القرار الاقتصادي ،هذه المسارات، وإن كانت لا تُلغي التحديات، إلا أنها توفر أدوات عملية لفتح آفاق جديدة أمام إفريقيا.
الجزائر.. من بلد منظم إلى فاعل محوري
ولم يقتصر دور الجزائر في هذا المعرض على كونها مستضيفا، بل أظهرت أنها فاعل محوري يسعى لتجسيد رؤيته الاستراتيجية على أرض الواقع. ويؤكد بوغادي أن الجزائر تراهن على أن تكون بوابة إفريقيا نحو التكامل، وقاطرة تدفع بالقارة نحو التحرر الاقتصادي.
ويضيف: لكن النجاح الحقيقي لا يقاس بالصور الاحتفالية، بل بالقدرة على تحويل هذه التظاهرات إلى سياسات عملية تُعالج الاختلالات البنيوية وتمنح القارة موقعها المستحق كقوة صاعدة في النظام الاقتصادي العالمي.
معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر يعد أكثر من مجرد موعد اقتصادي؛ بل كان مناسبة لإعادة التفكير في مستقبل القارة، وفضاء لتجسيد رؤية جديدة للتكامل الإفريقي. وبينما تملك الجزائر المقومات لتكون واجهة هذا المشروع الطموح، يبقى التحدي الأساسي في تحويل الأفكار إلى مشاريع ملموسة، والتغلب على المعوقات البنيوية التي ترهن إمكانيات القارة.
كما يؤكد الدكتور حمزة بوغادي، فإن المستقبل الإفريقي يتوقف على الإرادة السياسية المشتركة، والتضامن الاقتصادي الفعلي، والرؤية الموحدة التي تجعل من إفريقيا قوة اقتصادية يحسب لها حساب.