2025.05.21
سياسة

من الأوراس إلى القدس.. عهد الدم والكرامة الذي لا ينكسر


صوت الأسير الفلسطيني في "الأيام نيوز"

تحت ظلال الجزائر، التي لطالما كانت داعمة للحقوق الفلسطينية، تعرض "الأيام نيوز" هذا الملف الخاص، حاملةً الهمّ الفلسطيني ومتقاسمةً مع أشقائها معاناة الأسرى. هذا الملف، الذي أعدّه الأسير المحرر والإعلامي خالد عز الدين، بالتنسيق مع هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، هو جزء من مشروع "صوت الأسير" الذي يهدف إلى توثيق معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

الملف يقدّم صورة شاملة عن أوضاع الأسرى، موثّقًا شهاداتهم المباشرة، والأرقام الصادمة التي تعكس حجم الانتهاكات التي يتعرضون لها، من التعذيب والتجويع إلى العزل والإهمال الطبي. كما يتناول الأبعاد القانونية والحقوقية لهذه الجرائم وفقًا للتقارير الصادرة عن المؤسسات الحقوقية الدولية، مما يجعله وثيقةً مهمةً تكشف أحد أكثر فصول الاحتلال "الإسرائيلي" ظلمةً ووحشيةً.

الملف لا يقتصر على توثيق واقع الأسرى، بل يناقش أيضًا قضايا أخرى مؤثرة في السياق الفلسطيني، مثل قضية التطبيع مع الاحتلال، والذاكرة الجمعية التي لا يزال الشعب الفلسطيني متمسكًا بها رغم محاولات الاحتلال طمسها. ومن خلال هذه الصفحات، يتجلى صوت الأسرى الذين يحاول الاحتلال طمس معاناتهم، لكنها تظل شاهدةً على صمودهم ونضالهم من أجل الحرية.

 

الجزائر.. الأيقونة المقدسة

بقلم: خالد عز الدين

كانت ولا زالت جزائر الثورة والحرية أيقونة مقدسة، طليعةً في العطاء، سخيةً في الفداء، كريمةً إن شحّت الرجال، جزائر الإلهام لكل فلسطيني، هذه البهية والعصية والأبية، ومجد سيرتنا ومسيرتنا، وإكليلٌ من قطوف الكرامة يتدلّى فوق عنق كل حرٍّ على الأرض.

ليس غريبًا عن جزائر الأوراس أن تظل معنا، تضيء عتمة خندقنا هنا في فلسطين، فقد وهبت مالها وجرحها، وكسرت آهة وحدتنا حين ضاقت الأرض علينا بما رحبت. فمنها كانت شرارة ثورتنا الأولى، ومنها استلهمنا حكايات البطولة والكفاح، ومن عبق دمها امتشقنا سلاحنا لنقاتل كما قاتلت مغتصبيها في التلال والجبال والسهول والهضاب، وعلمتنا كيف يصبح الشرف موقفًا، ومبدأً، ونهجَ حياة.

الجزائر التي أفردت لأسرانا صفحات جرائدها، وتألمت لوجعهم من خلف القضبان، وأسهمت في نشر معاناة جرحٍ أدمى معاصم وقلوب رجالنا في الأسر وفي غياهب السجون الصهيونية، الجزائر التي لا نملك حيال عظمتها وعطائها إلا لسانًا يلهج لها بالدعاء، وتاريخًا يُكتب بمدادٍ من نورٍ ونار، لأبطال الكلمة والصورة في الجزائر الذين لم يبخسوا أسرانا حقهم، فدافعوا عنهم معنا.

هو شكرٌ واجبٌ في زمن يقف الفلسطيني فيه فوق حافة الإبادة والجوع والحصار والتنكيل والوحدة. لم نجد يدًا أكثر دفئًا من حضن الجزائر وقلوب رجالها ونسائها وأطفالها الأحرار.

من هنا كان لزامًا أن نقول للصحافة الجزائرية: بوركت، وسلمت أقلامك، ودام عطاؤك لفلسطين وأهلها.

 

جزائر الأحرار تنتصر لأسرانا

بقلم: د. تحسين الأُسطَل، نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين

يمضي الإعلام الجزائري، وخاصة الصحف الجزائرية، في نصرة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الذين يواصلون معركة الحرية، ويرسمون أسطورة الكرامة الإنسانية من داخل غياهب وظلمات سجون الاحتلال الإسرائيلي.

فواصلت صحف الجزائر الشقيقة ثورتها ضد الاحتلال الاستعماري، وانتصرت لأسرانا ووقفت إلى جانبهم في معركة حريتهم، رغم كل الضجيج الإعلامي في قضايا أخرى تحاول اختطاف قضية الأسرى في سجون الاحتلال.

الصحف الجزائرية التي دأبت على معالجة قضية الأسرى الفلسطينيين وتسليط الضوء عليهم وعلى معاناتهم، وكأنهم من أبناء الجزائر الشقيقة، إنما تضرب أروع صور العروبة بالوقوف إلى جانب قضيتهم الإنسانية.

فصحف جزائر الثورة إنما تواصل مسيرة النضال في وجه الاحتلال والاستعمار أينما كان وأيًّا كان، فالصحفيون الجزائريون، من خلال انتصارهم للأسرى الفلسطينيين في معركتهم نحو الحرية، إنما يواصلون مشوار الثوار الجزائريين الذين فجّروا الثورة الجزائرية ومضوا في معركة الاستقلال والحرية مهما كان الثمن، ومهما كانت التضحيات، فحرية الإنسان تعني كرامته التي لا يمكن التنازل عنها.

فالأسرى الفلسطينيون الذين يخوضون معركة الشرف والعزة والكرامة في ظلمات سجون الاحتلال، إنما يواصلون مشوار الأسرى الجزائريين الأبطال الذين ضحوا بحياتهم من أجل حرية الجزائر وشعبها من الاستعمار الفرنسي البغيض.

فكان الشهيد القائد محمد العربي بن مهيدي الذي تعرض للتنكيل والتعذيب قبل إعدامه، وما زالت مدرسته في النضال راسخة في أذهان الجزائريين والفلسطينيين.

فقد تصدوا وقارعوا الاستعمار الفرنسي بكل شرائحهم، ولم يسلموا من تنكيل المستعمر الفرنسي، فكانت الأسيرة المناضلة جميلة بوحيرد، والمناضلة زهرة ظريف بيطاط، وغيرهن من المناضلات الجزائريات اللواتي قهرن الاستعمار، وانتصرن للثورة الجزائرية، ولم يقبلن بحياة الذل والهوان في ظل الاستعمار الفرنسي، الذي كتب لهن شهادة ميلاد الخلود الأبدي بقرار الإعدام شقًّا.

فرغم مرور عشرات السنوات على هذه الأحداث، ما زال الأحرار في كل العالم يتلقون أروع دروس الحرية والكرامة من مدرسة المناضلات والمناضلين الجزائريين الذين أخذوا قرار شطب الاستعمار الفرنسي مهما كان الثمن، وكان لهم الانتصار.

اليوم يعيش الأسرى الفلسطينيون في معتقلات النقب ونفحة وعسقلان وعوفر والمجدل والرملة والمسكوبية والدامون أسوأ وأبشع فصول المعاناة والتنكيل، التي تعرض لها المناضلون الجزائريون في معتقلات "فرجيوة"، و"المحتشد"، و"الأحمر"، و"الكدية"، وغيرها الكثير مما أقامه الاستعمار الفرنسي على مدار 132 عامًا من عمر الاستعمار للتنكيل بالمجاهدين الجزائريين.

فمنحت هذه الأسماء شهادات العز والفخار للمناضلين الذين خرجوا منها أحياءً منتصرين، وشهادات العز والخلود لمن ارتقى شهيدًا خلف أسوارها وظلماتها، وفي نفس الوقت حمل القائمون عليها شهادات الخزي والعار، وما زالت تطاردهم حتى يومنا هذا لعنة الشعوب، التي لن يفلتوا من عقابها، وإن زعموا أنهم حماة الحرية والديمقراطية، ولم يعتذروا عن جرائمهم بحق الشعب الجزائري.

يقف اليوم الشعب الفلسطيني تحية إجلال وإكبار إلى الصحفيين والإعلاميين الجزائريين الذين يقفون إلى جانب أسرانا الفلسطينيين في معركة الحرية والكرامة، من خلال تخصيص ملاحق خاصة بالأسرى الفلسطينيين في صحفهم، وكذلك المشاركة الإعلامية الواسعة في الإعلام الجزائري الذي أحيا يوم الأسير الفلسطيني، وأصدر ملاحق خاصة بهذا اليوم، وواصل مسيرة عشرات الملاحق التي صدرت منذ العام 2011 وحتى الآن.

اليوم تتواصل روح الثورة الجزائرية المظفرة وتقف بأقلام وإعلام الصحفيين الفلسطينيين والجزائريين إلى جانب أسرانا في سجون الاحتلال.

فرغم انشغال العالم وإعلامه بالقضايا العربية الساخنة والملتهبة، إلا أن هؤلاء الصحفيين ما زالوا يتطلعون إلى نصرة الأسير الفلسطيني، حتى لا تتكرر مأساة "جميلة بوحيرد" و"بيطاط" و"مهيدي"، وغيرهم من ملايين الأسرى الذين مورست بحقهم الاعتقالات العشوائية التي قام بها الاستعمار الفرنسي.

تحية لصحفيي الجزائر، وتحية للشعب الجزائري الذي يكتب بأقلام الصحفيين الجزائريين ثورة جديدة على ظلم الاحتلال الإسرائيلي، وانتصارًا لأسرانا وشعبنا في حقوقه المشروعة.

بمثل هذه الوقفات الإعلامية ينتصر الأسرى، وتتحقق مطالبهم العادلة.

الحرية لأسرانا البواسل.

 

من يأسر من؟

بقلم: هدى الرشيد

عندما يصحو الإنسان العادي في الصباح ويبدأ بالاستمتاع بقهوته وحمامه الصباحي ثم الإفطار مع أسرته أو بمفرده، قد يقف مع نفسه بين وقت وآخر ولو لدقائق أو قد تمر به خاطرة تجعله يتساءل بألم وحرقة: ترى على ماذا يستيقظ الأسير الفلسطيني؟

ثم يتوسع في أفكاره وتساؤلاته: على ماذا ينام ويعيش ساعات نهاره وليله هذا الأسير الفلسطيني المكبل بقيد يحرمه أبسط متع الحياة حتى لو كانت تناول القهوة مثلًا؟ هذا القيد الذي يعيشه الأسير الفلسطيني والذي يجعل من ليله مساويًا لنهاره والذي لا يرى له نهاية قريبة أو بعيدة. يعيش هذا الأسير في زنزانة ضيقة في الحجم ومحدودة في الأبعاد. فهو مسلوب من حقه الإنساني أولًا وآخرًا. يتجاهل آسروه أن حرية الإنسان لا مساومة عليها في حقه بها. وكما جاء في مبادئ توماس بيين (Thomas Paine): "خلق الإنسان حرًا ويستمر في حريته وبحقه المتساوي بغيره فيها. والهدف النهائي لأية جمعية أممية أو مؤسسة سياسية هو المحافظة على الحق الطبيعي الذي لا يجوز انتهاكه في حق الإنسان في الحرية، وبأن تكون له خاصية وأحقية في الأمن ومقاومة كل أنواع القمع."

الأسير الفلسطيني هو الأكثر معاناة لغياب حقوقه، فهو من يسجن لآماد طويلة تربو أحيانًا على أكثر من مؤبد! وكلمة الأسر في اللغة العربية تعني: القبض على الشخص وأخذه. و"أخذه" لها دلالاتها. فالأسير مأخوذ من مكانه من أحضان أسرته وأقاربه ومعارفه ومحيطه الذي يألفه إلى ظلمة القضبان ووحشية التعامل معه من قبل آسريه. الأسير الفلسطيني هو الطفل فهناك أكثر من ثلاثمائة وخمسين طفلًا في الأسر، ومن النساء والشابات أكثر من 29 أسيرة. أما العدد الكامل فيبلغ أكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني تعج بهم سجون الظلام والعذاب الصهيونية – حسب آخر الإحصائيات لمؤسسات الأسرى – إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تغير الإحصائيات بعد كل صفقة تحرير وما يطرأ من ظروف سياسية. معتقلات دولة الاحتلال تسرف في عمليات تعذيب الأسرى، فهناك عقوبات جماعية وفردية جسدية وسوء تغذية متعمد وتقديم أغذية فاسدة مما يسفر عن تفشي الأوبئة والأمراض، وهناك جرائم ترتكب في حق الأسير تخلفه معاقًا أو تترك بصمات أخرى عليه عدا عن المخلفات النفسية. وقد يبقى الأسير في ظلام لأيام وليال طوال، وقد يحرم من سر الحياة ومبتدئها ألا وهو الماء. فهل من المستغرب أن يستشهد الأسير في سجنه أو يعيش معاقًا بإصابات وأمراض تفشت وطال أوارها؟ وأبسط التساؤلات التي ما دأبت تطرح ولكن ما من مجيب هي أين هو الضمير العالمي المتشدق كثيرًا بحقوق الإنسان مما يلحق بالإنسان الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال. هذا المجتمع العالمي المتحضر والذي ما فتئ يتشدق بما يسميه ديمقراطية كحامٍ وحيد لها في المنطقة العربية، والتي من كثرتها وفيضها عليه أخذ يغدق علينا بها دون كابح يكبحه حتى اللحظة. ولكن رغم كل ذلك يبقى الأسير الفلسطيني هو السلاح الذي نفته سلطات الاحتلال في سجونها، وعجزت وتعجز عن توريته رغم كل محاولاتها. فهو سلاح في ظلمات الاعتقال مسلط عليها وعلى وجودها طالما بقي حبيسًا تأسره بتهمة الذود عن حقه في أراضيه المسلوبة وشرعيته في الحياة الكريمة. وهذا هو أكبر انتصار له، لأنه متواجد واضح كالشمس، فهو أسير يدافع عن حقه في بلاده، وبرغم كل الظلمات، لأنه النور الذي يشرق يوميًا على فلسطين الحبيبة بلده وبلد أجداده.

 

في الذكرى السنوية لاستشهاده.. الشهيد الأسير المفكر وليد دقة، فيلسوف الحرية والحياة

بقلم: عيسى قراقع

محطات بارزة في حياة الشهيد الأسير وليد دقة

يُعتبر الشهيد الأسير والمفكر وليد دقة أول أسير فلسطيني يطالب بشكل قانوني بالخلوة الشرعية مع زوجته كحق إنساني واجتماعي، وبقي هو وزوجته سناء سلامة على مدار 12 عاماً يحاربان في أروقة المحاكم الإسرائيلية لنيل قرار يسمح لهما بالإنجاب، لكن طلبه هذا قد رُفض، مما اضطر الزوجين إلى اللجوء لتحرير نطفة زُرعت في رحم سناء يوم 27/5/2019، وبتاريخ 3/2/2020 وُلدت طفلتهما ميلاد، وكانت سابقة لأول مرة تحدث من أسرى الداخل 1948.

في صراعه مع القضاء الإسرائيلي من أجل حقه في الإنجاب كتب رسالة إلى القاضي الإسرائيلي يقول فيها: المرأة الفلسطينية يا سيادة القاضي تنجب أطفالاً تماماً كالمرأة اليهودية، لم يحدث حتى الآن أن أنجبت امرأة عربية عبوة ناسفة، أيهما الجنون، دولة نووية تحارب طفلاً لم يولد بعد، فتحسبه خطراً أمنياً ويغدو حاضراً في تقاريرها الاستخبارية ومرافعتها القضائية، أم أن أحلم بطفل؟ أيهما الجنون، أن أكتب رسالة لحلم أم أن يصبح الحلم ملفاً في المخابرات؟

لقد اختار وليد اسم "ميلاد" قبل ولادتها خلال رسالة كتبها في الذكرى الخامسة والعشرين لاعتقاله عندما قال: أكتب لطفل لم يُولد بعد، أكتب لفكرة أو حلم بات يرهب السجان، أكتب لابني الذي لم يأتِ إلى الحياة بعد، أكتب لميلاد المستقبل، وقد تحول هذا الحلم إلى واقع ملموس، وقال وليد حينها: كأن المعاناة وكل السجن بأعوامه الخمسة والثلاثين قد مُسحت.

وسجل وليد سابقة في تاريخ الحركة الأسيرة والتي لم تتكرر عندما اجترح قراراً بإحياء زفافه بزوجته سناء داخل سجن عسقلان عام 1999، وعقد قرانه وأقام احتفالاً في السجن بحضور عائلته وعائلة سناء و9 من الأسرى، وإدخال الموسيقى والمصورين والورود والزينة إلى داخل السجن.

يُعتبر الشهيد الأسير وليد دقة أول أسير فلسطيني يكتب من داخل السجن للأطفال والفتيان واليافعين وللأجيال الفلسطينية، وذلك من خلال ثلاثيته: حكاية سر الزيت وحكاية سر السيف وحكاية سر الطيف، وحصلت حكاية سر الزيت على جائزة اتصالات لكتاب الطفل لعام 2018 لفئة اليافعين في المعرض الدولي للكتاب في الشارقة.

ويُعتبر وليد أول أسير فلسطيني تحلى بالجرأة وانتقد واقع ومجتمع الأسرى ومخططات إدارة السجون من خلال كتابيه المشهورين صهر الوعي وملهى الإغراء والإغواء، وكشف عن ظاهرة الكابو داخل السجون وهم الأسرى الذين كانوا يقومون بدور السجان.

لقد طارد ولاحق الاحتلال كتابات وليد ومنشوراته داخل السجن وخارجه حيث منعت سلطات الاحتلال إشهار حكايته سر الزيت ومسرحية الزمن الموازي وأغلقت القاعات، إضافة إلى فرض عقوبات على وليد داخل السجن بالعزل الانفرادي وفرض الغرامات المالية ومنع الزيارات، ومورس بحقه عقوبات مشددة عندما أنجب طفلته ميلاد، حيث مُنع من رؤيتها فترة طويلة وحتى من إدخال صورها إليه ومنع تسجيلها في وزارة الداخلية، واستمرت الملاحقة للأسير وليد حتى بعد استشهاده بتاريخ 7-4-2024 برفض تسليم جثمانه ومنع فتح بيت عزاء له في قريته باقة الغربية.

ظل وليد حتى آخر رمق في حياته يتحدى السجن والسجان ويتشبث بالحياة، فهو الذي قال: لن أسمح لهم أن يكتبوا السطر الأخير، وها هو يواصل فعله النضالي والجسدي والثقافي حتى بعد غيابه من خلال ثلاث نصوص طُبعت بعد استشهاده، نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية تحت إشراف الدكتور عبد الرحيم الشيخ، وهي: رواية صمت القبور، الشهداء يعودون إلى رام الله، وما بعد صهر الوعي: ملهى الإغراء والإغواء.

الأبعاد الفكرية والفلسفية في كتابات الأسير وليد دقة

أستطيع أن أطلق على الأسير الشهيد المفكر وليد دقة "فيلسوف الحرية والحياة"، خلال ما يقارب أربعة عقود من اعتقاله خطَّ مشروعًا ثقافيًا وفكريًا وإنسانيًا ونضاليًا أضاف نقلة نوعية في أدب وثقافة المقاومة. فقد اتخذ وليد من السجن خندقًا وميدانًا للمقاومة الثقافية، وتمحورت كتاباته حول السجن والوطن والحرية والحياة والمستقبل، ويبقى الشهيد وليد عصيًا على التصنيف: منظِّرًا وباحثًا وسياسيًا وروائيًا ورسامًا ومسرحيًا. وكما قال أحدهم: هنا جامعة اسمها وليد دقة.

وفيما يلي أبرز الأبعاد الفكرية والثقافية في كتابات وليد:

أولًا - الكتابة في السجن:

يقول وليد: "أكتب حتى أتحرر من السجن على أمل أن أحرره مني، الكتابة مقاومة. إننا نكتب عن السجن لننفيه، نؤكده لننفيه، فتأكيده يظهر غياب الحرية، وتأكيد المخيم والمنفى في النصوص الفلسطينية يأتي لإظهار غياب الوطن، والمقابر هي الشاهد على الحياة".

وقال وليد: "في خضم الكتابة على الأسير أن يهتم بنوعين من العمل: العمل الجسدي والعمل الذهني، وأن يحرر ليس النص من براثن الاحتلال فحسب، وإنما عليه تحرير جسده بصفته موضوع سجانه. إن خيالي العقلي ينشئ واقعًا يتجاوز أسوار السجن، والكتابة عملية تسلل خارج السجن أحاول أن أمارسها يوميًا، وهي نفقي الذي أحفره تحت أسواري حتى أبقى على صلة بالحياة. الكتابة هي أداة لفهم واقع الأسر وتفكيكه. فالمعنى الجديد للسجن يمكن تلخيصه بالصمود في معركة: ثقف نفسك بنفسك لتصل إلى نتيجة حرر نفسك بنفسك".

إن هذه المعاني في كتابات وليد تدل على أنه لم يكن سجينًا كما تصورنا، وإنما كان يطل على الحرية.

ثانيًا - قيمة الحرية:

يقول وليد: "إن التحرير هو السبيل إلى الحرية وهو فعل خارجي (هدم)، بينما الحرية هي القيمة التي تسعى الشعوب إلى تحقيقها، وهي فعل داخلي (بناء)، أو الجهاد الأكبر. فإذا كان التحرير من الاحتلال شرطًا ضروريًا لتحقيق الحرية، فإن الحرية هي الشرط الكافي للحفاظ على إنجازاته. فكم بلد تحرر لكن شعبه لم يحظ بالحرية؟ فالحرية بصفتها قيمة غير خاضعة لحسابات موازين القوى، ومن طبيعتها أنها غير قابلة للمساومة، فإما حرية وإما عبودية، ولا يوجد نصف حرية أو ربع حرية".

ثالثًا - الزمن الموازي:

وهو مصطلح أطلقه وليد ويعني زمن السجن. وكان وليد يعتبر نفسه رجل الكهف المدفون في زمن السجن الدائري والمغلق. وخلال كتابته ظل وليد يناضل حتى يلامس ويلتقي مع الزمن الطبيعي أو الزمن الاجتماعي، وقضى حياته من أجل ذلك رافضًا أن يصهره زمن السجن أو يحوله إلى قطعة متكلسة في جدار.

يقول وليد واصفًا الزمن الموازي: "أنا أكتب لكم من الزمن الموازي حيث ثبات المكان، لا نستخدم وحدات زمنكم العادية كالدقائق والساعات إلا حين يلتقي خطا زماننا وزمانكم عند شبك الزيارة. نحن في الزمن الموازي نراكم ولا تروننا، نسمعكم ولا تسمعوننا، وكأن هناك فاصلًا زجاجيًا يقف بيننا وبينكم تم تعتيمه من جهتكم. نحن جزء من التاريخ، والتاريخ حالة وفعل ماضٍ وانتهى، إلا نحن، ماضٍ مستمر لا ينتهي، نخاطبكم فيه حاضرًا حتى لا يصبح مستقبلكم. من يوقف الزمن؟ هذا دمي الذي ينزف لا الدقائق، وتلك روح رفاقي التي تحلق لا عقارب الساعة".

لا بد حتى تكون خارج الزنزانة أن تحدث ثقبًا في الجدار، والكتابة هي إحداث ثقب في الجدار. ومن هنا عليك أن تتحدى السجان وتمنعه أن يسيطر على زمنك في السجن.

وكان وليد في مستوى هذا التحدي متمثلًا بما قاله محمود درويش: "زنزانتي خارجي، والكثير من الأحرار يحملون زنازينهم في عقولهم وقلوبهم".

رابعًا - مجتمع السجن:

كشف وليد في كتابته عن بروز ظاهرة الكابو، وهم الأسرى المتعاونون مع السجان ضد زملائهم، وقد نجحت إدارة السجون واستخباراتها في صنع هذه الظاهرة وتحويل حياة الأسرى إلى إقطاعيات وإمارات منقسمة ومترهلة تسودها الشللية والبلدية والفردية والفساد، واستبدال قيم ما قبل الوطنية، وغياب النضال الجماعي والوحدوي، وإغراق الأسرى بالامتيازات والوفرة المادية على حساب الاهتمام بالقضايا الوطنية والثقافية.

ويقول وليد إن السجون اليوم بمثابة مؤسسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله، بل هي أضخم مؤسسة عرفها التاريخ هدفها إعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين. واعتبر وليد أن ما يُطبق في السجن الأصغر يُطبق في السجون الكبيرة، في الوطن، حيث المعازل والكانتونات والتجمعات المنفصلة والحواجز والانقسام، وهو استكمال لنفس السياسة.

خامسًا - حق العودة:

يقول وليد: لا أريد العودة إلى فلسطين الماضي، فلسطين الانتدابية حيث الصبار والرمان وطواحين الماء، لأنها ببساطة غير موجودة إلا في الذاكرة. عندما تصير فلسطين رومانسية يغدو حق العودة طوباويا، فهذه الرومانسية للعودة تبعدنا عن العودة نفسها.

أنا أريد العودة إلى فلسطين المستقبل، حرروا المستقبل، فهو أقدم سجين وأحق أسير بالتحرر.

أريد العودة إلى فلسطين المستقبل التي لا بد أن تتطابق فيها الهوية الوطنية الجامعة مع جغرافية الوطن الكامل. اتفاقية أوسلو تنازلت عن جزء من الوطن مقابل الدولة، واستعاض أصحابها عن العودة بحكاية العودة.

العودة بهذا المعنى كانت فولكلورية، وأصبحت الدبكة الشعبية بديلا عن برنامج العودة، استبدال العودة بما يشبه العودة، واختزال الوطن بما يشبه الوطن، فاللغة ليست بديلا للوطن الفعلي.

سادسًا - إعادة تعريف التعذيب أو الألم في كتابيه صهر الوعي وملهى الإغراء والإغواء:

دعا وليد مؤسسات حقوق الإنسان إلى إعادة تعريف التعذيب الذي ورد في اتفاقية مناهضة التعذيب.

يقول: لقد أصبح القمع والتعذيب في سجون الاحتلال مركبًا وحدوثيًا يتماشى مع خطاب حقوق الإنسان، مخفيًا ومتواريا يسهل على سلطات الاحتلال تعتيمه وتضليله.

إنه قمع لا صورة له ولا يمكن تحديده بمشهد. فالتعذيب لم يعد يستهدف الجسد، وإنما الروح والعقل والإرادة، عبر إعادة صياغة وعي البشر وفق رؤية إسرائيلية.

من هذا المنطلق دعا وليد إلى تعريف جديد للتعذيب يشمل النظم غير الحسية وغير المباشرة، والتي تهدف للتدخل في تفكير الأفراد من خلال عملية مسح دماغي زاحف ومتدرج وممنهج، في سبيل هندسة الجماعة السياسية والسيطرة عليها.

سابعًا - الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني:

وقف وليد دقة ضد الانقسام الفلسطيني داعيًا إلى الوحدة الوطنية، وقد وصف خطورة وبشاعة الانقسام بقوله:

لا أبالغ إن قلت إنه، على الرغم من أن من يغلق علي باب الزنزانة هو سجان إسرائيلي، إلا أن الذي يصنع له مزيدًا من الأقفال هو الانقسام الفلسطيني، وهذه حقيقة يجب أن نصرخها في وجه من ضلوا الطريق نحو الحرية في زقاق ومزاريب سلطة وهمية.

وقال إن الحالة الفلسطينية المنقسمة سياسيًا ألقت بظلالها الثقيلة على الحركة الأسيرة، وأن الانقسام الذي طال أمده أنتج اقتصاد الانقسام وثقافته، وهناك تخوف حقيقي من أن تتحول هذه الثقافة إلى هوية.

 

حين تتحول السجون إلى مقابر للأحياء.. معتقلو غزة بين وحشية الاحتلال وصمت العالم

بقلم: وسام زغبر، عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

ليس غريباً أن يكون الجحيم على الأرض فلسطينياً، لكنه بات اليوم يحمل وجهاً أكثر ظلمة ووضوحاً في سجون الاحتلال ("الإسرائيلي")، التي تجاوزت كل حدود المعقول، وتحولت إلى مسالخ بشرية، تُمارس فيها أعتى أشكال الإذلال والتعذيب بحق المعتقلين الفلسطينيين، ولا سيما من قطاع غزة. الصور المسربة من داخل سجن النقب ومعسكر «عوفر»، وشهادات المعتقلين التي نقلتها هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، لا تترك مجالاً للشك: نحن أمام جرائم مكتملة الأركان، تتراوح بين الاغتصاب، والتعذيب الجسدي والنفسي، والتجويع، وصولاً إلى الإبادة البطيئة. ما كشفه المعتقلون من انتهاكات جنسية ممنهجة يضعنا في مواجهة مباشرة مع سؤال الإنسانية قبل أي قانون: كيف يمكن للعالم أن يقف متفرجاً على ممارسات تعيد إلى الأذهان أكثر الحقب دموية في تاريخ البشرية؟ في معسكر «عوفر»، لا يُكتفى باغتصاب المعتقل، بل يُمارَس ذلك أمام رفاقه لإذلاله وكسرهم معاً. تُدخل العصا في جسده مراراً حتى يصل إلى حد الاختناق، وعندما يصرخ، يتحول الألم إلى أداة متعة لجلاده. وفي النقب، لا تقل المأساة شراسة: استخدام الدلاء لقضاء الحاجة، غياب الماء النظيف، تفشي الجرب، منع الملابس النظيفة، النوم على إسفنجات مقطعة، كل ذلك يختزل معاناة إنسان يُدفن حياً دون قبر. لا دواء، لا نظافة، لا كرامة، بل فقط استمرار في القهر. ما يزيد الجريمة إيلاماً أن العالم يرى ويسمع، لكنه لا يتدخل. لا لجان تحقيق، ولا محاكمات، ولا حتى ضغط فعلي على سلطات الاحتلال. ومع مرور 19 شهراً على المجازر المفتوحة بحق غزة، لا شيء تغير. الأسوأ أن الزمن أصبح حليف الجريمة، لا رادعاً لها. في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة النظر في فاعلية المنظومة الحقوقية الدولية التي لم تعد فقط عاجزة، بل باتت تتواطأ بالصمت. حين يصبح المعتقل الفلسطيني هدفاً مشاعاً للاغتصاب والتجويع والتعذيب، من دون حتى بيان إدانة جاد، فذلك يعني أن «الاستثناء ("الإسرائيلي")» لم يعد استثناءً، بل أصبح القاعدة في عصر الانهيار الأخلاقي. ربما آن الأوان لطرح السؤال الأعمق: ماذا يعني أن نكون بشراً إذا كانت هذه الجرائم تمر كأنها أخبار طقس؟ ما جدوى القانون الدولي، إن لم يوقف عصاً تُغرس في جسد شاب أعزل فقط لأنه فلسطيني؟ صمت العالم لم يعد مجرد تقاعس، بل مشاركة فاعلة في الجريمة.

 

بين الجزائر وفلسطين.. كيمياء بطولة

بقلم: لينا أبو بكر

"الرجال تعرف الرجال، والخيل تعرف فرسانها"، هاكا تقول الحكمة الجزائرية، التي تمجد الكيمياء الوطنية والنضالية بين الفلسطينيين والجزائريين، ضمن إشارات بطولية تتفاعل مع بعضها البعض، وتتلاحم في عرى وثقى، تستند إلى تاريخ طويل من الصمود والثبات والنضال في سبيل الحرية والاستقلال. لطالما كانت الجزائر هي الظهر الذي يسند الجبل الفلسطيني، كلما نشطت الانزياحات الاهتزازية لبؤرة الثبات، حتى ليلتصق الجبل بظهر من يسنده حد التماهي، إلى الدرجة التي لا يمكنك فيها أن تفرق من السند ومن المسنود؟ في الجزائر كل شيء يدلك على فلسطين: الشهداء الغائبين الحاضرين، الأناشيد الخضراء، حكايا النساء، رائحة الماء والهواء، أسرار الخيول والصحراء، عباءات التاريخ، كتب السماء، فما هو الخيط السحري الذي يمتد بين جسرين كقلب رجل واحد؟ إنها البطولة يا صاح، مع كل الاحترام لكل العرب الأشقاء، يظل للجزائر مع فلسطين استثناء، فالجزائر تحس بما لم تشكُ منه فلسطين، وتسمع ما لم تقله، وتحدس ما لا تعلنه، وتفهم ما لم تشرحه... هذه بلاغة الحق بين أمانتين: الرسالة والنصرة. يقول حكيم غابر: "حين يكون الصمت هو الصوت الوحيد، تدوي كلمة الحق كرصاصة"، ويقول آخر: "البطولة ليست القوة، إنما الطريق الذي يختار أحدهم أن يسلكه"، وكلما انحرف الزمن عن مسار الحقيقة، كلما استعاد الرجال الرجال الحقيقة من مسار الانحراف، هذه شيمة الخالدين، والطيبين، والفرسان، وهذا ما عهدناه من أهلنا في الجزائر في مسيرتنا الوطنية عبر الحقب، لاسترداد حقوقنا المغتصبة، من محتل عنصري وأعمى، لا يعير أي اهتمام للقيم والمعايير الإنسانية والأخلاقية، بل يتضخم كوحش يلتهم ذكريات الأرض وخارطة السماء، وهو العدو الذي لم يفرط الجزائريون والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بعداوته للمحتل، كرمى لكيمياء الحق التي تربطهم بخيط سماوي مقدس مع أبطال الحرية في فلسطين. لا يدل على أصحاب الحق انتصارهم به، بل يدل عليهم نصرتهم له، والجزائريون هم أهل الانتصارين: الوفاء والثبات. أما نحن أهل فلسطين، فلقد عقدنا العزم أن نحيا الجزائر!

 

ناصر ردايدة.. شهيد الإهمال الطبي والاحتجاز القسري

تقرير: زهير طميزة- بيت لحم

في مشهد يعكس قسوة الاحتلال الإسرائيلي واستمراره في التنكيل بالأسرى الفلسطينيين، ارتقى الشهيد ناصر خليل ردايدة (47 عاماً) من بلدة العبيدية شرق بيت لحم، داخل سجن عوفر، السبت، بعد معاناة طويلة مع الإهمال الطبي المتعمد وسلسلة من الانتهاكات منذ اعتقاله في أيلول الماضي. بدأت قصة ناصر عندما أطلق جنود الاحتلال النار عليه بتاريخ 18 أيلول 2023 قرب حاجز "مزموريا" القريب من بيت ساحور، بزعم الاشتباه بنيته تنفيذ هجوم ضد جنود الحاجز. ورغم إصابته برصاصتين في الساق والخصر، اعتقلته قوات الاحتلال ونقلته للتحقيق وهو مصاب، قبل أن يبدأ رحلة من الإهمال الطبي والتعذيب النفسي والجسدي خلف القضبان. ومع اندلاع العدوان الإسرائيلي الشامل في 7 تشرين الأول 2023، تم نقل ردايدة من المستشفى إلى السجن دون استكمال علاجه، حيث تدهورت حالته الصحية بشكل كبير. ورغم مناشدات العائلة المتكررة للمؤسسات الحقوقية والإنسانية لإنقاذ حياته، تجاهلت سلطات الاحتلال تلك المطالب، وواصلت حرمانه من الدواء والعناية الطبية والغذاء. يقول زيد ردايدة، نجل الشهيد ناصر، لـ "الحياة الجديدة": "إن العائلة تمكنت من زيارته مرة واحدة فقط في شباط الماضي، وكانت حالته الصحية سيئة جداً، مشيراً إلى أن والده كان يعاني من آلام شديدة وضعف عام وإهمال كامل من إدارة السجن. ويضيف: "كنا نعلم أنه يموت ببطء، وصرخنا كثيراً، لكن لا أحد سمعنا". وجاء نبأ استشهاده كصدمة للأسرة التي كانت تأمل أن تراه حراً يوماً ما، لا أن تستقبله جثماناً. محمد عبد ربه، رئيس جمعية الأسرى المحررين في بيت لحم أكد، أن الشهيد ردايدة هو الأسير السابع من أبناء محافظة بيت لحم الذي يستشهد داخل سجون الاحتلال، مشيراً إلى أن الاحتلال يحتجز جثامين خمسة منهم حتى اليوم. وسبق ناصر إلى الشهادة كل من: محمد السراج من الدوحة، ومحمد جبر وعلي الجعفري من مخيم الدهيشة، ونصار طقاطقة من بيت فجار، وكاظم زواهرة من بيت تعمر، وداوود الخطيب من مدينة بيت لحم. وبحسب بيانات هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، فقد استشهد ما لا يقل عن 65 أسيراً داخل سجون الاحتلال منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر 2023، ليرتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة إلى 302 شهيداً منذ عام 1967، في ظل استمرار سياسات التعذيب والإهمال الطبي والقمع. الشهيد ناصر ردايدة، العامل البسيط في مجال البناء، ترك خلفه زوجة مكلومة، وابناً وسبع بنات، أصغرهن لم تتجاوز السادسة من عمرها، دون أن تتاح له فرصة الوداع أو كلمة أخيرة.

 

عندما يصبح الموت حنونا وخيارا وحيد!!

تقرير: أكرم اللوح- غزة

في ظل القصف المتواصل، والموت الذي يحاصر كل بيت وزاوية في قطاع غزة، تتزايد أصوات الألم والوجع للنازحين المشردين، لا بحثًا عن النجاة فحسب، بل تعبيرًا عن يأس عميق يعصف بقلوب المنكوبين، بعدما تجاوزت الكارثة حدود الإبادة. أبو مصطفى السعافين، أحد الناجين من الموت مرارًا، كتب بمرارة: "تراودني فكرة فتح الباب للموت كثيرًا، هذه المرة أرغب في مواجهته. نجونا كثيرًا في هذه المحرقة، كنا نشعر بنشوة الفرح بعد كل مرة، كأننا ننتصر عليه. لكن الآن.. لا رغبة لي بالهرب، ولا بالنزوح، ولا برحلة عذاب جديدة. سأصطحب من أحب، لا أقوى على رؤيتهم يموتون بالبطيء. فالموت قد يبدو أحن مما نحن فيه". أما الصحفي وائل أبو دقة، فدون عبر حسابه الشخصي وصفًا لليلة لا تنسى: "لم تكن ليلة كغيرها. كل غزة كانت على موعد مع انفجارات غير مسبوقة، بأسلحة تؤسس لموت غير مسبوق. غزة اليوم مفجوعة، لم تعد تقوى إلا على نطق الشهادة. ما يحدث فاق قدرة البشر، وتجاوز معنى الإبادة".

يحيى هشام حلس، أحد النازحين من حي الشجاعية بمدينة غزة، كتب بكلمات موجعة: "اليومين اللي فاتوا علي بعد النزوح لا يمكن وصفهم بكلمات. منشور واحد لا يكفي. باختصار: والله الموت أرحم من هالحياة".

في المقابل، حاولت الصحفية أسماء الغول أن تبث بعض الأمل في العتمة، رغم إدراكها لحجم الكارثة. دعت الغزيين إلى عدم الاستسلام، قائلة: "لا تركضوا باتجاه الموت. ابتعدوا عن المدارس والعيادات، خذوا أولادكم، وانفذوا بجلدكم. حضرت ثلاث حروب في غزة، وأعرف قسوة ما أقوله.

لكننا نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا. وسيتحاسب كل من خذلكم: من قادة الفصائل، ومن تجار الحرب". ولكن رغم الألم والموت فإن غزة اليوم لا تبحث عن عناوين جديدة، بل عن النجاة. عن نقطة ضوء، أو حتى جدار لا ينهار. وغزة اليوم تصرخ بصوت أبنائها: "ما يحدث فاق كل حدود العقل، والموت صار خيارًا أقل قسوة".

 

إهمال طبي قاتل يهدد حياة الأسير حسام زكارنة

قال نادي الأسير الفلسطيني، إن تدهورًا خطيرًا طرأ على الوضع الصحي للمعتقل الإداري حسام ناجي زكارنة (25 عامًا) من مدينة جنين. وأضاف نادي الأسير في بيان له، أن المعتقل زكارنة مصاب بورم في المعدة كما أثبتت الفحوصات الطبية بعد نقله من سجن (مجدو) إلى مستشفى (العفولة) مؤخرًا. وأوضح، أن زكارنة معتقل منذ 21/8/2024 إداريا، ومنذ اعتقاله يقبع في سجن (مجدو)، الذي يُشكل واحدًا من أبرز السجون التي ارتقى فيها العديد من الشهداء الأسرى منذ الإبادة. وتابع نادي الأسير، استنادًا إلى زيارة جرت للأسير زكارنة مؤخرًا في سجن (مجدو)، أنه يعاني من عدم قدرة على شرب الماء، أو حتى تناول لقيمات الطعام التي تقدم للأسرى، إلى جانب معاناته من تقيؤ مستمر، وأوجاع شديدة في البطن، ما أدى إلى نقص حاد في وزنه الذي يبلغ اليوم 37 كغم.

وبحسب المحامي الذي أجرى الزيارة، فإن المعتقل زكارنة لم يكن قادرًا على الحديث خلال الزيارة، وكان ظاهرًا عليه الإعياء الشديد.

وأكد نادي الأسير، أن حالة المعتقل زكارنة واحدة من بين مئات الأسرى المرضى في السجون، علما أن تفشي الأمراض بين صفوف الأسرى تشكل اليوم قضية مركزية، فرضت تحديات كبيرة على المؤسسات المختصة، لعدم قدرتها على السيطرة في متابعة الحالات المرضية داخل السجون، وتعمد إدارة السجون فرض المزيد من السياسات والإجراءات التي تهدف بشكل أساس إلى قتل الأسرى.

ولفت إلى أن المعتقل زكارنة يواجه جريمة مركبة، تبدأ باستمرار اعتقاله إداريا، واستمرار احتجازه في ظروف قاهرة، أساسها التعذيب والتنكيل، وحرمانه من متابعة علاجه اللازم. وتابع نادي الأسير، أن أبرز القضايا الصحية التي يعانيها المعتقلون استمرار تفشي مرض الجرب – السكايبوس الذي حولته إدارة سجون الاحتلال إلى أداة لتعذيب الأسرى، وقتلهم، وتحديدًا في سجني (مجدو، والنقب).

يذكر أن مؤسسات الأسرى، حذرت من كارثة صحية في سجني (مجدو والنقب)، في ضوء استمرار تفشي الأمراض بين صفوف الأسرى، وتنفيذ المزيد من الجرائم الطبية بحقهم، علماً أنه كان قد أشار في وقت سابق إلى أن سجني (مجدو والنقب) شكلا العنوان الأبرز لاستشهاد الأسرى والمعتقلين منذ الإبادة.

وأردف نادي الأسير: لا يوجد حصر واضح لأعداد الأسرى المرضى في السجون، بسبب الانتشار الواسع للأمراض، فإن كل أسير اليوم يعاني مشكلة صحية واحدة على الأقل، بسبب جرائم التعذيب والتجويع والجرائم الطبية، واستمرار الاعتداءات وعمليات التنكيل، هذا إلى جانب الآثار النفسية الخطيرة التي يعانيها الأسرى جرّاء ذلك. ويبلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال حتى بداية نيسان/ إبريل 2025، أكثر من (9900)، من بينهم (3498) معتقلا إداريا.

 

شهداء بلا مقابر.. الحزن المفتوح في قباطية

تقرير: عبد الباسط خلف- جنين

عادت الأحزان إلى بلدة قباطية، التي فقدت ابنها سليمان فواز مناصرة (24 عامًا)، الذي قضى برصاص جنود الاحتلال عند مدخل مستعمرة ما يعرف بـ "حومش" المقامة على أراضي مواطني سيلة الظهر جنوب جنين وبرقة شمال نابلس. وباح بسام كميل، بصوت حزين عن ابن أخته سليمان، فقال إنه عاش يتمًا، إذ توفي والده عام 2002، وهو الأصغر في عائلة من 11 أخًا وشقيقتين. وأكد الخال المكلوم أن خبر استشهاد سليمان، وقع كالصاعقة على العائلة والأقارب وأهالي البلدة، الذين يعرفون الشاب العشريني عن قرب، وشاركوا قبل أشهر قليلة في حفل خطوبته، وشاهدوا أحلامه بإكمال بيت الزوجة بجوار والدته فاطمة.

أحلام ممنوعة

وأضاف بحسرة أن ابن أخته اصطحب خطيبته ندى سعايدة، قبل يومين إلى بيت المستقبل، وكانا يخططان تفاصيله الصغيرة معًا، لكنه رحل وانتهى كل شيء. ووفق كميل، فقد حرص الشاب الذي احتجز جنود الاحتلال جثمانه، على العمل بكل جدية وطاقة، وتنقل بين الكسارات ومقالع الحجارة، وضمان مقاصف المدارس. بدوره، قال ابن عمه قتيبة إن سليمان عشق لعبة كرة القدم خلال مرحلته الدراسية، وكان رياضيًا، واعتاد الذهاب إلى نوادي بناء الأجسام، وكان كتلة من الأحلام. وحسب مناصرة، فقد درس سليمان المحاسبة في جامعة القدس المفتوحة، ثم حول وجهته إلى جامعة فلسطين التقنية (خضوري) لدراسة الرياضة. وتابع: سكنت الأحزان قبل ابن عمي، يعد استشهاد صديقه نصر أيمن كميل (18 عامًا) الذي قضى في مطلع تشرين الثاني 2024، إثر استهدافه بالرصاص الحي.

من جانبه، أكد مواطنون من سيلة الظهر لـ"الحياة الجديدة" سماع إطلاق نار كثيف عند مدخل مستعمرة "حومش"، كما تناقلوا وجود جثمان على الأرض تجمع حوله جنود الاحتلال، قبل احتجازه. وقال علي إبراهيم، الذي يعمل سائقًا إنه جيش الاحتلال أغلق الطريق الواصل بين جنين ونابلس، ومدخل بلدة بزاريا، بعد انتشار أنباء عن عملية إطلاق نار في المنطقة. وأكد أن الجنود منعوه من اجتياز الطريق، وأجبروه على العودة من حيث جاء.

بلا مقابر

فيما أفاد رئيس بلدية قباطية، أحمد زكارنة، أن مناصرة هو الشهيد الثالث عشر من البلدة، الذي يحتجز الاحتلال جثمانه، منذ 7 تشرين الأول 2023، من بين 35 شهيدًا. وأضاف أن البلدة تعرضت لعدوان وتدمير واسع النطاق لطرقاتها وبنيتها التحتية، كما شهدت خلال العدوان المتواصل اقتحامات واعتقالات ومداهمات شبه يومية. وذكرت المواطنة أمل كميل، أن القهر في البلدة كبير، بخاصة مع وجود 13 شهيدًا بلا مقابر، وهذا يعني أن أحزان أمهاتهم ستظل مشتعلة، ولن يتمكن من زيارة قبور أحبتهن، وغرس أزهار فوقها وريها، وتفريغ القليل من القهر عندها. وبارتقاء مناصرة، في اليوم التسعين للعدوان على جنين ومخيمها وريفها يرتفع عدد الشهداء إلى 39 بينهم رضيعة وأطفال ومسن، بجوار عشرات الجرحى، ومئات المعتقلين، وما يزيد عن 20 ألف نازح، عدا عن دمار واسع النطاق في منازل المخيم وطرقاته وبنيته التحتية، واقتحامات ومداهمات للمدينة وريفها.

 

كنان.. الولد الذي جاء بعد دعاء طويل وغادر في الحرب

تقرير: نادر القصير

في أحد أزقة النزوح الضيقة بخان يونس، كان الطفل كنان يركض خلف ظلّه، يحاول أن يمسكه، أن يفهمه، كأنه يختبر الحياة لأول مرة. لم يكن يعلم أن هذه الحياة التي انتظرته طويلاً، ستضيّق عليه المساحة سريعاً، وتغلق الأبواب في وجه ابتسامته البريئة. الصحفي أحمد عدوان، والد كنان، لم يكن مجرد أبٍ يحلم بطفلٍ ذكر، بل كان رجلاً يختزن في قلبه دعاءً استمر لسنوات. أنجب البنات، وملأن عليه الدنيا حباً وبهجة، لكنه ظل ينتظر "أخاً لهن"، يحمل اسمه، ويشاركه بعضاً من وجعه وأحلامه. "كنت أدعو الله في كل لحظة، في كل سجدة، أن يرزقني ولداً"، قال أحمد بصوتٍ مثقل بالأوجاع. "وعندما جاء كنان، أحسست أنني وُلدت من جديد". ويضيف: "انتظرنا قدومه ثمانية عشر عاما وحرمنا الاحتلال منه وعمره ثمانية عشر شهرا، كان يلعب بجوارنا فجأة نزل الصاروخ الغادر ورحل كنان".

جاء كنان إلى الحياة بعد سنوات من الصبر، بعد رجاء طويل، وحين أتى، لم يأتِ وحده، بل جاء بالأمل، بالسعادة، بتوازنٍ لأسرةٍ لطالما انتظرته. لكن الحرب، تلك الكلمة الثقيلة التي لا تعرف الرحمة زحفت مجددًا على غزة. وفي مساء باردٍ مشوبٍ بالخوف، اخترقت الطائرات الإسرائيلية السماء، وأسقطت حممها على بيتٍ يؤوي نازحين لا يملكون شيئاً سوى بعض الأحلام. كان كنان هناك، يلهو قرب أمه، يضحك، يخطو خطواته الصغيرة نحو الحياة. وفي لحظة واحدة، تحولت الضحكة إلى صمت، واللعب إلى دمٍ تحت الركام. رحل كنان ولسان حال أمه يقول "انتظرناه سنين، وخطفوه منا في لحظة". استشهد كنان، الطفل الذي لم يتعرف بعد على ظله. غادر كأنّه لم يأتِ، لكن بقاياه تركت جرحًا لا يُشفى، وفراغًا لا يُملأ. ترك وراءه أبًا أنهكته الحروب، وأمًا ضاعت منها قطعة من روحها، وأخواتٍ كُنّ يحلمن بشقيق يحميهن ويكبر معهن. أمس شيع كنان إلى مثواه الأخير وأقيمت عليه صلاة جنازته، لم يُحمل كنان على الأكتاف فقط، بل حمل معه دعاء والده، وصبر أمه، ووجع شعبٍ بأكمله اعتاد أن يودّع أبناءه قبل أن يكبروا.

 

فلسطين تنزف دماً وألماً ووجعاً وحزناً والعالم يصمت صمت القبور

بقلم: جلال محمد حسين نشوان

أطفال تحت الأنقاض

بيوت تحولت إلى ركام

أكثر من خمسين ألف شهيد

ومئات الآلاف من الجرحى

رفح تم تدميرها بالكامل

الطيران الأمريكي الصنع لا يغادر السماء

جنين وطولكرم تذبحان من الوريد إلى الوريد

القهر، الظلم التعسّف، الإكراه، صفات يمكن إطلاقها على ما يعيشه الغزيون في محافظات غزة، وقوات الاحتلال تعمل جاهدة للسيطرة على ما تبقى والهدف دائمًا تغيير معالمها بهدف تهويدها وإنهاء الوجود الفلسطيني فيها. وقد استخدمت لأجل ذلك الكثير من الوسائل، وقامت بالعديد من الإجراءات، ومن ضمنها إجراء اتصالات حثيثة مع دول كثيرة حيث كان الاستيطان في المدينة المقدسة أولوية لكافة حكومات الاحتلال. وقد تم طرد ما يقارب ألف مواطن من المنازل، وأنشئت ساحة حائط البراق، وصودرت مساحة 17,700 دونم من الأراضي.

وبالأمس طردت عائلة فلسطينية من منزلها في القدس، الثلاثاء، وسمحت لمستوطنين إرهابيين فاشيين بالاستيلاء عليه، في واقعة أثارت تنديدًا دوليًا. قوات الاحتلال في ساعة مبكرة من صباح الثلاثاء، حاصرت منزل المسنين نورا صب لبن (68 عامًا) ومصطفى صب لبن (72 عامًا) في حي عقبة الخالدية، على بعد أمتار من المسجد الأقصى، وطردت العائلة منه وأخلته وسلمته للمستوطنين الإرهابيين النازيين الفاشيين. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل منعت المتضامنين مع العائلة من الوصول إلى المنزل، واعتقلت 5 منهم، وفقًا للوكالة، بينما اعتدى مستوطنون على العائلة الفلسطينية المطرودة.

هذه الجريمة التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الصهيوني بإخلاء المنزل من العائلة التي تقيم فيه منذ عام 1953، تأتي في إطار سياسة التهجير القسري والتطهير العرقي التي تنتهجها حكومة الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني، بما في ذلك إرغامهم على هدم منازلهم ومنشآتهم بحجة عدم وجود ترخيص لإفراغ القدس المحتلة من أبنائها، كما يحدث بشتى الأساليب خاصة في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح.

مدينة القدس وأقصاها وقيامتها تعيش أسوأ حقبة منذ احتلالها عام 1967، بفعل تولي اليمين المتطرف مقاليد الحكم في دولة الكيان الغاصب، وما تلا ذلك من إجراءات تصعيدية على أرض الواقع تهدف إلى ترسيخ السيطرة اليهودية في القدس الشرقية، في سياق سياسة التهجير القسري وإخلاء المدينة من سكانها الأصليين.

وفي الحقيقة:

تخضع مدينة القدس إلى سياسة تهويدية ممنهجة وشاملة، من خلال بناء جدار الفصل العنصري، وهدم البيوت والمنشآت، وقتل السكّان، وأسرهم، وإبعادهم، وسحب إقاماتهم، وتنفيذ المشاريع الاستيطانية المختلفة، وتدنيس أماكن العبادة الإسلامية والمسيحية، والقيام بحفريات تحت المسجد الأقصى المبارك، وفرض قوانين عنصرية، وغيرها من الإجراءات التعسفية بحق القدس ومقدساتها وأهلها.

وفي ظل استمرار الصمت الدولي، يواصل كيان الإرهاب الصهيوني قتل الإنسان وتدمير الحجر والشجر، والأيام القادمة ستشهد المزيد من الممارسات الإجرامية الإرهابية الفاشية حتماً مزيداً من التصعيد، مستثمراً انشغال العالم بأزماته الدولية المتشعبة ومنها الأزمة الأوكرانية. ويأتي التصعيد الصهيوني الإرهابي غير المسبوق من قبل الحكومة المتطرفة التي تسعى إلى جرّ المنطقة إلى حرب دينية، ستصل ألسنة لهبها إلى مسافات بعيدة. ما يتطلب حراكًا بالمستوى المطلوب من الشارع العربي والإسلامي وحتى الدولي، باعتبار قضية القدس مسؤولية مشتركة بين كافة المسيحيين والمسلمين في هذا العالم.

أتذكر عندما طردوا مئات العائلات ومن بين تلك العائلات (عائلة صب لبن) تطور خطير يندرج في إطار سياسة إفراغ المدينة المقدسة من المقدسيين وكذلك لترسيخ التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك. لكن شعبنا لن يرفع الراية البيضاء، وسيقاوم كل السياسات الصهيونية الإرهابية مهما كانت التضحيات الجسام. وستبقى مدينة القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين وستظل تنزف دماً وألماً ووجعاً وحزناً طالما بقي الاحتلال الصهيوني الإرهابي النازي الفاشي جاثماً على صدورنا لأن الاحتلال النازي الإرهابي يجعل فلسطيننا تنزف دماً ووجعاً وألماً.

 

في سجون "إسرائيل".. الأسرى الفلسطينيون في قبضة الموت

بقلم: علي أبو حبلة

يواجه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال 'الإسرائيلي' أوضاعاً مأسوية بلغت ذروتها في حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023. وقد مست هذه الأوضاع كل جوانب الحياة في السجون، من أسلوب التعامل مع الأسرى إلى ظروف الحياة والمعيشة وكميات الطعام ونوعيتها وغير ذلك. ومع أن كل الأسرى في سجون الاحتلال يعانون جراء ظروف اعتقال مأسوية، فإنه يمكن القول إن هناك سجوناً أسوأ من الأخرى من ناحية الأوضاع المعيشية والعنف الذي يتعرض له الأسرى، وخصوصاً سجن النقب وسدي تيمان. فمن خلال تتبع شهادات الأسرى والتقارير الصادرة عن المؤسسات المعنية بهم، يتضح أن ظروف الأسرى تتباين من سجن إلى آخر بشكل طفيف، بيد أن مجمل الشهادات والتقارير الواردة عن أوضاع السجون بعد السابع من أكتوبر، تشير إلى أن هناك أوضاعاً مشتركة يعاني جرّاءها الأسرى في السجون كافة. ومع أن هذه الأوضاع المأسوية شملت كل الأسرى، فإن معتقلي قطاع غزة، الذين اعتُقلوا منذ السابع من أكتوبر وخلال التوغل البري في القطاع، تعرضوا لظروف أسوأ وأقسى مما تعرض له بقية الأسرى الفلسطينيين، ولا سيما في معسكرات الاعتقال التابعة لجيش الاحتلال.

ما قبل وبعد 7 أكتوبر، وضع وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير لنفسه عدة أهداف فيما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين ومنها «تحسين مستوى العقوبة، السجن والتأهيل لمنع الحوادث»، ولتحقيق هذه الأهداف وضع عدة وسائل، أبرزها: تعزيز سلطة الحكم في السجون إزاء الأسرى الفلسطينيين من أجل منع «الإرهاب»، من خلال تقليل الامتيازات الممنوحة للأسرى. لكن، خشية انفجار الأوضاع الأمنية، تأجل تنفيذ قرارات بن غفير. وجاءت أحداث 7 أكتوبر لتزيل أي عائق يحول دون التضييق على الأسرى والتنكيل بهم. فقامت السلطات 'الإسرائيلية' بفرض جملة من الإجراءات التنكيلية ضمن سياسة العقاب الجماعي القاسية اللاإنسانية التي تصل حد التعذيب التي يمر بها الأسرى الفلسطينيون، مع فقدانهم كل إمكانية للدفاع عن أنفسهم والحصول على إجراءات عادلة.

وفي إشارة إلى التضييق على الأسرى الفلسطينيين، فقد تم إتباع سياسة «الحد الأدنى»، إذ أعلنت «مصلحة السجون 'الإسرائيلية'»، في تاريخ 17/10/2023، حالة طوارئ في السجون، وأكدت المفوضة العامة للسجون تقليص شروط المعيشة للمصنفين أمنيًا، وأن «ما كان سابقًا في سجون الأمنيين لن يكون بعد اليوم». في حين يُعرّف معتقلو غزة (بعد 7 أكتوبر) كـ «مقاتلين غير شرعيين»، يخضعون مباشرة للجيش وليس لمصلحة السجون، إذ تمنع 'إسرائيل' أي تواصل معهم عن طريق الصليب الأحمر أو المحامين، ولا تُصرّح بأسمائهم أو ظروف احتجازهم، وحين يتم إحضارهم أمام قاض يتم ذلك من دون محام وعن طريق الفيديو كونفرنس.

واستنادًا إلى تقارير حقوقية، فإن الأسرى الفلسطينيين في السجون 'الإسرائيلية'، يتعرضون بشكل يومي لأبشع صنوف العذاب والانتهاكات والتجاوزات. مع أهمية التأكيد أن الهجمة على الأسرى الفلسطينيين وما يتعرضون له من انتهاكات جسيمة تطاول حقوقهم الأساسية، موجودة منذ بداية الاحتلال. ولم تكن حياة الأسرى الفلسطينيين داخل السجون «فندق سبع نجوم»! لكن بعد 7 أكتوبر، الظروف والممارسات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون فاقت وتجاوزت كافة الأعراف والمواثيق الدولية والإنسانية، وفي مقدمتها القانون الإنساني الدولي، و"اتفاقية جنيف الرابعة"، ومبادئ حقوق الإنسان، و"النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية".

ومن الجدير ذكره إلى أن كل ما يُعرف عن معاناة الأسرى، من تعذيب واعتداءات جسيمة، مصدره شهادات أسرى مفرج عنهم أو زيارات المحامين للأسرى في السجون، وما يُكشف ضمن هذا الجانب ليس إلاّ جزءاً بسيطاً من الواقع الذي يتعرض له الأسرى، لأن كثيرين منهم يمتنعون من الإدلاء بشهاداتهم، سواء للمحامين داخل السجون، أو بعد الإفراج عنهم، لأنهم يتلقون تهديدات مباشرة من السجانين بالعقاب في حال أفصحوا عمّا يتعرضون له في السجون. وقد تعرض العديد من الأسرى للتعذيب داخل السجون لأنهم أخبروا المحامي أو القاضي 'الإسرائيلي' في أثناء المحاكمات بما يتعرضون له.

مجمل الأوضاع التي يعاني منها الأسرى تسببت بتدهور حالتهم النفسية والصحية، وانتشار الأمراض المعوية والجلدية والتنفسية فيما بينهم، وتهديد حياة الأسرى المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة ويحتاجون إلى تغذية جيدة تتناسب مع حالتهم، مثل مرضى السكري وضغط الدم. ويترافق هذا مع الحرمان من الحق في العلاج والدواء والرعاية الصحية، ما يعني أن الأسرى يواجهون خطراً حقيقياً يهدد حياتهم. فمنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى تاريخ نيسان 2025، استشهد العشرات في سجون الاحتلال بسبب التعذيب والإهمال الطبي وتردي أوضاعهم المعيشية، معظمهم من أسرى غزة. وعلى الرغم من عدم دقة الأرقام عن عدد ممن استشهدوا نظراً إلى إخفاء سلطات الاحتلال أوضاع الأسرى في السجون، فإنه العدد مرشح للزيادة بسبب تعرض الأسرى لإصابات وأمراض متعددة تؤثر في حياتهم بعد خروجهم من السجن. ولذلك، يحتاج الأسرى إلى جهود دولية وتحرك على كافة المؤسسات الحقوقية والمنظمات الإنسانية والصليب الأحمر لإنقاذهم من الخطر الداهم الذي يواجههم.

ومن الواضح أنهم فقدوا قدرتهم النضالية داخل السجون، وقدرتهم على خوض إضرابات جماعية أو فردية احتجاجاً على تردي أوضاعهم، بسبب حالة القمع الإجرامية، ويقينهم بأن سجاني الاحتلال لن يترددوا في قتلهم إذا اتخذوا أي خطوة نضالية. وعليه، فإن مصير الأسرى وتحسن أوضاعهم مرتبطان بتفاعل الشارع الفلسطيني مع قضيتهم، من خلال تحرك شعبي ورسمي وعلى كافة المستويات، لأن هذا العامل كان الرادع للاحتلال لعدم استفراده بالأسرى قتلاً وتعذيباً وتجويعاً.

 

الأيقونة مروان البرغوثي: سيادة الأسير

بقلم: فراس الطيراوي

في الذكرى الـ(24) لاختطاف القائد الرمز مروان "أبا القسام" الصامد في السجون والزنازين نقول: فلتكبر يا جسر العودة أكبر أكبر.. وليقضِ الشجعان.. ولتبتر سيقان.. وليسجن فرسان أكثر أكثر.. فالبند سنرفعه والحق سنرجعه والمهر سندفعه أكبر أكبر. فجذور البطل العملاق الضارب في الأعماق تزداد رسوخًا في الأرض وتنمو. تعلو. تخضر وتورق كي توقف بالعزم الإعصار المأفون الأحمق... في قفص السجان غضنفر.. فبمثلك يا أيها القائد مروان نفخر.. والعهد بأن نمضي في الدرب ونبني أعمدة الجسر الأكبر كي نعبر حيث بلادي للوز والزيتون وللكرم الأخضر. المجد يركع لك أيها القائد مروان ولكل أسرانا البواسل وأسيراتنا الماجدات الحرائر في الباستيلات الصهيونية، فأنتم الثوار الحقيقيون، أنتم الأحرار رغم السجن والسجان، أنتم الأمناء على عروبة فلسطين وحريتها، أيها المرابطون في الخنادق الأولى للأمة المجيدة، يا مدرسة الحرية والنضال والفداء، أيها المتجذرون في أقداس فلسطين، وأيام فلسطين، وأحلام فلسطين، يا فخر الأمة وفخر أحرارها، أنتم تمتلكون قوة الحضارة وتمتلكون التاريخ.. وتصنعون مجد الأمة وتكتبون حكاية شعب. أنتم صوت فلسطين وصوت الوطن الذي يعيش فينا، أنتم إرادة الإنسان الفلسطيني الذي لا يركع إلا لله رب العالمين، وإرادة الإنسان الفلسطيني الصامد التي لا تُقهر والرافضة لكل الوصايا والتبعية والخنوع. رغم ظلام السجن وعتمة الزنازين فلا بد أن يأتي اليوم ويزول الاحتلال وتشرق شمس فلسطين وتبيض السجون ويرفع شبل من أشبالنا أو زهرة من زهراتنا علمنا فوق مساجد القدس وكنائسها. هم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا وما على الله ببعيد وإن الصبح لقريب.

 

أهمية الوحدة الفلسطينية في زمن الإبادة لتعزيز صمود الأسرى

بقلم: د. مازن صافي

إلى إرث النضال الفلسطيني.. إرثنا الذي نفاخر به ونفتخر... إلى قادتنا الأبطال في المعتقلات الصهيونية.. أسرانا البواسل.. إلى من يعلموننا كيف التلاحم والوحدة والصبر على البعاد وهم الأقرب لقلوبنا جميعًا.. إلى أسرانا البواسل نقولها معكم كلمة صدق ووفاء وإباء.. إن ما نحتاجه اليوم هو الإيمان الصلب بأن هويتنا الفلسطينية لا تقبل القسمة على الانقسام وعلى التشرذم.. ونطالب كما تطالبون بأن ينتهي الانقسام فورًا، كي لا نمنح عدونا البغيض الظالم إمكانية أن يبعث في نفوسنا اليأس والإحباط أو يوزع علينا شهادات الحفاظ على أمنه، كي لا يتهرب من مسؤولياته أو يتعجرف بالقول إنه لا يجد هناك شريكًا فلسطينيًا.. إن كل يوم يمر عليكم يوطد جذور قناعاتنا بأن ضريبة الوطن غالية.. ومعًا نوطد جذورنا ونرسخها في هذا التراب الطاهر الغالي فلسطين.. هذا التراب الذي رويناه بدمائنا.. وشهدنا فيه على ارتقاء شهدائنا إلى عليين وتألمنا لِجراح جرحانا ومصابينا شفاهم الله جميعًا.. إليكم في الحركة الفلسطينية الأسيرة.. وإلى كل الأسرى نهتف قولا ونتواصل فعلاً: أنتم الأحرار الحقيقيون.. وإن هذا الأسر مهما طال فلا بد له أن ينتهي.. ومهما بدا الليل المظلم طويلًا وثقيلًا... سوف يبزغ الفجر حتمًا.. لن يدوم السجن إلى الأبد.. ولن يُخلد السجانون.. ونقول لهم معتقلاتكم عرين أسودنا.. يا كل أسرانا الأبطال الصابرين في سجون الاحتلال... ها أنتم تمهدون بثباتكم وصبركم ومقاومتكم الطريق إلى الحرية.. طريق الحرية المفروش بالدماء والعرق والدموع والبرد والحر وكل أوجاع الغربة والأسر، ومن خلف القيد والقضبان تكتبون رسالة الوطن كل الوطن.. وكيف لا وأنتم الأقرب إلى القدس.. الأقرب لقهر العدو بكل إبداعاتكم وتماسككم ووحدتكم وإصراركم الأسطوري لنيل حقوقكم.. ويؤسفنا أن نعلن صراحة أننا غارقون هنا في عتمة الانقسام في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة المحاصر.

ولطالما كتبنا وتحدثنا وصرخنا وتوحدت حناجركم مع حناجرنا.. أيا صناع القرار الفلسطيني.. أيا قادة الشعب الفلسطيني.. الاحتلال الصهيوني يتغطرس جاثمًا على صدر فلسطين وقدسها، يعبث بقداستها، ويشوّه وجهها ويقتل ويبيد البشر والحجر والشجر، ويفرض على أهلها القوانين التعسفية الظالمة... يهدم بيوتها ومساجدها وبكل وسيلة يراد لها أن ينسلخ الفلسطيني عن رسالته وهويته.. علينا أن نخجل من أسرنا في معتقلات التعذيب والقهر.. وأن نقول للعالم إن العدو "إسرائيل" ثارت ثائرته من أجل أسراه، فيما آلاف أسرانا داخل السجون الإسرائيلية.. ونتساءل معكم هل الانقسام أصبح من المتعذر أن ينتهي؟ وهل باستمراره يمكننا أن ننتصر لقضية أسرانا ومطالبهم اليومية العادلة؟ ومن جهة أخرى نصرخ وبحرقة لماذا لا يثور كل العرب في أروقة القرار السياسي حيال ما يجري في فلسطين من حرب الإبادة لأمهاتنا وآبائنا وأطفالنا وشيوخنا ونسائنا وبيوتنا؟

أسرانا البواسل: أعلم أن حالكم وأحوالكم تغني عن المقال، ومهما كتبت فلن أصل إلى الإحساس الحقيقي بما تعانون.. لكن لربما أكتب لنفسي ولأهلي ولشعبنا ولقيادتنا الفلسطينية ولكل قادة الفصائل الفلسطينية ولكل جمعيات حقوق الإنسان في العالم أجمع.. إن السجن والاعتقال يجعل من الزمن أمرًا ثانويًا لكنه أساسي بمعنى.. حيث يُفقَد الإحساس بالزمن بعد فترة من الاعتقال، لكن الأسير يبقى مرتبطًا داخليًا بالفترة الزمنية التي فرضت عليه ظلمًا وتعسفًا ليقضيها في المعتقل.. والإحساس القوي الذي ينتابهم هو إحساس الشك بأن هناك من يهتم بهم وقضاياهم أو يعمل حقيقة على إنهاء مشاكلهم واعتقالهم.. ومع ذلك فهم يحولون الظلم الذي يقع عليهم إلى قوة يبنون بها شخصياتهم وقناعاتهم.. فنرى الأسير المحرر قد اختلفت رؤياه وثقافته وقوة عرضه عن ما قبل الأسر... وبهذا يثبتون أن الأسر هو جامعة لتخريج قادة للوطن وإعادة رسم الثقافة الفلسطينية انطلاقًا من الحقوق والثوابت والمعرفة والإرادة والفعل وتنمية الوعي السياسي.. وأنا على يقين تام أن كافة المعتقلات هي جامعات وطنية بل يتواجد فيها غالبية رجالات دولتنا الفلسطينية القادمة.. فإرادة الأسرى فولاذية وطنية ثابتة.. وهم يواصلون عملهم النضالي من خلف القضبان ولم ينقطعوا يومًا واحدًا عن الحدث الفلسطيني.. وهنا لا بد أن نرسل بتحياتنا وتقديرنا للحركة الأسيرة التي لها الدور المشهود في الحياة السياسية الفلسطينية.. فلقد كانت وثيقة الوفاق الفلسطيني نموذجًا لقيادة الحركة الأسيرة لأخطر القضايا الداخلية.. ويجب ألا ينسى أحد أن للحركة الأسيرة دورها المشهود في كل انتفاضات فلسطين.. فكانت شعلة التفجير لانتفاضتنا الكبرى المباركة (1987)، وانتفاضة الأقصى. نحن اليوم بحاجة ماسة إلى دور الحركة الأسيرة في ترسيخ الوحدة الفلسطينية عبر وثيقة جديدة تدعم إنهاء الانقسام وصيانة الكرامة الفلسطينية وتحشد الجماهير نحو قرار الدولة الفلسطينية المستقلة... الحرية كل الحرية لأسرى الحرية.. وحتما إن النصر آتٍ لا محالة.. وإن فجر الحرية ليس ببعيد.. فحرية أسرانا قادمة ودولتنا الفلسطينية قادمة.. واللقاء قريب وقد زال الاحتلال ورفرفت أعلام فلسطين فوق قدسنا عاصمة دولتنا المستقلة... فالمعتقلات كما الاحتلال إلى زوال إن شاء الله..

 

ابن غفير يتحالف مع إمبراطورية السكابيوس المظفّرة؟!

بقلم الأديب الأسير المحرر: وليد الهودلي

اِبن غفير ومن معه من الزعامة الصهيونيّة اليمينية المتطرفة، فكّروا وقدّروا وقرّروا أن يتحالفوا مع إمبراطورية السكابيوس التي تقطنها حشرات السوس المرعبة، وهم بذلك على أمل أن يتمكنوا من هزيمة المعتقل الفلسطيني الذي عجزوا عن هزيمته منذ عقود من زمن الاحتلال الأسود. كان لا بدّ لهم من أن يوكلوا لهذه الإمبراطورية كلّ المهام القذرة، وكان لا بدّ من هذا التحالف لإقامة خط إنتاج قويّ يلحق بالعدوّ المشترك أشدّ أنواع الأذى، يدمّر مقوّمات قوتهم ويشغلهم بحكة جلديّة لا تبقي ولا تذر ولا تتيح لهم أيّ مجال للتفكير أو النظر. واتفقوا على أن يضعوا الأخلاق البشرية جانبًا وحتى المشاعر الإنسانية عليهم أن يتخلّوا عنها بالكامل وأن يتحلى الطرفان بقيم وأخلاق حشرة السوس، لأنها الأجدر والأفضل وهي التي من شأنها أن تكون خير تعبير عن مكنونات الطرفين المتحالفين، فالمطلوب من جماعة بن غفير ومن معه أن يتنصّلوا من كلّ القيم الإنسانية وهم كذلك، إلا أنّ عليهم أن يتقنوا قيم الحشرات السوسية، وبهذا فقط يستطيعون إلحاق الأذى المطلق بالفلسطيني الذي لا يتعدّى كونه حشرة مارقة عدوانيّة برأيهم، فلماذا لا نحتكم إلى هذه القيم الشرنقية؟ بها فقط نحقّق أهدافنا الصهيونية العظيمة مع هذا الإنسان الذي ضاقت معه كلّ الحيل!

لم يكتفِ ابن غفير بما تفتّقت عنه عبقريته من سوم المعتقلين سوء العذاب بكل صنوفه الغريبة من إذلال وضرب وتجويع وحرمان من أبسط الحقوق وضرب لكل التفاهمات المسبقة بعرض الحائط، بل وصل إلى أن يتحالف مع جراثيم مرض السكابيوس ليوظّفها في مصلحة السجون كفرقة إضافية من الفرق العاملة، ثم يطلق لها العنان ليفتك بالمعتقلين وليكون أشدّ الفرق بأسا عليهم. اتفق الطرفان أن يكونوا يدًا واحدة وأن يحكموا الوثاق ويهاجموا بكلّ شراسة، خاطبهم بلغته العنصرية الحاقدة، وطلب منهم أن يستحكموا ويزرعوا مستوطناتهم الجرثومية في كل مكان من أجسام المعتقلين كما يفعل المستوطنون بانتشارهم "العظيم" في الضفّة الغربية، يعربدون ويرهبون ثم يصادرون من الأراضي قممها وما يحلو لهم فيها، ليقيموا مستوطناتهم على أنقاض البيوت الفلسطينية. طلب ابن غفير من حشرة السوس أن تستفيد من تجربة حليفهم الاستيطانية، وأخذهم جولة في الضفة الغربية كي يجيدوا إقامة المستوطنات السكابيوسيةّ في أجساد المعتقلين، وأخذهم جولة على قطاع غزة وشمال الضفة وأراهم كيف يدمّر حليفهم وكيف يصنع المجزرة والمقتلة والنزوح والتهجير وكيف يوسّع من مساحة المقبرة، وأراهم كيف يدمّرون المستشفيات ولا يتركون مجالًا للصحة ومعالجة من نجى من الموت والقصف والحرق، وأراهم كيف لا يبقى أيّ اعتبار لرحمة بطفل أو مسن أو امرأة، هي الحرب دون شفقة أو مرحمة.

تعلّمت القوات الضاربة لحشرات السوس من حليفها كيف تكون المعركة، استأسدت وضربت أجسام المعتقلين لتقيم فيها كل ما فظّع حليفها في قطاع غزة والضفة ولبنان وسوريا، هو هناك يقصف بصواريخه وهي في أجساد المعتقلين تنشب أنيابها وتضرب بمخالبها لتزرع آلامها بكل ما أوتيت من قدرات هائلة على التوحّش وصناعة المجزرة. وتعلّمت منه ضرب المشافي لتضرب كلّ إمكانات العلاج، ضربت الخلايا حديثة الولادة كما ضربت جذورها في الأعماق وراحت تدمّر كلّ مقوّمات الحياة لصغيرها وكبيرها.

وكان لحليفها أن يوفّر لها كل مقوّمات النجاح، حدّ من استخدام المياه وحجب عنهم المنظّفات ووفّر البيئة المكتظّة التي تساعد قوات حليفه في الانتشار السريع، وضرب كلّ محاولات وصول المساعدات من أغذية وطعام وشراب تمامًا كما يفعل في غزة. وحتى اللباس وكلّ ما من شأنه أن يلحق أيّ ضرر في قدرات الانتشار لقوات حليفه السكابيوسيّة، الملابس الداخلية أوقفها ومنع وجودها بكلّ قسوة وإجرام، ومنع أيّ محاولة ذاتية لتفادي هذا الخطر الداهم من قبل المعتقلين وتعرّضهم للشمس أو التهوية الصحية، كل ذلك يحدّ من خطط حليفه فكان لا بدّ من منعها ووقفها وقوفًا تامًّا.

أقول: لا بدّ من فضح هذا التحالف المقيت بين بن غفير وهذه الحشرة المسعورة التي فتكت بأسرانا، ولا بدّ من المقارنة بين رعاية أسرانا ورعاية أسراهم رغم الفارق المذهل في الظرف، إلا أنه الفارق المذهل بين أخلاقنا وأخلاقهم. الأمر جدّ خطير وفيه ما فيه من المعاناة القاسية والألم والجريمة الطبية التي تفضي إلى الموت أحيانًا كما شخّصت تقارير التشريح لبعض من استشهد أخيرًا في السجون، وحتى من أطلق سراحهم أصبحوا يعانون بشكل دائم لاستفحال المرض في أجسامهم وصعوبة العلاج حتى بعد إطلاق سراحهم.

 

شهداء خلف القضبان.. قافلة الأسرى الذين ارتقوا بعد 7 أكتوبر 2023

تقرير: إعلام الأسرى

منذ السابع من أكتوبر 2023، دخلت الحركة الأسيرة الفلسطينية مرحلة جديدة من القمع الممنهج والمجازر البطيئة. تصاعدت الانتهاكات داخل سجون الاحتلال، فتنوّعت بين التعذيب الوحشي، الإهمال الطبي، وسياسات التجويع والعزل، ما أدى إلى استشهاد عدد غير مسبوق من الأسرى في فترة زمنية قصيرة. لم تعد الزنازين أماكن احتجاز فقط، بل تحولت إلى غرف إعدام معلن ومقابر صامتة. في هذا التقرير، نرصد بعض أسماء شهداء الحركة الأسيرة الذين ارتقوا منذ اندلاع الحرب، وظروف استشهادهم.

الأسرى الشهداء وملابسات استشهادهم:

• الأسير الشهيد عمر دراغمة: 58 عامًا، من مدينة طوباس لم يمر سوى يومين على اعتقاله في سجن مجدو حتى استُشهد تحت التعذيب بتاريخ 23/10/2023، كان سليمًا معافى قبل اعتقاله، ليرتقي سريعًا ضحية للضرب المبرح والإهمال.

• الأسير الشهيد ثائر أبو عصب: 38 عامًا من مدينة قلقيلية، استشهد تحت التعذيب بتاريخ 18/11/2023.

• الأسير الشهيد خالد الشاويش: 53 عامًا من مدينة طوباس، استشهد بسبب الإهمال الطبي المتعمد بتاريخ 19/2/2024.

• الأسير الشهيد عاصف الرفاعي: 21 عامًا من مدينة رام الله، استشهد بسبب الإهمال الطبي المتعمد بتاريخ 29/2/2024.

• الأسير الشهيد محمد وليد علي: 45 عامًا من مخيم نور شمس في مدينة طولكرم، استشهد بتاريخ 4/12/2024 بعد مرور أسبوع على اعتقاله ونقله للتحقيق في مركز تحقيق الجلمة، لم يعاني من أي مشاكل صحية. استشهد في مستشفى رمبام بسبب التحقيق القاسي والتعذيب من قبل إدارة الاحتلال.

• الأسير الشهيد عز الدين عبد البنا: 40 عامًا، من مدينة غزة، رغم إعاقته الحركية، لم يُوفَّر له العلاج داخل سجن الرملة، فكان الإهمال الطبي سببًا مباشرًا في استشهاده بتاريخ 24/2/2024.

• الأسير الشهيد عدنان البرش: رئيس قسم العظام في مشفى الشفاء، من سكان مدينة غزة، اعتقل في ديسمبر 2023 خلال تواجده في مستشفى العودة في جباليا، تحمل التعذيب حتى سقط شهيدًا داخل سجن عوفر بتاريخ 19/4/2024.

• الأسير الشهيد مصعب هنية: 35 عامًا من مدينة غزة، اعتقل من مدينة حمد بتاريخ 3/3/2024، لم يكن يعاني من أي مشاكل صحية، استشهد في 5/1/2025 تحت وطأة التعذيب المتواصل والإهمال الطبي.

• الأسير الشهيد مصطفى أبو عرة: 63 عامًا من مدينة طوباس، مسن تُرك يصارع المرض دون أدنى رعاية حتى استشهد بسبب الإهمال الطبي بتاريخ 25/7/2024، رغم اعتقاله الإداري.

• الأسير الشهيد رأفت أبو فنونة: 33 عامًا من مدينة دير البلح في قطاع غزة، جُرح خلال اعتقاله بعد السابع من أكتوبر، ولم يُكشف عن تفاصيل وضعه الصحي حتى الإعلان عن استشهاده في سجن عوفر بتاريخ 26/2/2025.

• الأسير الشهيد علي البطش: أسير مسن من غزة، توفي في سجن النقب في مارس 2025 بسبب الإهمال الطبي، بعدما قضى سنوات من العذاب بين الجدران.

• الأسير الشهيد خالد عبدالله: 40 عامًا من مدينة جنين، استشهد تحت التعذيب الممنهج بتاريخ 23/2/2024.

• الأسير الشهيد وليد أحمد: 17 عامًا من مدينة رام الله، طفل أسير قُتل بالإهمال الطبي في سجن النقب بتاريخ 23/3/2025، جريمة بشعة بحق طفولة سُجنت وقُتلت دون ذنب.

• الأسير الشهيد مصعب عديلي: 20 عامًا من أوصرين في نابلس، استشهد نتيجة التعذيب والإهمال بتاريخ 17/4/2025، قبل أيام من انتهاء محكوميته داخل سجن الاحتلال.

• الأسير الشهيد ناصر ردايدة: 49 عامًا من مدينة بيت لحم، اعتُقل في سبتمبر 2023، ونُقل إلى مستشفى هداسا حيث استُشهد في أبريل 2025 وسط ظروف صحية غامضة.

احتجاز الجثامين: مذبحة بلا أسماء

لا تنتهي الجريمة عند حدود الموت، إذ يواصل الاحتلال احتجاز جثامين أكثر من 74 شهيدًا، بينهم 65 من الأسرى الذين استشهدوا بعد السابع من أكتوبر. يُمنع ذووهم من وداعهم، وتُحتجز أجسادهم فيما يسمى "مقابر الأرقام" أو أماكن غير معلومة، لتكتمل فصول المأساة بجريمة إنسانية مضاعفة.

إحصائيات موجعة:

منذ عام 1967 استشهد 302 أسير فلسطيني داخل سجون الاحتلال:

· 111 نتيجة التعذيب.

·  105 بسبب الإهمال الطبي.

·  79 نتيجة القتل العمد.

·  7 نتيجة إطلاق نار مباشر داخل السجون.

إن دماء الأسرى الشهداء لن تُنسى، فهي وصمة في جبين الإنسانية، وصوت الحق الذي لن يسكت. هؤلاء ليسوا أرقامًا بل أرواح خاضت معركة الكرامة خلف القضبان، ودفعت حياتها ثمنًا للحرية. سيبقى استشهادهم منارة تُضيء درب النضال، ووصية تذكّر العالم أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع من بين أنياب القيد والظلم.

 

الشهيد الحي

بقلم: علي شكشك

شاهداً على دور الفرد في التاريخ، فقد كان يحمله ويكاد يدير دفته، يتحسس آلياته، كأنَّ التاريخ يسكنه بينما هو يسكن فقط في ضمير شعبه، ويحمله مع منافيه وطناً متحركاً وسكناً لهم أينما سكن، تلاحقه الأبصار أينما ولّى وجهه، في حصاراته التي لا تنتهي وتحليقه الذي لا ينثني، أجنحةً ونبضَ قلبٍ ووعداً متحرراً من قيود تقسيمات الزمان، فقد تحقق الوعد غداً في إشراقة الإيمان بثقة الوصول إلى ما ليس منه بدّ، فكيف للطارئين على النهار أن ينتصروا على من يملك التاريخ ويعزفه على أوتار شعبه لحن انتصار، رغم نشازاتٍ عابرةٍ ما زالت تشوش التاريخ وتفسد ألعاب الأطفال في طريقهم إلى روضاتهم الأولى وحليبهم الأول، بضعة جدارٍ عازل ومستوطنين وكهنةٍ يشرعون قتلهم بسلام، وحفنة قنابل نووية، ومدنٍ أقاموها على دفاتر مدارسهم، وأسماء استهجنوها للثغات ألسنة الطفولة، بينما هو ببساطةٍ ينبتُ معهم عشباً في سفح الكرمل، ويتجولُ في رائحة القرى القديمة والحواري العتيقة، ويهطل مع حبات المطر، ويتكاثف على أوراق الزيتون ندى، فمن ذا الذي يملك أن يمنع الندى والعشب من طقوس الصلاة، وأشبال العصافير أن تشرع أعلامها في الجليل، مثلهم زاهداً في رصانة التحاليل، ومثلهم واثقاً بالبراءة وأن صرخة الولادة أقدس من تصميم الأساطيل، وأنّ زهرةً من بينهم سترفعُ النشيد، ومثلهم يمشي على الصليب، ومثلهم يولدُ دوماً من جديد، ومثلهم ومثلهم، كأنّ حبلاً ما يشدُّهم إلى ما وراء الوعيِ أو ما قبل برزخ الولادة، كانوا يرون ما لا يُرى، ولِذا فإنه ما زال واقفاً هناك يشير مثلهم إلى كلِّ الرواية، يقول مثلهم: "يرونه بعيداً ونراه قريباً وإنّا لصادقون".

 

والد الأسير محمد أبو طبيخ: طالت غيبته ونتمنى إدراج اسمه الصفقة القادمة

تقرير: علي سمودي – جنين-القدس

صدمة كبيرة تلقاها وعاشها الأسير محمد صبيحي أبو طبيخ، عندما وصله نبأ وفاة والدته بعد رحلة انتظار لأكثر من 24 عاماً خلف القضبان، وحاليًا، يعيش والده مشاعر التوتر والقلق في ظل الحديث عن المرحلة الثانية من الصفقة وسط تشاؤمه من تكرار شطب اسمه كما حدث في الصفقات السابقة، ويقول والده "نسأل الله أن يصبرنا ويقوينا ويرفع عزيمتنا ونحن ننتظر اللحظة التي يعلن فيها الصفقة لأننا نشعر بقلق لأن الاحتلال لا يفي بالوعود". ويضيف "والدته توفيت قبل شهرين وهي تنتظر عناق وفرحة العمر بعناق محمد، ولا أريد من هذه الدنيا التي ظلمت ابني وسرقت 24 عامًا من حياته سوى رؤيته حراً في أحضاني". في مخيم جنين، أبصر محمد النور في 23-02-1980 ويعتبر الثالث في عائلته المكونة من 8 أفراد، ويقول والده مربي الأجيال صبيحي أبو طبيخ "تميز بكل شيء في حياته وسلوكه وتفكيره، خلوق وبار ومعطاء، أحب عائلته والناس وتمتع بعلاقات اجتماعية وروح إنسانية ووطنية كبيرة منحته المحبة والتقدير بمدرسته ومنزله ومجتمعه وفي سجنه بعد اعتقاله". ويضيف "منذ صغره، أحب الحياة وتقديم المساعدات وعمل الخير حتى حفظ أجزاء كثيرة من القرآن الكريم، تميز بالفطنة والذكاء وحب التعليم وصاحب طموح في الدراسات، فتعلم في مدارس الوكالة وأكمل في مدينة جنين حتى أنهى الثانوية العامة بالفرع العلمي بنجاح". يروي الوالد السبعيني أبو محمد، أن نجله لم يتوانَ عن تأدية واجبه الوطني، فإضافة لارتباطه وعشقه للدراسة، انتمى لوطنه وشعبه، عشق فلسطين ولم يتردد في العطاء بعد انتسابه لجامعة بوليتكنك فلسطين في الخليل تخصص الهندسة، ويقول "خلال عام 1999 وبعدما بدأ عامه الجامعي الثاني، اقتحم الاحتلال مكان سكنه في الخليل واعتقلوه دون معرفة الأسباب، نقلوه لأقبية التحقيق بسجن السكوبية، وبعد فترة طويلة من العزل والتعذيب، حوكم بتهمة الانتماء لحركة الجهاد الإسلامي، وبعدما أنهى محكوميته، رفض الاحتلال الإفراج عنه وحوله للاعتقال الإداري، فقضى 18 شهراً وتحرر في 05/04/2001." لم يكد يرتاح من عذابات السجن، حتى أدرج الاحتلال محمد ضمن قائمة المطلوبين، ويقول والده "استهدفه الاحتلال ولم نعد نراه بسبب الكمائن والتهديدات والمداهمات، ورغم الضغوط رفض تسليم نفسه حتى بعدما أصيب بعيار ناري في يده خلال إحدى عمليات الاحتلال، لنعيش الخوف والقلق على حياته". ويضيف "في تاريخ 2002/7/28 تمكنت الوحدات الخاصة من اعتقاله في عملية عسكرية وكمين، وواجه تحقيقًا طويلاً وقاسيًا في مركز تحقيق 'الجلمة' لمدة 100 يوم". بعد يومين فقط، وفجر تاريخ 2002/7/30 هدد الاحتلال عائلة أبو طبيخ بهدم منزلها، ويقول الوالد "اعتقال وتعذيب ابني وانقطاع أخباره، لم يشف غليل الاحتلال وحقده على محمد، وبينما كنا نعيش القلق على حياته، اقتحم الاحتلال منزلنا في المخيم وهدموه وحولوه لأنقاض. بعد عامين من اعتقاله، أصدرت محكمة الاحتلال بحقه حكما بالسجن المؤبد مرتين إضافة لـ (15) عامًا، وهذا الحكم ظلم وإجحاف بحقه، فقد كان عمره 22 عامًا لدى اعتقاله، وبقينا محرومين من زيارته نحو أربعة أعوام". ظروف التحقيق والاعتقال أثرت على صحة الأسير محمد، ويقول والده "أصبحنا نتنقل بين مؤسسات حقوق الإنسان والأسرى دون جدوى، الاحتلال منعنا من زيارته، في نفس الوقت أهمل علاجه بعدما أصبح يعاني من حصوة والتهاب في الإثني عشر وأزمة في الصدر". ويضيف "قدم أوراقه الطبية لعيادة السجن على أمل علاجه ولكن المدة تطول وتطول ويبقى ينتظر ويعاني حتى يأتي دوره في العلاج الذي يقتصر على المسكنات". انخرط محمد في واقع الحركة الأسيرة التي شاركها معارك الأمعاء الخاوية، كما أكمل تحديه بالتعليم والشهادات العلمية والكتابة والمطالعة، ورغم الحكم استمر الاحتلال بفرض العقوبات عليه وخاصة العزل. ويقول والده "بعدما قطع الاحتلال عليه الطريق بمطاردته وتحويله من طالب علم لأسير وحرمانه من إكمال دراسته الجامعية، حصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصاد، وبكالوريوس في التاريخ ودبلوم خدمة اجتماعية من جامعة الأقصى، كما أنه يستعد للانتهاء من دراسة درجة الماجستير. في نفس الوقت تمكن من إتقان اللغتين الإنجليزية والعبرية، بالإضافة إلى إتقانه اللغة العربية، وأصدر كتابه الأول بعنوان 'درب الصادقين'". ويضيف "دون سبب، فرض الاحتلال العقوبات على ابني وفي مقدمتها العزل، كنت أحصل على التصريح وأتحمل كل الويلات وعناء المشقة وممارسات الاحتلال لزيارته، وعندما أصل لبوابة السجن أتفاجأ أنه معاقب ومنقول، فيزداد ألمنا". ويضيف "خاض إضرابًا عن الطعام للمطالبة بإلغاء عزله، فأصبحنا نزوره كل شهر، بينما عوقبت وشقيقته بالرفض الأمني، وعندما أراه، أشاهد فيه السعادة وفجر الحرية والنور، أقاوم دموعي لكنه يمدنا بالمعنويات العالية ولم أشعره بألمي وضعفي لغيابه لحظة". يعيش الوالد أبو طبيخ حالة من التوتر والقلق في ظل الحديث عن الصفقة، رغم التفاف الأبناء والأحفاد حوله، ويقول "غيابه ترك فراغًا كبيرًا في المنزل وحياتنا سواء في الأعياد أو المناسبات، لا يوجد نكهة أو سعادة ما دام ابني الحبيب وفلذة كبدي خلف القضبان". ويضيف "عندما تزوج أبنائي وبناتي لم نفرح حتى بعدما رزقنا بالأحفاد الذين يعاقبهم الاحتلال ويرفض منحهم تصاريح، ولا يعرفون عمهم وخالهم إلا من خلال الصور". ويكمل "أتمنى له الفرج القريب وكافة أبطال الحرية، وأناشد الجهات المعنية إدراج اسم ابني ضمن لائحة الذين سيتم التفاوض حولهم أو الإفراج عنهم وتحريرهم، فقد طالت غيبتهم ولم يعد بمقدورنا أن نحتمل أكثر".

 

 487 أسيرًا مقدسيًا.. سجناء إرادة في وجه الانتهاكات الصهيونية

لا يزال مئات الأسرى المقدسيين يقبعون في سجون الاحتلال، في ظل ظروف اعتقال قاسية وإجراءات تعسفية. وأفاد أمجد أبو عصب، رئيس لجنة أهالي الأسرى المقدسيين، أن عدد الأسرى في السجون يبلغ 487 أسيرًا مقدسيًا "من حملة الهوية الزرقاء"، من بينهم 66 فتى "أقل من 18 عامًا"، بالإضافة إلى الأسيرة المقدسية تسنيم عودة. يعاني الأسرى من انتهاكات متعددة وآخذة بالتصاعد خلال الأشهر الأخيرة، أبرزها الإهمال الطبي، وسياسة العزل الانفرادي، وسياسة التجويع، والحرمان من زيارة الأهل، والقمع المتواصل داخل السجون، والذي يشمل الضرب المباشر ورش الأسرى بالغاز الفلفل، إضافة إلى حرمانهم من الحصول على الملابس الشتوية والصيفية، ومن وسائل التدفئة والتبريد، ومنعهم من أداء الصلوات الجماعية وقراءة القرآن جهرًا.

وقال أمجد أبو عصب إن 9 أسرى مقدسيين من "حملة الهوية الزرقاء" محكومون بالسجن المؤبد، وهم: أيمن سدر "أقدمهم"، وأحمد سعادة، ونصري عاصي، وفراس غانم، وحسام مطر، وضياء مطر، وأكرم القواسمي، ورائد أبو حمدية، وسهيل شقيرات. وأضاف أبو عصب أن أكبر الأسرى سنًا هو الأسير عصام عميرة، البالغ من العمر 74 عامًا، مشيرًا إلى أن هناك 3 أسرى من خطباء المساجد لا يزالون في السجون، وهم: الأسير عصام عميرة، والأسير جمال مصطفى (70 عامًا)، والأسير نعيم عودة (60 عامًا) "بتهمة التحريض".

وأوضح أن 4 أطفال أسرى يحتجزون في مؤسسات داخلية بدل السجون.

كما أضاف أبو عصب أن أعلى الأحكام على الأطفال المقدسيين هي: محمد زلباني المحكوم بالسجن 18 عامًا، ومحمد أبو قطيش المحكوم 15 عامًا، وجعفر مطور المحكوم 12 عامًا. وأفاد أن هناك 36 أسيرًا مقدسيًا قيد الاعتقال الإداري، و21 أسيرًا مقدسيًا أحكامهم (14 عامًا فما فوق)، و13 أسيرًا أحكامهم بالسجن (10 سنوات فما فوق)، و30 أسيرًا مقدسيًا (5 سنوات فما فوق). وأوضح أبو عصب أن العديد من الأسرى المقدسيين يعانون من أمراض مزمنة وبحاجة إلى علاجات فورية، كما أن هناك أسرى أُصيبوا خلال اعتقالهم بالرصاص ويحتاجون إلى عمليات ومتابعة طبية، وأبرز هذه الحالات الأسير مراد بركات (30 عامًا)، المعتقل منذ عام 2022، والذي يحتاج إلى عملية جراحية مستعجلة (أمعاؤه خارج بطنه).

ويعاني الأسرى من مشاكل صحية خطيرة أبرزها: مشاكل في العمود الفقري، مشاكل في الأسنان، مشاكل في خلايا الدماغ والذاكرة، مشاكل جلدية، ومشاكل في الجهاز الهضمي، ومشاكل في العيون، ومعاناة من مرض السكري. ومن بين الحالات المرضية في السجون، الأسير أيمن الكرد الذي أُصيب برصاصة أدت إلى إصابته بشلل نصفي. ولفت أبو عصب إلى أن بعض الأسرى المرضى هم من الأسرى الأطفال.

وأضاف أبو عصب أن 60 مقدسيًا "من الشبان والفتية" يخضعون للحبس المنزلي "بشكل كامل أو جزئي". كما أشار إلى أن هناك 6 أسرى من محافظة القدس من حملة هوية الضفة الغربية محكومين بالسجن المؤبد، وأقدمهم الأسير سمير أبو نعمة القابع في السجون منذ قرابة 40 عامًا. وتحرر في صفقة التبادل/ المرحلة الأولى 76 أسيرًا مقدسيًا من حملة "الهوية الزرقاء"، بينهم 27 أسيرًا أبعدوا خارج الأراضي الفلسطينية، و2 إلى قطاع غزة، و8 نساء، و46 أسيرًا من أصحاب المحكوميات المؤبدة مدى الحياة والأحكام العالية.

 

التنكيل والتعذيب.. الجرائم المستمرة بحق معتقلي "عوفر" و"النقب"

تقرير: صادر عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني

تواصل منظومة سجون الاحتلال ممارسة المزيد من الإجرام والتوحش بحقّ معتقلي غزة، واستنادًا لزيارات جرت لمجموعة من المعتقلين مؤخرًا كشفوا عن استمرار الاعتداءات الجنسية بحقّهم، إلى جانب عمليات الضرب المبرح، وتشديد مستوى الرقابة عليهم من خلال الكاميرات، وإذلالهم وقهرهم بكافة الوسائل والسبل. فلم تترك منظومة السّجون بحسب إفادات المعتقلين، أي أداة في سبيل سلبهم إنسانيتهم، ومحاولة كسرهم نفسيًا، ومع مرور 19 شهرًا على الإبادة، فإن الأوضاع وظروف الاعتقال ما تزال كما هي وبنفس المستوى، بل إنها تتفاقم، حيث يشكل عامل الزمن عاملًا حاسمًا على مصير المعتقلين، مع استمرار هذا التوحش بنفس المستوى.

وكان من ضمن ما عكسته الإفادات، استمرار عمليات الاغتصاب والاعتداءات الجنسية، حيث تتعمد إدارة معسكر (عوفر) تثبيت أطراف المعتقل ويقوم السّجان بإدخال عصاة مرارًا وتكرارًا في فتحة الشرج لدرجة شعور المعتقل بالاختناق بحسب وصف أحد المعتقلين، وكلما زاد ألم المعتقل وصراخه تعمد السّجان بتحريك العصاة أكثر، ويتعمدون اغتصاب المعتقل أمام معتقلين آخرين، بهدف كسره أمام رفاقه، وبث المزيد من الإرهاب بحقّهم، كما وتتعمد من خلال الكاميرات المثبتة في الأقسام وعلى الغرف، تحويل الكاميرا التي تشكل أبرز أدوات الرقابة والسيطرة داخل المعسكرات، إلى أداة للتنكيل بهم، فأي معتقل يظهر في الكاميرا أنه تظاهر بابتسامة أو أي سلوك آخر يعتبره السجان تحديًا، ثم تقوم وحدات القمع إما بالاعتداء على المعتقل بالضرب المبرح حتى يصل إلى درجة الإغماء، أو فرض عقوبات جماعية على المعتقلين من خلال التفتيش الهمجي، والإذلال إلى أقصى درجاته، هذا عدا عن عمليات الاعتداء بالضرب المبرح التي تتم في السّاحات، وخلال ما يسمى بإجراء الفحص الأمني (العدد)، حيث يجبرون على النوم على بطونهم، والاعتداء عليهم بالضرب. وفي سجن النقب وتحديدًا في قسم الخيام، فإن الأوضاع لا تقل مأساوية وصعوبة، حيث تتعمد إدارة السّجن على ابتزاز المعتقلين وإذلالهم من خلال حاجتهم لاستخدام الحمّام، ويتم إجبارهم على استخدام دلو لقضاء الحاجة، هذا عدا عن أن الأواني التي يُزوّد بها المعتقلون، تبقى معهم لمدد طويلة ولا يتم استبدالها، فتصبح رائحتها كريهة للغاية، ومع ذلك يستخدمونها. إلى جانب كل هذا فإن مرض (الجرب – السكايبوس)، منتشر بشكل واسع بين صفوف المعتقلين لقلة عوامل النظافة، ولضعف مناعة المعتقلين، ومع ذلك فإن البطانيات والفرشات أصبحت أدوات أساسية لنقل المرض، لكون أن بعض المعتقلين لا يملكون فرشات للنوم، قد اضطروا لقطع أجزاء من فرشات معتقلين آخرين للنوم عليها، ومنذ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 حتى اليوم فإن إدارة السّجن لم تسمح للمعتقلين باستبدال ملابسهم، كل ذلك ساهم في استمرار انتشار مرض (الجرب – السكايبوس)، ومقابل كل ذلك فإن إدارة السّجن ترفض تزويدهم بأي نوع من العلاج. كما لا تتوقف إدارة السجن عن عمليات الضرب والتنكيل فالعديد من المعتقلين لديهم إصابات جرّاء ذلك، حتى خلال إخراجهم إلى الزيارة فقد أكّدوا أنهم تعرضوا للضرب، والتنكيل من خلال شد القيود على أيديهم، واستنادًا لإفادة المحامين الذين قاموا بزيارة المعتقلين، فإن جميعهم يعانون من نقص حاد وواضح في الوزن نتيجة لجريمة التجويع المستمرة بحقّهم. في هذا السياق تؤكّد هيئة الأسرى ونادي الأسير، أن الاحتلال ماضٍ في إبادته وجرائمه على مرأى ومسمع من العالم، دون أي تغيير حقيقي يساهم في وقف الإبادة، والعدوان الشامل على شعبنا، وأحد أشكاله الجرائم المستمرة بحقّ الأسرى، بل إن مرور المزيد من الوقت على استمرار الإبادة، يعني أنّ حالة العجز التي تعاني منها المنظمات الحقوقية قد تجاوز هذا التعبير، وأصبح التساؤل عن جدوى وجود منظومة حقوقية واجب علينا، مع اتساع مفهوم حالة الاستثناء التي يتمتع بها الاحتلال "الإسرائيلي" على الصعيد الدوليّ. يذكر أنّ عدد معتقلي غزة الذين اعترفت بهم منظومة السجون حتى بداية نيسان/ أبريل 2025، (1747) معتقلاً، وهذا المعطى لا يتضمن المعتقلين المحتجزين في المعسكرات التابعة لجيش الاحتلال.

 

مهما طال أمد الاحتلال.. لابد للقيد أن ينكسر

بقلم: د. وسيم وني، عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين

في شهر نيسان من كل عام، يُحيي شعبنا الفلسطيني في الداخل والشتات يوم الأسير الفلسطيني، إذ اعتمد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته المنعقدة بهذا اليوم من العام 1974 باعتباره يومًا وطنيًا من أجل حرية الأسرى ونصرة قضيتهم العادلة، بحيث أصبح هذا اليوم من إحدى المحطات الهامة في تاريخ قضيتنا الفلسطينية والصراع مع الاحتلال "إسرائيلي" لما تمثله قضية الأسرى في سجون الاحتلال من أهمية. وعُدَّ محمود بكر حجازي أول أسير في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، واعتقل بعد تنفيذه ومقاومين آخرين عملية قرية بيت جبرين الفدائية، وحكم بداية بالإعدام ثم حوّل للسجن 30 عامًا، ليطلق سراحه عام 1971، بأول صفقة تبادل تتم فوق الأرض الفلسطينية عرفت بـ"أسير مقابل أسير". ويأتي إحياء ذكرى "يوم الأسير الفلسطيني" والذي يُعد يومًا وطنيًا للأسرى عرفانًا بتضحياتهم ونضالهم وصمودهم ووفاءً للذين استشهدوا ولا يزالون يستشهدون داخل زنزانات الاحتلال وما يتعرضون له من انتهاكات وممارسات منافية للقانون الإنساني الدولي ولإتفاقية جنيف الرابعة ولمبادئ حقوق الإنسان. فقد شكلت جرائم التعذيب والتجويع والجرائم الطبية والاعتداءات الجنسية ومنها الاغتصاب بمستوياتها كافة، الأسباب الرئيسية التي أدت إلى استشهاد أسرى ومعتقلين بوتيرة أعلى مقارنة مع أي فترة زمنية أخرى، وذلك استنادًا لعمليات الرصد والتوثيق التاريخية المتوفرة لدى المؤسسات والهيئات التي تُعنى بشؤون الأسرى والمعتقلين. ووفق آخر الإحصائيات فقد بلغت حصيلة الاعتقال منذ بدء حرب الإبادة على غزة 16400 حالة يتم الإفراج عن البعض منهم بعد شهور من التعذيب، من بينهم أكثر من 510 من النساء، ونحو 1300 من الأطفال. هذا المعطى لا يشمل حالات الاعتقال من غزة والتي تقدر بالآلاف، بمن فيهم النساء والأطفال. وبالطبع تواصل سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" التصعيد من عمليات الاعتقال الممنهجة ضد أبناء شعبنا الفلسطيني، والتي يرافقها جرائم يندى لها جبين الإنسانية، أبرزها عمليات الإعدام الميداني، والتحقيق الميداني، إلى جانب عمليات تنكيل واعتداءات بالضرب المبرح، وتهديدات بحق المعتقلين وعائلاتهم، وعمليات التخريب والتدمير الواسعة للمنازل، ومصادرة المركبات، والأموال، وكل ما تملكه عائلة الأسير، إضافة إلى عمليات التدمير الواسعة التي طالت البنى التحتية كما جرى في جنين وطولكرم، وهدم منازل تعود لعائلات أسرى، واستخدام أفراد من عائلاتهم رهائن، إضافة إلى استخدام معتقلين دروعًا بشرية في عمليات الإبادة الجماعية التي تمارسها سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" ضد شعبنا الفلسطيني. وفق الشهادات والإفادات من الأسرى داخل سجون الاحتلال التي نقلتها الطواقم القانونية والشهادات التي جرى توثيقها من المفرج عنهم، عكست مستوى صادمًا ومروعًا لأساليب التعذيب الممنهجة، تحديدًا في روايات معتقلي غزة، وتضمنت هذه الشهادات إلى جانب عمليات التعذيب، أساليب الإذلال غير المسبوقة لامتهان الكرامة الإنسانية، والضرب المبرح والمتكرر، والحرمان من أدنى شروط الحياة الاعتقالية اللازمة، ونجد أن الاحتلال عمل على مأسسة جرائم بأدوات وأساليب معينة، تتطلب من المنظومة الحقوقية الدولية النظر إليها كمرحلة جديدة تهدد الإنسانية جمعاء وليس الفلسطيني فحسب، وهذا ما ينطبق أيضًا على قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين. فعلى ضوء ذلك، تزداد المسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسات الحقوقية والمحامين ووسائل الإعلام وكل جهة مختصة في رفع صوت الأسرى وصرخاتهم والمطالبة بزيارتهم للاطلاع على أوضاعهم وتذكير شعوب العالم ودوله بمدى العذاب الذي يعانونه جراء انتهاك "إسرائيل" لحقوق الإنسان الأساسية، ولمبادئ القانون الإنساني الدولي وقواعده، و"اتفاقية جنيف الرابعة" التي أصبحت حبرًا على ورق في المنظور "الإسرائيلي" وكل من يدعم هذه السياسات. وأخيرًا تبقى قضية الأسرى وتحريرهم إحدى جبهات المواجهة مع الاحتلال "الإسرائيلي" الذي لا يزال في الحقيقة يأسر شعبًا بأكمله في سجن مفتوح في غزة وفي الضفة الغربية والقدس عبر الجدار العازل والحواجز التي تخنق يوميات الفلسطينيين، وسط تواصل النداءات للمؤسسات الدولية والحقوقية بالتدخل من أجل الضغط على الكيان "الإسرائيلي" بقصد الإفراج عنهم وإنهاء العدوان والاحتلال. في يوم الأسير لا نفقد الأمل، فمهما طال الزمان أو قصر، لا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر، المجد والخلود للشهداء والحرية للأسرى والأسيرات.

 

"لـــديّ حــلـم"

بقلم: حسن عبادي/ حيفا

تعرّفت على الأسير سامر عصام المحروم عبر كتابه "ليس حلماً"، زرته في شهر شباط 2020 في سجن النقب الصحراويّ –كتسيعوت-(أنصار 3)؛ أطلّ مكبّلًا بالسلاسل في يديه ورجليه، مبتسمًا، تحدّثنا عن الأمر، فقال إنّها محاولة إذلال وكسر معنويّات الأسير ولا علاقة لها بالأمن ومتطلّباته، فالإدارة تتحكّم بكلّ صغيرة وكبيرة. تحدّثنا عن كتابه الأول "دائرة الألم" وعن روايته "ليس حلماً" ودور المرأة، السجن علّمه احترام المرأة أكثر وأكثر نتاج الظلم التاريخي لها وأهميّة تحريرها لنتحرّر، علينا كسر تابوهات عديدة. يحاول الاحتلال تدمير القِيَم وشيطنة الفلسطيني عامّة والأسير خاصّة، ولهذا يطمح بأن يعيش في وطن يشعر الإنسان فيه أنّه محترم. تحدّثنا مطوّلاً عن التعدديّة وأهميّة احترام المختلف وتقبّل الآخر، فيطمح في كتاباته أن يترك بصمة إنسانيّة في الحياة، وما زالت تلاحقه وتؤرقّه مشهديّة تفجير باب بيته ساعة اعتقاله ممّا أدّى لفقدان توأمين، جنينين عمرهما خمسة شهور، ورغم ذلك حقّق حلمه وانتصر على سجّانه ليصير أبًا لياسمين وآدم رغم القضبان والزنازين، نتاج نطفتين محرّرتين. قرأت "الرواية" ثانيةً (حكاية، 131 صفحة من الحجم المتوسط، تصميم ولوحة الغلاف: أيمن حرب، الصادرة عن طِباق للنشر والتوزيع، رام الله–فلسطين) حين صادفتها أثناء ترتيب ركن أدب الحريّة في مكتبي. واجهت أحلام الأسرى بالحريّة؛ سمعتها في كتاب "أحلام بالحريّة" للصديقة عائشة عودة، وفي كتاب "للحلم بقيّة" للصديق سائد سلامة، وفي مفاتيح زنازين الصديق معتز الهيموني، وفي مقولة الصديق أحمد عارضة "مروّحين يعني مروّحين"، وراجعت شريط مئات لقاءاتي بأصدقائي الأسرى ووجدت موتيف الحلم بالحريّة مركزياً فيها، حلّق في فضاء كلٍّ منها، فوجدت الأسير يحلم بحريّة حتميّة قريبة منذ يوم اعتقاله الأوّل. "منتظراً الحرية الموعودة منذ السنة الأولى لاعتقالي ولم أخيّب نفسي يوماً بفقدان الأمل" (ص. 55) يحضّر الأسير من يومه الأوّل لبسة الترويحة، بقجته ووضع فراش النوم قرب باب الزنزانة في إشارة إلى أنّ موعد حريّته قريباً جداً.

كتب الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله في التظهير: "في كتابة السجين عن حريته أمرٌ ضروري، فكل كتابة تغدو في لحظة تشكلها انعتاقاً من السجن وقسوة السجّان، وكل كتابة هي أيضاً محاولة لتهريب الذات عبر القضبان، ليكون هناك جزء حي من السجين خارج الزنزانة، هو كتابه، الذي سيلتقي قرّاء وقارئات، ويجلس فيواجه مكتبة، ليخرج في يد من سيختاره ليقضي معه ساعات وساعات".

يحلّق الحلم بالحريّة في فضاء الحكاية "كُنا دوماً نستحضر الحلم الدائم بالتحرر" (ص.40)، يحلم ليبقى الأمل أكبر من الألم ذاته بتكسير الطوق والتحرّر، ورغم حكم المؤبد يبقى لديه الأمل بحريّة قريبة. والحلم يرافق الأسير منذ ساعة اعتقاله؛ يبدأ بالحلم ساعات وأيام التحقيق أن ينتهي منها، وحين نقله إلى الزنازين وغرف السجن يبدأ الحلم بأن يحصل على هذا الإنجاز أو ذاك من مروَحة أو مذياع أو تلفاز، أو حتى حبل صغير يعلّق عليه ملابسه الداخليّة من دون أن يقطعه لؤم السجّان. يحلم الأسير "بدأت بالعد التنازلي لذاك اليوم الذي أمسك فيه مفتاح غرفتي بيدي أُغلق وأفتح الباب كيفما أردت" (ص. 50)، وسمعت من كثير من الأسرى والأسيرات الذين التقيتهم بأنهم ينتظرون إمساك المفتاح والتحكّم به، وحين التقيت بكريم يونس، بعد أسبوعين من تحرّره وقد أمضي 40 عامًا في الأسر، وبيده مفاتيح البيت وقال لي: "شايف، هاي المفاتيح بإيدي ولمّا بنام، بنيّمهن معي بجيابي"، لأنّ المفتاح، طيلة فترة الأسر، بيد السجّان، في كلّ وقت يشاء يُصادر خصوصيّة الأسير تحت ذريعة الأمن. وجدت الكتاب نوعاً من النص السردي المفتوح (لن أغوص في التجنيس، هل هو رواية أو حكاية أو سرديّة)، يوثّق معاناة الأسرى، ويروي أحداثًا حقيقيّة، أشخاصه وأماكنه حقيقيّة، يصف تجربة خاضها، تجربة قاسية بمثابة مادة أدبية رائعة تثري النص. يؤكّد أهميّة الرسالة القادمة من العالم الخارجي بالنسبة للأسير، رغم إيمانه أنّ السجّان ينتهك خصوصيّتها ويفتحها ويقرأها لأسبابه الأمنيّة الواهية، "كلّما طالعتُ رسالةً من الرسائل وقرأت سطورها أحيا خارج حدود سجني متحدياً كل القيود والأسلاك الشائكة والوجه القبيح بكل مكوناته" (ص. 16)، وحين قرأتها أخذتني مجدّدًا للقائي بالأسيرة إخلاص صوالحة في سجن الدامون، حين وصّلتها رسائل العائلة ترقرقت الدمعة في عينيها، أخبرتني أنّ بنات غزّة "صاروا يعيّطوا لمّا وصّلتلهن سلامات من الأهل"، والرسائل التي كنت أوصلها لها أعطتها الأمل، فالرسائل للأسير نَفَس، "الرسائل بتِحييني وبتعطيني أمان، أصعب شي ع الأسير ينتَسى، وهو زيّ العطشان لمّا يشوف الميّة". يتناول محاولات الاختراق الأمني وابتزاز العشّاق للعمل لصالح الاحتلال عميلاً وجاسوسًا، فالاحتلال عدو الحب والعدو الأول للإنسانيّة. ويحمل بين طيّاته بنات أفكار صاحبه وخلاصة تجربة حياتيّة، قبل الأسر وبعده، ومن ثمّ الأسر من جديد؛ فوصل إلى قناعة مفادها أنّ "بعض السياسيين استثمروا عذابنا لتحقيق مكاسب ماديّة وملء حساباتهم في المصارف والبورصة" (ص. 120) ورغم ذلك يفضّل أن يبقى صلبًا، "صاحب الموقف الدائم والثابت أفضل من كثير ممن مواقفهم مُتقلّبة كما حال ميزان الجزر (ص. 56)، وينادي بحلّ الأمور جذريًا، لأن العلاج الترقيعي المقلوب هو الذي يجعل الجريمة مستمرّة. ينتقد سامر صمت الشارع الفلسطيني ومثقّفيه، فالصمت عار، ويناشد "السحّيجة" أن يكفوا عن التصفيق وليوقفوا الهتاف لشعارات رنّانة تُعمي أبصارهم ببريقها لكيلا تصل إلى عقولهم بمعانيها الحقيقيّة. وما أشبه اليوم بالأمس، لا رُحنا ولا جينا. ويصوّر بحرفيّة "مقاومي الرفاه": "بالأمس كانوا يقولون إن الثائر سمكة وبحرها الجماهير، ولكن بعد السُلطة تُصبح السمكة تمساحًا لا يحتاج إلى بحر، بل يكفيه مستنقعات آسنة تفي باستمرار حياته، فلا حاجة للبحر". (ص.88) نعم، باتت السياسة مُشيطنَة، بعيدة عن مصلحة الإنسان الحقيقيّة. يتناول بحرقة مقاصل الفساد والتسلط والإقصاء السياسي في الساحة الفلسطينيّة الذي بات أصعب من مقصلة الاحتلال رغم كونه كيانا دمويا بتكوينه، رغم إيمانه بأنّ كل إنسان قادر على أن يكون شريفاً وصاحب دور نضالي في هذه الحياة، كلٌّ حسب طريقته ومقدرته. يا لها من براءة جيل الانتفاضتين الذي لم يتلوّث. وجدت سامراً نصيراً للمرأة؛ فالزوجة في كل بقاع الأرض تتعلم فن الطبخ، إلا هنا في فلسطين يضاف إليها فن التحمل والصمود في وجه هذا الطاغوت". (ص. 108)، وينتقد إجبار الفتاة على ارتداء الحجاب "أعتقد أننا نُعطي الحجاب اهتماماً مبالغاً فيه كما لو أنهُ مفتاح الشرّ والآثام، إن لم يتم ارتداؤه وكل الخير عند ارتدائه" (ص. 45) ويصل إلى قناعة أن مسألة الحجاب أصبحت مسألة سياسيّة أكثر منها دينيّة، فالسياسة تطغى كثيراً على المعتقدات والقيم. ويقولها بصريح العبارة: "أنا أشجّع أولا على التربية الإنسانية للمرأة لتأخذ موقعها الطبيعي في المجتمع والذي حُرمت منه تاريخياً وما زال منقوصاً" (ص. 47). يتناول عمليّة القتل "على شرف العائلة" ويرمي بسهامه تجاه الجُناة، المخصيّين، ويصب جام غضبه عليهم لأنهم يُعلقون كل عيوبهم ونقائصهم على شماعة الضحية. ويبقى أصعب ما في السجن وأقساه أنّ الأسير عارٍ رغماً عنه أمام حقيقة السجان الباردة ويبقى كذلك طيلة فترة أسره، يطمح العدو باحتلال عقول الأسرى وسلوكهم الاجتماعي ورغم ذلك يحاول كلّ الوقت ألّا يُفرح مدير السجن وحاشيته برؤية الانكسار في داخله رغم الوجع والخيبات، ويصل إلى قناعة مفادها: "نعم لآلام الجوع وألف لا لآلام الركوع"! نعم، "خيال عن خيال بِفرِق" (ص. 69)، عذراً يا غسّان، قليل من الخيال مُجدٍ، ولكن يحذّر من الهوَس، وضروري أن يبقى صمام الأمان مع الاستمرار في حُلم التحرّر. كم جميل أن ترافقه فرقة العاشقين في زنزانته لتمدّه بالأمل:

"الله الله يا مفرج المصايب

يا مين يرد شَمل الحاضر والغايب"

ينبّه إلى تجيير الاحتلال للتاريخ والجغرافيا، وسرقته ومصادرته للحجارة، ونقلها للمستوطنات لتزوير الحقائق الحضارية والتاريخية، وينبه كذلك إلى من يبيع هذه الحجارة للاحتلال من الفلسطينيين. كم جميل أن تصل للأسير الأخبار أنّه ليس منسياً، وكم يفرح حين يخبرونه عن حفل عُرس لقريبه وهم في الدبكة والفرح يلوّحون بصورته ويُقبّلونها باشتياق. وكم هو مفجع أن يصله خبر وفاة قريب عزيز عبر المذياع! يصوّر بألم سماعه من المذيعة عبر الأثير خبر وفاة والدته يسرى، دون وداع، وسمعت هذا الوجع من أسرى كثر ممّن التقيتهم في السنوات الأخيرة. يا له من عذاب وقهر حين لا يستطيع الأسير وداع من يرحل إلى السماء ولو بنظرة من بعيد.

حظرت والدة سامر تحضير الفلافل في البيت حتى يعود، كما حظرت والدة هيثم تحضير المعكرونة، ووالدة كميل تحضير المنسف، ووالدة عنان أكلة المحشي. يصوّر سامر حالة الأسير حين يصله خبر تحرّره بصفقة تبادل، أحاسيسه ومشاعره، والتحضيرات ولمّ أغراضه من صور ورسائل وإرث عشرات السنين من قصاصات ورق ومدونات… وتوديع الرفاق من الأسرى بمشاعر تختلط فيها دموع الفرح بالحريّة والحزن على من تبقّى خلف الزنازين. يصوّر مشهديّة التحرّر والاحتفالات والاستقبال. راق لي حمله علم فلسطين بعيداً عن الفصائليّة والحزبيّة المقيتة "علم من أجله فقط أعتقل واستشهد وجُرح وأُبعد وهُجّر مئات الآلاف من أبنائه" (ص. 98) يصوّر طقس تعوّد عليه الأسير الفلسطيني ساعة تحرّره؛ يصل بلدته فيعرّج أولاً على المقبرة لقراءة الفاتحة على أرواح أحبّته الذين فارقوا الحياة منذ فارقهم إلى عالم السجن، يزور "قبر أبيه وعمته وعمه وجاره وجارته وابن بلده، الفاتحة لكل أموات فلسطين نيابةً عن كلّ سُكّان السجون" (ص. 21) كم هو جميل أن يفيق صباحيّته الأولى بعد التحرّر في حضن أمّه لتخبره بأنّه ليسَ حلماً!

وكم هو قاسٍ أن يعود لذلك المكان! حقاً الموت أرحم. نعم، عودة مُرّة. جميل أن ألتقي أصدقائي بين دفّتي كتاب؛ عاصم ووليد دقة (رحمه الله) وصالح أبو مخ وحسام شاهين وغيرهم. نعم؛ اتفق مع سامر "لستُ كاتباً ولا راوياً لكنني أحاول سرد حكايتي الممتدة على مدى خمسة وعشرين عاماً في الأسر والسجون بكل تفاصيلها" (ص. 55)، فلكلّ أسير حكاية، وننتظر كتابتها لتكتمل الفسيفساء، ويقولها بصريح العبارة إنّ الكتّاب الأسرى هم الأقدر على كتابتها من غيرهم "كل الأمم التي كانت محتلة سطّرت مقاومتها في روايات الأدباء، وتاريخنا حافل في زخم أحداث متتالية، بهذا تتوفّر التربة الخصبة للكتّاب والأدباء في تخليد تاريخنا الإنساني لأجيال قادمة، فالتاريخ يجب أن يكتب بأقلامنا نحن الذين اكتوينا بنيران الاحتلال". (ص110)، (الأسير سامر محروم معتقل منذ عام 1986، حكم بالمؤبد، وكان قد أُفرج عنه في عام 2011 في صفقة "وفاء الأحرار"، ليعيد الاحتلال اعتقاله في عام 2014، ليتحرر مرة أخرى في صفقات تبادل الطوفان). نعم؛ الحرية ليست مجرّد راية تُرفع على بناية حكوميّة، إنما تكون بالتحرر النفسي من عُقد الهزيمة التي يحاولون زرعها في الأجيال القادمة. يُنهي سامر بهدفه من الكتابة؛ "سطوري ليست نوعاً من الفنتازيا الأدبية في محاولة للظهور بموقف بطوليّ، وفقَ ما تقتضيه بعض الروايات لشد انتباه القارئ، بل هي للظهور بتواضع أمام عَظمة من ضَحوا بدمائهم على درب الحرية والاستقلال". عَنوَن مارتن لوثر كينغ خطابه الذي ألقاه عند نصب لنكولن التذكاري في 28 آب 1963 أثناء مسيرة واشنطن للحريّة "لديّ حلم"، وحلم سامر وكافّة أسرانا بالحريّة حتماً سيتحقّق!