2025.10.13



وجوه متغيرة وقالب واحد.. كيف سيطر ترند \ ثقافة

وجوه متغيرة وقالب واحد.. كيف سيطر ترند "العناق الذاتي" على صور الملفات الشخصية؟


يعيش الإنسان اليوم في زمن متسارع تُقاس لحظاته بالثواني، زمن الترندات العابرة التي تندلع فجأة لتغمر الفضاء الرقمي ثم تخبو كما ظهرت، وزمن السباق الدائم خلف كل جديد.

ولم تعد الظواهر اليوم تحتاج إلى وقت طويل حتى تنتشر، فمجرد ومضة كافية لتجعل تحديًا أو صيحة رقمية محط أنظار العالم، تسارع الجماهير إلى تجربتها وكأنها جزء من إيقاع الحياة اليومية

ومع كل ترند جديد، يهرول الناس إلى خوض تجربته، مدفوعين بهاجس اللحاق باللحظة قبل أن تفلت، وكأن التأخر عن مواكبتها يُفقدهم شيئًا من شعورهم بالانتماء إلى الجماعة الرقمية.

وإذا كانت الترندات في الماضي لا تعدو كونها تحديات يومية بسيطة، فإنها اليوم اكتست طابعًا مختلفًا بفعل الطفرة التكنولوجية.

فقد أتاح الذكاء الاصطناعي توليد الصور والفيديوهات والمضامين الإبداعية في ثوانٍ معدودة، ليطلق موجات جديدة من الترندات

ترند "الاحتضان الذاتي"

اليوم ينتشر ترند "الاحتضان الذاتي"، الذي سرعان ما اجتاح الفضاء الرقمي حتى بات من يفتح مواقع التواصل يواجه سيلًا من الصور المتطابقة: الوضعية ذاتها، والخلفية ذاتها، وذراعان يطوقان الجسد في المشهد عينه، لا يتغير منها سوى الوجوه التي تتعاقب لتملأ القالب الجاهز.

ولم يقتصر الأمر على مشاركة هذه اللقطات في خاصية "الستوري" أو المنشورات، بل اتخذها كثير من المستخدمين صورًا رئيسية لملفاتهم الشخصية، حتى غدت بمثابة أختام جماعية تُطبع على واجهات الهوية الرقمية.

هذه اللقطات توحي بأنها مقتطعة من زمن بعيد، يظهر فيها الشخص وهو يعانق نسخة طفولية منه، ويقوم هذا الترند على دمج صورتين، إحداهما قديمة من الطفولة، وأخرى حديثة، ليعيد الذكاء الاصطناعي صياغتهما في مشهد واحد يجمع بين الماضي والحاضر.

وتُنفّذ العملية عبر منصّات مدعومة بخوارزميات التوليد الصوري، مع أوامر دقيقة تضبط تفاصيل المشهد، كأن تُضفى عليه لمسة كاميرا فورية "Polaroid"، أو إضاءة خافتة، أو خلفية بيضاء بسيطة تمنحه مظهرًا واقعيًا أقرب إلى صورة التُقطت بالفعل.

وبهذه التفاصيل، ينجح النظام في إنتاج صورة متقنة تعطي الانطباع بأنها التُقطت في الواقع لا في الخيال الرقمي.

محطات في ذاكرة الترندات

لكن هذا الترند لم يكن الأول من نوعه، إذ سبقته ظواهر رقمية مشابهة، لاقت رواجا كبيرا، واعتمدت على الفلاتر وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وكلها التقت في مخاطبة الجانب العاطفي والنفسي للإنسان.

ومن بين تلك الترندات برز "فلتر الشيخوخة"، الذي جذب اهتمامًا واسعًا بقدرته على إظهار ملامح الوجوه كما لو مرّت عليها عقود طويلة.

ويقوم هذا الفلتر على خوارزميات التعلم العميق، التي تتولى تحليل أدق تفاصيل الوجه، من بنية الجلد إلى حركة العينين وانعكاس الشعر، ثم تعيد تشكيل الصورة بإضافة علامات التقدم في العمر مثل التجاعيد، والشعر الرمادي، وترهل البشرة.

ورغم ما يمنحه من محاكاة بصرية تبدو واقعية وجذّابة للعين، فإنها تبقى محاكاة احتمالية لا أكثر، إذ لا تعكس بالضرورة الشكل الحقيقي للفرد مستقبلًا، وإنما تستند إلى أنماط عامة استخلصتها التقنية من ملايين الصور المماثلة.

ويُعَدّ ترند الصور "الكرتونية" واحدًا من أكثر الظواهر الرقمية رواجًا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يحوّل ملامح الوجوه إلى شخصيات مرسومة على هيئة الرسوم المتحركة أو على غرار عوالم "ديزني" .

ولعل من بين أسباب رواجه وانتشاره، ما ينطوي عليه من بعد عاطفي رقيق، إذ استحضر في نفوس الكثيرين ذكريات الطفولة وأجواء الأفلام الكرتونية التي رافقت نشأتهم، فغدت الصور بالنسبة للبعض انعكاسًا لطفلٍ داخلي لم يزل يسكن أعماقهم.

وفي منحى آخر، برز "ترند جعل الميت يضحك"، كأحد أكثر الترندات إثارة للجدل، إذ يقوم على رفع صورة ثابتة لفقيدٍ راحل إلى تطبيقات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، فتبعث فيها حركة مصطنعة تجعل الميت يبتسم ويضحك.

غير أنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد ظهرت صيحات أخرى لاقت رواجا أكبر، حيث يعمد بعض المستخدمين إلى تحميل صورهم الشخصية مع صورة لفقيد لهم رحل عن الدنيا، ليحوّلها الذكاء الاصطناعي إلى مقطع قصير يظهر فيه الاثنان وكأنهما يلتقيان من جديد في مشهد عناق.

وما بدا للبعض لحظة عزاء رمزية ووسيلة لتخفيف ثِقَل الفقد واستعادة صلة واهية مع الغائبين، رآه آخرون مساسًا بحرمة الموتى واستهانة بذكراهم، بل وتجاوزًا لحدود الاحترام.

وزاد من حدة الجدل أنّ فئة من المستخدمين تجاهلت كليًا ما أثير حول الحكم الديني لهذه الممارسة، معتبرة الأمر مجرد تجربة تقنية عابرة لا تستحق التوقف عندها.

"ترند الاحتضان الذاتي".. حنين إلى الماضي

ويشير الأخصائي النفسي أحمد قوراية إلى أن ترند "الاحتضان الذاتي" عبر الذكاء الاصطناعي، يعكس حاجة الإنسان العميقة للشعور بالطمأنينة والأمان النفسي، وغالبًا ما يرتبط بالذكريات والحنين إلى لحظات سابقة.

ويرى قوراية أن الرجوع إلى صور قديمة أو إعادة إنشاء لحظات ماضية يمنح المستخدم شعورًا بالدفء الداخلي، وكأنه يستحضر لحظات آمنة وحنونّة تخفف من ضغط الحياة اليومية.

ويعتبر الأخصائي أن الترند يخلق لدى المستخدم تجربة تواصل مع الذات عبر الزمن، حيث يشعره بالارتباط بعواطفه السابقة. ويضيف أن الحنين يجعل التجربة أكثر عمقًا، لأن الإنسان في هذا الترند يعيش لحظات تمزج الماضي بالحاضر.

ومع ذلك، يحذر الأخصائي من الإفراط في الاعتماد على هذه الوسائل الرقمية، مؤكدًا أن التجربة الافتراضية لا يمكن أن تعوّض الاحتضان الواقعي أو التواصل البشري المباشر، وأن الذكريات والحنين يجب أن تكون جزءًا من حياة متوازنة، حيث يظل الاتصال المباشر المصدر الأهم للطمأنينة النفسية.

الخصوصية في قلب الجدل

ورغم الطابع الإبداعي الذي يمنحه "ترند الاحتضان الذاتي"، إلا أنّه يثير مخاوف جدية تتعلق بالخصوصية. فالعملية تقوم على رفع صور شخصية، قد تكون أحيانًا صورًا قديمة من الطفولة محفوظة في الألبومات العائلية، إلى منصّات رقمية تعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي.

وهذه الصور، التي تحمل جزءًا من الهوية البصرية والذكريات الخاصة، تصبح عرضة للتخزين أو الاستخدام في أغراض أخرى غير معلنة، بما في ذلك تدريب النماذج أو إعادة توظيفها في سياقات لم يوافق عليها أصحابها.

وإن مشاركة هذه الصور على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي تضاعف حجم المخاطر، حيث تُفتح إمكانية نسخها أو التلاعب بها أو حتى استغلالها في انتحال الهوية.

وهنا، يتجاوز الأمر حدود التسلية البريئة ليلامس قضايا أمنية وأخلاقية تمس حق الأفراد في حماية صورهم وذاكرتهم الرقمية.

تقرير "Times of India" وتجربة جالاك بهاواني

صحيفة Times of India – Entertainment خصصت تقريرًا للحديث عن الجدل المحيط بالترند، إذ وثّقت تجربة مستخدمة على إنستغرام تُدعى جالاك بهاواني، التي نشرت صورًا بتقنية "الاحتضان الذاتي".

وفي تجربتها، استخدمت صورة شخصية لها وهي ترتدي بدلة خضراء بأكمام طويلة، لكن الصورة الناتجة أظهرت تفاصيل لم تكن موجودة في الأصل.

والمثير في الأمر أن الصورة المعدّلة تضمنت شامة على يدها اليسرى، رغم أنها لم تكن ظاهرة في الصورة الأصلية، بل موجودة على جسدها في الواقع.

هذا الأمر أثار عدة تساؤلات حول الكيفية التي تمكن بها الذكاء الاصطناعي من تخمين هذه المعلومة الدقيقة، هل استند إلى بيانات أخرى مخزنة في خلفية المنصّة الرقمية؟ أم استحضر معطيات لم يُفصح عنها للمستخدم؟

وفي تعليقها على الحادثة، كتبت بهاواني: “مهما كان ما تقوم بتحميله على وسائل التواصل الاجتماعي أو منصات الذكاء الاصطناعي، تأكد من بقائك آمنًا”.

التقرير أشار كذلك إلى تحذيرات متزايدة من خبراء تقنيين، الذين نبهوا إلى أن بعض التطبيقات المشاركة في نشر هذا الترند تفتقر إلى سياسات خصوصية واضحة.

وأن هذه الأدوات قد تكون في الواقع وسائل لجمع صور وبيانات المستخدمين بطرق خفية، ما يجعلها تهديدًا محتملاً للأمن الرقمي.

كما فتحت الحادثة أيضًا بابًا واسعًا للنقاش حول مدى قدرة هذه التطبيقات على معالجة الصور بشكل يتجاوز البيانات المتاحة، بل وربما استنتاج أو استحضار معلومات حساسة عن المستخدم من خارج ما يقدمه مباشرة.

ويرى خبراء الأمن السيبراني أن أي تطبيق يطلب من المستخدمين رفع صور شخصية – خصوصًا صور الطفولة – يمكن أن يشكل تهديدًا مضاعفًا للخصوصية. فمثل هذه الصور تحمل قيمة عاطفية كبيرة، وقد تُستخدم في تقنيات التزييف العميق (Deepfake) أو في بناء ملفات رقمية عن الأفراد.

ورغم تطمينات بعض الشركات المطوّرة – مثل Google – بأنها تدمج آليات أمان مثل العلامات المائية وتقنيات تمييز الصور المنتَجة بالذكاء الاصطناعي، إلا أن الواقع يكشف أن تلك الإجراءات ليست كافية دومًا لردع الاستغلال غير المشروع.

تعزيز الوعي الرقمي

وأمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى تعزيز الوعي الرقمي عند المستخدمين، خصوصًا المراهقين الذين يشكلون الفئة الأكثر انجذابًا لمثل هذه الترندات.

والخطوة الأولى تكمن في إدراك أن كل صورة تُرفع على الإنترنت تصبح جزءًا من البصمة الرقمية للفرد، ما يجعلها قابلة للتداول أو التلاعب بطرق لا يمكن التنبؤ بها.

لذلك، من الضروري أن يتبنى المستخدمون مبدأ "التفكير قبل المشاركة"، كما ينبغي للأسر أن تواكب أبناءها في هذه المساحة، عبر الحوار حول المخاطر الرقمية وتقديم بدائل إيجابية لإشباع حاجاتهم العاطفية والاجتماعية.

أما المؤسسات التعليمية والإعلامية، فيمكنها أن تلعب دورًا محوريًا من خلال نشر ثقافة "السلامة الرقمية" وتضمينها في المناهج والبرامج التوعوية.

فالتعامل مع الترندات لا يعني بالضرورة مقاطعتها كليًا، بل التفاعل معها بذكاء وحذر، بحيث يستفيد الأفراد من الجانب الإبداعي والتواصلي، دون أن يقعوا ضحية للاستغلال أو التلاعب.