أبرز البروفيسور أسعد مولود، أستاذ الجيولوجيا المنجمية بجامعة العلوم والتكنولوجيا "هواري بومدين"، في تصريح لـ"الأيام نيوز" أن استغلال الليثيوم في الجزائر يشكل فرصة استراتيجية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية كبيرة، لكنه يواجه تحديات جوهرية يجب معالجتها لضمان تحقيق هذه الفرصة. وأوضح أن البناء السليم لهذا القطاع يرتكز على أربعة مرتكزات رئيسية: أولها تحديث الإطار القانوني ليواكب التطورات العالمية ويجذب الاستثمارات، وثانيها ضرورة توظيف التكنولوجيا الحديثة التي ترفع من كفاءة الاستخراج وتقلل الأثر البيئي، وثالثها معالجة ضعف التكوين الميداني من خلال برامج تدريبية متخصصة ترفع من قدرات الكوادر الوطنية، ورابعها بناء قاعدة مؤسساتية متماسكة تضمن التنسيق الفعّال بين مختلف الأطراف المعنية. وأضاف أن القانون الجديد للنشاطات المنجمية يشكل خطوة أولى مهمة، لكنه يبقى غير كافٍ إذا لم يُترجم إلى إجراءات عملية واضحة تدمج الليثيوم في استراتيجية وطنية شاملة للنهوض بالقطاع المنجمي، ما سيسهم في تعزيز مكانة الجزائر في الأسواق العالمية ودفع الاقتصاد الوطني نحو تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على موارد تقليدي.
ويرى البروفيسور أسعد مولود، أن مصادقة مجلس الوزراء مؤخراً على قانون النشاطات المنجمية يمثّل خطوة مفصلية في مسار تطوير القطاع المنجمي بالجزائر، بما في ذلك استغلال الليثيوم. ويعتبر أن هذا النص القانوني الجديد سيضع حدًّا للفوضى التنظيمية، من خلال تحديد واضح لأدوار الفاعلين، وتوفير إطار قانوني جاذب وشفاف للاستثمار.
ويؤكد أن قطاع التعدين في الجزائر، رغم ثرائه الطبيعي، ظل لسنوات رهين غياب رؤية تشريعية دقيقة، مما أدى إلى تجميد العديد من المشاريع، بما فيها تلك المتعلقة بالمعادن النادرة. ويضيف أن القانون الجديد، الذي يُعد ثالث تحيين منذ عام 2001، يأتي في سياق إعادة بعث مشاريع منجمية مهيكلة، وفتح آفاق جديدة أمام عمليات الاستكشاف، خاصة في الجنوب الكبير حيث تُسجّل مؤشرات مشجعة لوجود الليثيوم.
ويشدد البروفيسور مولود على أن أحد أبرز مكاسب هذا القانون يتمثل في خلق بيئة قانونية مستقرة تُسهم في تقليص المخاطر أمام المستثمرين، وتحفّز رؤوس الأموال الوطنية والدولية على دخول قطاع المعادن الاستراتيجية. ويرى أن مثل هذا المناخ من شأنه أن يدفع نحو تفعيل استثمارات نوعية في الليثيوم، تواكب الطفرة العالمية في الطلب على هذا المورد الحيوي.
ويؤكد على أن القانون يجب أن يُفهم بصفته إشارة سياسية واضحة بأن الجزائر جادة في تنويع اقتصادها، واستغلال ثرواتها الباطنية بشكل ممنهج، يُسهم في التحول نحو صناعات المستقبل، وعلى رأسها صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية التي يُعد الليثيوم عمادها الأساسي.
التكنولوجيا الذكية في خدمة الليثيوم والمعادن النادرة
وإذا كان القانون الجديد قد وفّر الإطار التشريعي المطلوب، فإن البروفيسور أسعد مولود يرى أن العنصر التكنولوجي هو الركيزة الثانية التي لا غنى عنها لإنجاح مشاريع استغلال الليثيوم في الجزائر. ويؤكد أن إدماج الوسائل الرقمية الحديثة في النشاط المنجمي أصبح ضرورة استراتيجية لتسريع وتيرة الاستكشاف واتخاذ القرار.
ويشدد في هذا السياق على أهمية تقنيات التصوير بالأقمار الصناعية في رسم الخرائط المنجمية الأولية بدقة، وخاصة في المناطق النائية كالجنوب الجزائري، حيث توجد مؤشرات واعدة على وجود الليثيوم. ويضيف أن هذه الأدوات تسمح بتقليص حجم العمليات الميدانية المكلفة، وتوفر معطيات مبكرة تساعد على توجيه الاستثمارات بفعالية أكبر.
كما يبرز الخبير الدور المتزايد الذي تلعبه أنظمة المعلومات الجغرافية والذكاء الاصطناعي في تحليل المعطيات الجيولوجية، بشكل يسمح باستخلاص أنماط التمعدن وتحديد الأولويات بدقة غير مسبوقة. ويؤكد أن اعتماد هذه الأدوات سيسهم في تقليص التكاليف واختصار الزمن اللازم لتطوير المشاريع، وهو ما تحتاجه الجزائر بشدة في مجال المعادن الاستراتيجية.
ويؤكد البروفيسور مولود بالقول إن تكنولوجيا الاستكشاف والتحليل أصبحت اليوم لغة عالمية في قطاع التعدين، ومن دونها لا يمكن لأي دولة أن تلتحق بركب الصناعات الذكية. ويرى أن الاستثمار في الليثيوم يجب أن يسير بالتوازي مع استثمار في البنى التحتية التكنولوجية، حتى لا يبقى المشروع رهينة الأدوات التقليدية.
تكوين ميداني متخصص..
وفي امتداد حديثه عن ركائز نجاح مشاريع الليثيوم في الجزائر، يلفت البروفيسور أسعد مولود إلى أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي، إذا لم تُدعّم بمنظومة تكوين ميداني فعالة. ويعتبر أن ضعف التكوين العملي يمثل اليوم أحد أبرز التحديات التي تعيق تطور القطاع المنجمي، خصوصاً في ما يتعلق بالمعادن الاستراتيجية التي تتطلب كفاءات دقيقة ومؤهلة.
ويؤكد أن الاستكشاف الجيولوجي والتعامل مع المعطيات الميدانية يحتاج إلى خرجات ميدانية مرافقة للطلبة والباحثين، تتيح لهم الاحتكاك المباشر بواقع الحقول والمشاريع. ويرى أن الجامعات، رغم توفر الكفاءات النظرية، لا تزال تفتقر إلى الجسور العملية التي تربطها مباشرة مع القطاع المنجمي.
ويضيف البروفيسور مولود أن استغلال الليثيوم يتطلب معرفة دقيقة بطبيعة الصخور، ومهارات في استخدام أدوات التحليل والمعالجة الحديثة، وهي مهارات لا تُكتسب إلا من خلال تجارب ميدانية منظمة. ويقترح في هذا الإطار دمج الطلبة في برامج استكشاف حقيقية، تكون مرافقة لمشاريع الدولة في الجنوب، بما يعزز التكوين التطبيقي ويخلق نخبة علمية متخصصة.
ويحذر من أن غياب التكوين العملي قد يؤدي إلى فجوة بين الطموح الوطني في تطوير شعبة الليثيوم، والقدرات البشرية القادرة على تجسيده. ويؤمن بأن الاستثمار في العنصر البشري هو حجر الأساس لإنجاح أي مشروع منجمي مستقبلي، مهما كانت الإمكانات الطبيعية أو التكنولوجية المتاحة.
من التشريع إلى التمكين... بناء قاعدة مؤسساتية لنهضة الليثيوم
وبعد حديثه عن ضرورة سدّ فجوة التكوين الميداني، يؤكد البروفيسور أن الرؤية الشاملة لتطوير شعبة الليثيوم في الجزائر لا تكتمل إلا من خلال تفعيل مؤسساتي منسّق يربط بين القانون، والتكنولوجيا، والتكوين، ضمن استراتيجية وطنية موحدة. ويعتبر أن نجاح هذا المشروع يعتمد على مدى جاهزية الدولة لتوفير بيئة مؤسساتية مرنة وفعّالة.
ويشير إلى أن القانون الجديد للنشاطات المنجمية يمكن أن يشكّل منطلقاً حقيقياً نحو هذا التمكين، إذا ما تم تطبيقه على أرض الواقع عبر أجهزة تنفيذية قادرة على مرافقة المشاريع ومراقبتها وتحفيزها في الوقت نفسه. ويؤكد أن المؤسسات المعنية بالاستكشاف والاستثمار يجب أن تتعامل مع مشاريع الليثيوم باعتبارها قضايا سيادية، لا مجرد ملفات إدارية.
ويشدد البروفيسور مولود على أن المرحلة المقبلة تتطلب تعزيز التنسيق بين الوزارات والهيئات الجيولوجية، وجعل قاعدة البيانات الوطنية للثروات المنجمية أداة محورية في اتخاذ القرار، وجذب الاستثمارات، وتوجيه الموارد. ويرى أن وضوح الرؤية المؤسسية هو ما يمنح المشاريع الاستراتيجية مثل الليثيوم الثقة والاستمرارية.
ويؤكد على أن الجزائر أمام فرصة تاريخية لا تُعوّض لإعادة هيكلة قطاعها المنجمي، والليثيوم يمكن أن يكون قاطرة هذا التحول إذا تم دمجه في رؤية مؤسساتية متكاملة. فالمعادلة الناجحة، كما يقول، تكمن في وجود المادة الخام، وأيضاً في طريقة إدارتها وتفعيل أدواتها داخل مؤسسات الدولة.