2025.10.12



من أوراق الدكتور \ ثقافة

من أوراق الدكتور "أحمد طالب الإبراهيمي".. رسالة إلى شباب الأمّة الجزائرية (الجزء الثاني والأخير)


في الملتقى الرابع للتعرّف على الفكر الإسلامي، الذي احتضنته مدينة قسنطينة في شهر أوت 1970، ألقى الدكتور "أحمد طالب الإبراهيمي" محاضرة حول دور الشباب في حياة الأمة، وتعيد جريدة "الأيام نيوز" نشرها لقيمتها الفكرية وارتباطها بفصلٍ من نضال "أحمد طالب" في استنهاض الشباب من خلال جريدة "الشاب المسلم" التي كان له فضل إصدارها في باريس عام 1952 وتوقفت بعد عامين، وجمعت نخبة من المفكرين الجزائريين: مالك بن نبي، عبد العزيز خالدي، محمد الشريف السّاحلي، محمد أعراب..

الدعائم الأربع لبناء الأمة

إن الشباب الذي نريده، ونتمنّاه لهذا الوطن العزيز، شباب يقضي أوقاته، بين المسجد والمَخبر، والبحث والتنقيب في الأرض، والتنظيم والتدريب في الثكنة، فهذه الدعائم الأربع، لا يقوم بناء أمّة إلّا عليها، وليس لها بدونها في الحياة نصيب.

أولًا: في المسجد اتصال الضمير الإنساني بالله جلّ جلاله، وهذا يقضي أن تُتّخذ العقيدة الدينية قاعدة أساسية للتربية الفردية أو الاجتماعية، وهو يحقق غاية الإنسانية، تتسم بالرغبة في إرضاء الله وحده، والتضحية بكل شيء ابتغاء وجهه الكريم، فيصبح القلب عامرا بالإيمان، وتصبح النفس راضية مرضية.

ثانيًا: في المخبر تُجرى التجارب العلمية، وتستطيع الأمة بشبابها الذين يدخلون المخابر، مجاراة الأمم الحيّة، وتلتحق بركب العلم، ومن تخلّفَ عن الرّكب خسر الدنيا والآخرة، فما له في الدنيا من نصيب، وما له في الآخرة من خلاص، وقد جاء في القرآن الكريم: "وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (القصص، الآية: 77).

ثالثًا: في البحث والتنقيب في خبايا الأرض إصلاحٌ وعمران لها، وقد جاء في القرآن الكريم: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" (الأنبياء، الآية: 105)، هذه سُنّة من سُنن الكون، أن البقاء للأصلح، أرشدنا إليها القرآن الكريم، منذ قرون، فالصالحون لعمارة الأرض، هم الذين كتب الله لهم السيادة فيها، اما الذين يعيشون فيها لهوًا وعبثا وفسادا، ليس لهم من السيادة فيها نصيب، فالصالحون إذًا هم البُناة، التُّقاة العالمون العاملون.

رابعًا: في الثكنة مدرسة لرعاية الوطن، وإذا تسلّح شبابنا بالعلم والأخلاق، والقوة والإيمان، لا ينطبق عليه قول الشاعر:

عجبًا لقومي والعدو ببابهم -- كيف استطابوا اللهو والألعاب؟

رسالة الجامعة الجزائرية

هذه بعض الخواطر حول الشباب، وفي الأزمة التي يعانيها العالم اليوم، لا بد أن نقول كلمة عن الجامعة، لأن الجامعة تلعب دورًا في إعداد الإطارات لتطوير البلاد. يدخل إليها الشباب، بعد تحصيلهم الثانوي، ليتوزّعوا على فنون العلم المختلفة فيكون منهم الاستاذ، والطبيب والمحامي، والمهندس، والعالم، والباحث، والإداري، ورجل الاقتصاد، وغير ذلك.. هؤلاء الشباب بعلمهم، وإيمانهم القوي، يسدّون الثغرات الموجودة في هذا الوطن، ويدفعون به إلى الأمام، في طريق العزة والكرامة، والحضارة التقنية الحديثة، ليكون في مصاف الأمم الراقية. ولقد توجّهتُ إلى إخواني الأساتذة والطلبة منذ سنوات، بكلمة قلت فيها:

إن الرسالة الأولى للجامعة الجزائرية، هي مكافحة التخلّف، والمهمّة في دقّتها لا يمكن أن تضطلع بها إلا الاطارات الوطنية، التي تجمع إلى جانب الكفاءة الشعور بالحاجة اليومية للعمل والنضال لتوفير وسائل الحياة الكريمة لجماهير الشعب الذي أنبتها، وبالرغم من الخطوات الكبيرة التي قطعناها إلى اليوم، في هذا الاتجاه، فإننا كلما تقدّمنا في الزمن، ازداد شعورنا بأننا ما نزال بعيدين عن الهدف، وبأنه يجب على هذه المبالغ ألّا تبقى سجينة في الخطب الرسمية، بل هي مدعوة بفضل الجامعة، والجامعة في الدرجة الأولى، إلى أن تكون كالبذرة مُتّصلة بالحياة، والنّماء، نراقب تطورها فنشذبها حينًا، ونُطعمها أحيانا، حتى يصبح أصلها ثابتا وفرعها في السماء. وإننا سنظلّ حريصين على تحقيقها مهما قلَّت وسائلنا لأن الوسائل قد تتعدّد ولكنها تبقى، وكلّها راجعة إلى وسيلة واحدة هي إرادة الإنسان.

الجامعة ومعالجة قضايا المجتمع

قُلنا إن حقيقة الرسالة التي يجب أن تضطلع بها الجامعة هي مكافحة التخلف في المجتمع، ويبدو أنه إذا كان كل الناس عندنا متفقين على هذه التسمية، فإنهم فيما يتعلق بمضمونها يذهبون مذاهب بعيدة عن الاتفاق، وأكثريّتهم ترى أن مقاومة التخلف بالنسبة للجامعة هي الاكتفاء بتكوين إطارات علمية نقارن بها خرّيج الجامعات في أوروبا، وفي العالم المتقدّم، الذي يسبقنا بمراحل بقطع النظر عن مستوانا الاجتماعي، والحضاري المتخلف، وبقطع النظر عمّا نستطيع أن نهضمه، أو لا نهضمه من الثقافة، وما نستطيع أن نستفيد منه، أو لا نستفيد، فتكون النتيجة في هذه الحالة أن تخرّج الجامعة عندنا إطارات قد تصلح للعالم المتقدّم الذي قلّدناه، ولكنها لا تصلح للمجتمع الذي نعيش فيه، والذى نتحمّل مسؤولية رفع مستواه، فمثلا، الطبيب الذي لا يقرن ثقافته الطبيّة الحديثة، بحالة شعبه الصحية، ولا يعمل على تسليط أضوائها على الهوة المظلمة التي تفصل بين مجتمعه، وبين تلك الثقافات الحديثة في مجال الصحة، ليكشف أقرب السُّبل، وأقصر الوسائل لسدّ تلك الهوة، ولا يبحث ما عند شعبه من أدوية وأعشاب صالحة وغير صالحة، ولا يلتفت إلى ما في تراثه الطبي من تجارب صحيحة أو خاطئة، هو طبيب لا يستطيع أن يؤدي رسالته العلمية، ومسؤوليته نحو مجتمعه.

والأديب أو اللغوي الذي يبقى مكتفيًّا في مجال اختصاصه بالقواعد والأساليب الرفيعة المعقدة، التي تعلّمها دون أن يهتدي بها إلى الطرق التي يسهّل بها ايصال هذه الثروة الثقافية إلى مجتمعه، ويشركه معه في مستواه الأدبي، ولا يبحث لغة شعبه وما فيها من صحيح وخاطئ، حتى يُصيّر هذه اللغة، لغة علم متطورة نامية، هو أديب ولغوي، لا يستطيع أن يؤدي رسالته الثقافية، ومسؤوليته نحو مجتمعه.

ورجل القانون الذي يتبّحر في الفقه الدولي أو القانون الجنائي المُسطّر في الكتب، ولا يسلّط معارفه القانونية على المشاكل الاجتماعية في مجتمعه، ولا يدرس بها عادات بلاده وتقاليدها، فيستخرج منها الأمراض التي يعانيها مجتمعه، ويجد لها أقرب العلاجات وأسهلها تناولا، هو رجل لا يُنتظر منه أن يكون مصلحًا اجتماعيا، أو مشرّعا..

المثقفون ومأساة الازدواجية

إن كل هذا يُطلق عليه كلمة "الازدواجية". كل مثقف عندنا يعيش هذه المأساة الازدواجية، دون أن يشعر بها شعورا إيجابيا واعيا، فيعيش ثقافته في عالم وحياته العلمية في عالم آخر، فاذا بقينا مكتفين بهذه الطرق في حياتنا الثقافية، فإن الهوّة بين المثقفين وبين مجتمعنا لن تزداد إلّا اتساعا، لأن ما تُخرجه المؤسسات الثقافية عندنا من إطارات، من هذا الطراز، سيبقى دائما أقليّة سلبية، بالنسبة للأعداد الهائلة، التي تتكوّن سنويًّا مع ازدياد المواليد.. ولكن من أين جاءتنا هذه الازدواجية؟ لا شك أن هناك أسبابًا تاريخية لعبت دورها الرئيسي وجعلتنا نأتي إلى العالم المتحضّر متأخرين عن القافلة، إلّا أن هناك سببًا آخر هو استسلامنا العقلي أمام هذا الوضع المتناقض، الذي وجدنا أنفسنا فيه، إننا استسلمنا للتيارات الثقافية الحديثة وأساليبها المُعقدة، وأدواتها الإلكترونية، ولم نحاول تسخيرها وتبسيطها لفائدة مجتمعنا..

كلمة إلى الشباب

على شبابنا أن يكونوا في مستوى الآمال المعقودة عليهم، وأن يكونوا مواطنين مؤمنين بوطنهم وشعبهم وهذا يتطلب منهم الإيجابية في العمل، فالمواطن الصالح هو الذي يدرك مسؤولياته الكبيرة التي يتحمّلها، ويعمل لإنجازها، بوحيٍ من ضمير حيٍّ، أساسه العلم والخُلق، متعاونا متكافلا مع أبناء الوطن جميعا، وأن يشعر بأنه جزء من المجتمع، ويضع مصالح الجماعة قبل مصلحته الفردية.

يا شباب الجزائر: كونوا أصحاب عقائد تعيشون لها، لا أصحاب عقائد تعيشون بها، فإن الذي يعيش للعقيدة يبقى حيًّا خالدا، ولو أخذته المنيّة منذ قرون، أما الذي يعيش بالعقيدة فهو يمشي فوق الأرض كمن دُفن تحتها..