في عمق الصحراء المترامية، وعلى امتداد حدود تفوق خمسة آلاف كيلومتر، تخوض موريتانيا معركة مزدوجة بين مقتضيات الأمن القومي وضغوط البعد الإنساني لأزمة الهجرة غير النظامية. فمع تزايد تدفقات المهاجرين من دول إفريقية نحو الشمال، تحوّلت نواكشوط إلى نقطة عبور مركزية في واحدة من أعقد الظواهر العابرة للحدود في الساحل الإفريقي.
يقول الخبير الإستراتيجي عبد الله ولد بوناه أن معالجة ملف الهجرة لا يمكن أن تتم بمعزل عن تشخيص عميق للوضع الإقليمي والقاري والدولي الراهن، باعتباره الإطار الذي أفرز ديناميات الهجرة من الجنوب إلى الشمال. ويشير إلى أن هذه الديناميات نتجت عن تداخل عوامل سياسية واقتصادية وأمنية وبيئية، أدت مجتمعة إلى رفع وتيرة الضغط على مسارات الهجرة عبر دول الساحل، وفي مقدمتها موريتانيا.
ويبيّن ولد بوناه في حديث خص به الأيام نيوز، أن موريتانيا، بحكم موقعها الجغرافي، تمثل حلقة مركزية في معادلة الهجرة الإفريقية، فهي تمتلك أطول حدود برية مع دول إفريقية تُعدّ في الوقت ذاته مصدرًا ومعبراً رئيسيًا للهجرة غير النظامية. كما أن خطوط تماسها البحرية تجعلها أقرب إلى المنافذ الأوروبية عبر جزر الكناري وشواطئ جنوب القارة.
ويضيف أن طول الحدود الموريتانية الذي يتجاوز خمسة آلاف كيلومتر — منها 750 كيلومترًا على الأطلسي مع منطقة اقتصادية بحرية تمتد على أكثر من 38 ألف كيلومتر مربع — يضاعف من صعوبة السيطرة الأمنية، خاصة مع امتداد 2350 كيلومترًا من الحدود المشتركة مع مالي التي تُعدّ بدورها مصبًا لتدفقات المهاجرين واللاجئين، إلى جانب 800 كيلومتر مع السنغال، و400 كيلومتر مع الجزائر، وقرابة 1600 كيلومتر مع الصحراء الغربية.
ويرى ولد بوناه أن هذا الامتداد الحدودي الواسع يشكل تحديًا كبيرًا أمام الحكومة الموريتانية التي لا تمتلك كل الوسائل اللوجستية اللازمة للرقابة الشاملة، ما يجعل مهمة الضبط أكثر تعقيدًا وتكلفة. ويضيف أن التعاون الأمني مع الجزائر ومالي في المدى الصحراوي ضروري لكنه لا يخلو من الصعوبات، إذ تتقاطع طرق الهجرة غير النظامية مع شبكات تهريب إقليمية ودولية للممنوعات والأسلحة والبشر.
الهجرة الموريتانية بين ضغط الداخل وإغراء الخارج
بالنسبة للخبير الإستراتيجي عبد الله ولد بوناه فإن التحديات الخارجية تتقاطع مع عوامل داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية تدفع بدورها العديد من الموريتانيين إلى خيار الهجرة. فموريتانيا باتت في آنٍ واحد بلد عبورٍ ومصدرًا للهجرة، حيث تنشط على أراضيها عصابات تهريبٍ إفريقية وآسيوية تدير أجزاء من سلاسل الهجرة غير النظامية نحو أوروبا.
أما على الصعيد المحلي، فيشير ولد بوناه إلى أن اتجاهًا جديدًا برز بين الشباب الموريتاني يتمثّل في الهجرة إلى الولايات المتحدة عبر مساراتٍ جوية محفوفة بالمخاطر. فغالبية هؤلاء يسافرون من نواكشوط إلى إسطنبول، ثم إلى المطارات المكسيكية، قبل أن تبدأ رحلة العبور الشاقة نحو الحدود الأمريكية، في مغامرةٍ تجمع بين الأمل والمخاطرة.
ويضيف ولد بوناه أن الفقر والبطالة ليسا وحدهما المحركين الرئيسيين للهجرة نحو أمريكا، بل إن هناك "الحلم الأمريكي" الذي ظلّ يُداعب مخيلة الشباب الموريتاني كما هو الحال لدى مهاجري العالم. هذا الحلم، كما يوضح، "تغذّى بما شهده بعض المهاجرين الموريتانيين القدامى من تحسّن مادي واضح"، ما جعل كثيرين يرونه بابًا للترقّي الاجتماعي السريع في ظل تعقيدات الواقع المحلي.
ويشير أن الاقتصاد الموريتاني يشهد تحسّنًا تدريجيًا وملحوظًا، غير أن أثره "لم ينعكس بعد على القوة البشرية الوطنية"، بسبب ثغراتٍ في منظومة التعليم والتكوين المهني، ما جعل فئةً واسعة من الشباب تفتقر إلى التأهيل الكافي للاندماج في سوق العمل المحلي. ويشير إلى أن "غالبية المهاجرين الموريتانيين الذين يصلون إلى أمريكا يمارسون مهنًا وحرفًا جديدة لم يكونوا يمارسونها في وطنهم، وينخرط جزءٌ كبير منهم في سوق الخدمات، مظهرين قدرةً عالية على التكيّف وتصحيح أوضاعهم القانونية حيثما استقروا".
ويتابع ولد بوناه قائلًا: "لقد تمكن الموريتانيون في أمريكا من تحسين مستويات دخلهم بشكلٍ لافت، وهو ما شجّع موجاتٍ جديدة على تكرار التجربة". ويكشف أن عدد المهاجرين الموريتانيين إلى الولايات المتحدة ناهز الأربعين ألفًا خلال السنوات الأخيرة، بينهم حملة شهاداتٍ عليا وكفاءات مهنية شابة تبحث عن فرصٍ أفضل.
وفي المقابل، يوضح الخبير أن موريتانيا تواجه في الوقت نفسه تحديًا مضاعفًا نتيجة تدفّق مئات الآلاف من المهاجرين الأفارقة القادمين من دول الجوار نحو أراضيها، ما يشكّل ضغطًا هائلًا على المدن والقرى الموريتانية، سواء على مستوى الطرق والبنية التحتية والخدمات العامة أو على صعيد الأمن والمجالين الحضري والريفي.
ويصف ولد بوناه هذا الوضع بأنه "حمولةٌ أمنية واجتماعية معقّدة تتطلب معالجةً شاملة ومتوازنة تراعي البعدين الإنساني والسيادي في آنٍ واحد".
موريتانيا.. توازن صعب بين الأمن القومي والبعد الإنساني في مواجهة الهجرة غير النظامية
يؤكد الخبير الإستراتيجي بوناه ولد عبد الله، أن موريتانيا تخوض معركة صعبة ضد شبكات تهريب المهاجرين، في وقت تعمل فيه على تحقيق توازن دقيق بين مقتضيات الأمن القومي واحترام المعايير الإنسانية والدولية.

الخبير الإستراتيجي الموريتاني عبد الله ولد بوناه
ويقول ولد بوناه إن الحكومة الموريتانية اتخذت حزمة من الإجراءات المتدرجة لمكافحة شبكات التهريب، شملت "تعاونًا أمنيًا وإقليميًا ودوليًا واسعًا، وشراكات مع الاتحاد الأوروبي وإسبانيا، إضافة إلى تنسيق أمني مع دول الجوار لتبادل المعلومات وتنفيذ عمليات مشتركة". كما تمّ "تعزيز الدوريات البحرية والبرية وتكثيف المراقبة على السواحل والنقاط الحدودية، مع إطلاق هيئات وطنية متخصصة لمكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين".
ويضيف أن موريتانيا "عملت بالتعاون مع المنظمات الدولية كـ IOM وUNHCR على برامج لإيواء وإعادة توطين أو ترحيل المهاجرين العالقين، إلى جانب تنفيذ برامج للعودة الطوعية". لكنه يوضح أن رؤية الرئيس محمد ولد الغزواني تتجاوز الحلول الأمنية نحو مقاربة تنموية أشمل، إذ "تركّز على خلق فرص عمل وتحسين الخدمات في عمق الدول المصدّرة للهجرة، باعتبار التنمية ركيزة رئيسية لوقف تدفقات المهاجرين".
ويشير الخبير إلى أن هذه الجهود أثمرت نتائج ملموسة، "منها تفكيك شبكات تهريب وتراجع أعداد المغادرين من بعض النقاط"، إلا أن الظاهرة لم تنحسر بالكامل لأن المهاجرين غالبًا ما "يحوّلون مساراتهم إلى طرق أكثر خطورة". ويضيف أن موريتانيا "تحرص على التعامل الإنساني مع المهاجرين رغم محدودية قدراتها"، مشيرًا إلى أن التقارير الحقوقية التي تتهمها بانتهاكات "مبالغ فيها وموجّهة للضغط السياسي".
ويحذّر ولد بوناه من أن "الضغوط الأوروبية، رغم تنوع آلياتها التمويلية والسياسية، لن تغيّر من ثوابت الموقف الموريتاني"، مؤكّدًا أن نواكشوط "ترفض أن تتحول إلى دولة استقبال للمبعدين أو ما يسمى بالشريك الثالث الآمن". كما يلفت إلى أن دور المنظمات الدولية الداعمة ما يزال محدودًا، حيث يقتصر على "برامج الحماية والإيواء، وبناء القدرات الأمنية والإدارية، ومراقبة حقوق الإنسان".
ويختم الخبير بالتشديد على أن تحقيق التوازن بين الأمن وحقوق الإنسان أولوية وطنية، ترتكز على إنفاذ القانون باحترام، وتدريب الأجهزة الأمنية على المعايير الدولية، وتطوير آليات رقابة مستقلة، بالتوازي مع حلول وقائية وتنموية. ويضيف أن "ملف الهجرة مسؤولية دولية مشتركة، ولا يمكن تحميل موريتانيا وحدها عبئه"، محذّرًا من أن استمرار الظاهرة دون حلول جذرية "قد يفرز أزمات إنسانية وأمنية واقتصادية متداخلة تهدد استقرار المنطقة بأكملها".